الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفغانستان: نهاية الاحتلال

سيد صديق

2021 / 9 / 10
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ترجمة سيد صديق

بقلم: جوناثان نيل ونانسي لينديسفارن

هناك الكثير من الخرافات تُكتَب في بريطانيا والولايات المتحدة عن أفغانستان، وكثيرٌ من هذه الخرافات تخفي وراءها حقائق مهمة.

هذه الحقائق هي: أولًا أن طالبان هزمت الولايات المتحدة، وثانيًا أن طالبان فازت لأنها حظت بدعمٍ شعبي أكبر، وثالثًا أن هذا ليس بسبب أن معظم الأفغان يحبون طالبان، بل أن الاحتلال الأمريكي كان قاسيًا وفاسدًا بصورةٍ لا يمكن تحمُّلها.

أما رابعًا، أن الحرب على الإرهاب قد هُزِمَت سياسيًا في الولايات المتحدة. أغلبية الأمريكيين الآن يقفون في صفِّ الانسحاب من أفغانستان ضد أيِّ حروبٍ أخرى بالخارج. وخامسًا، أن هذه بمثابة نقطة تحوُّلٍ في تاريخ العالم. لقد هُزِمَت القوة العسكرية الأعظم في العالم على يد شعبٍ في بلدٍ صغيرٍ وفقيرٍ بشكلٍ بائس، ومن شأن ذلك أن يضعِف الإمبراطورية الأمريكية حول العالم.

وسادسًا، أن سردية إنقاذ النساء الأفغانيات ظلَّت تُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ لتبرير الاحتلال، والكثير من النسويات الأفغانيات اخترن الوقوف في صفِّ الاحتلال. والنتيجة من ذلك مأساوية بالنسبة للنسوية.

توضِّح هذه المقالة النقاط المذكورة. ولأن هذه مقالة قصيرة نسبيًا، فنحن نؤكِّد على أمورٍ أكثر مِمَّا نثبتها. لكننا كتبنا الكثير عن الجندر والسياسة والحرب في أفغانستان منذ بدأنا عملنا الميداني كأنثروبولوجيَّين منذ حوالي خمسين عامًا. نقدِّم في نهاية المقالة أيضًا روابط لكثيرٍ من هذه الأعمال، حتى يتسنَّى لكم استكشاف نقاشاتنا بمزيدٍ من التفصيل (1).

نصرٌ عسكري
يُعَدُّ هذا نصرًا عسكريًا وسياسيًا لطالبان. إنه نصرٌ عسكري لأن طالبان فازت بالحرب. على مدار عامين على الأقل، كانت القوات الحكومية الأفغانية -الشرطة والجيش- تخسر كلَّ شهرٍ أرواحًا، بين قتلى وجرحى، أكثر مِمَّا تجنِّد أعدادًا جديدة. لذا كانت هذه القوى تتقلَّص.

وعلى مدار العشر سنوات الماضية، كانت طالبان تحوز السيطرة على المزيد والمزيد من القرى وبعض البلدات، وبعد ذلك استولت على كافة المدن.

لم يكن هذا تقدُّمًا خاطفًا عبر المدن وصولًا إلى كابول. كان أولئك الناس الذين سيطروا على كلِّ مدينةٍ فيما بعد موجودين في المناطق المجاورة، في القرى، ينتظرون اللحظة الحاسمة. والأمر المهم هو أن طالبان كانت تجنِّد الطاجيك والأوزبك وغيرهم في مناطق الشمال على الدوام.

وهذا نصرٌ سياسيٌّ أيضًا لطالبان. ما مِن حرب عصاباتٍ على الأرض يمكنها إحراز مثل هذه الانتصارات دون دعمٍ شعبي. لكن ربما ليس “الدعم الشعبي” هو الكلمة المناسبة. الأمر أكثر شبهًا بأن الأفغان قد حدَّدوا خياراتهم، ومَن اختاروا من الشعب الأفغاني الاصطفاف إلى جانب طالبان أكثر مِمَّن اختاروا المحتلين الأمريكيين. ليس كلَّ الشعب الأفغاني بالطبع، لكن الكثير منه.

الأفغان الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب طالبان أكثر من أولئك الذين اختاروا حكومة الرئيس أشرف غني. ومرة أخرى، ليس كلهم، لكنهم أكثر مِمَّن دعموا الحكومة. والأفغان الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب طالبان أكثر أيضًا مِمَّن اختاروا أمراء الحرب القدامى. وهزيمة عبد الرشيد دوستم في شبرغان، وإسماعيل خان في هرات، لهي دليلٌ صارخٌ على ذلك.

كانت طالبان في 2001 تتألَّف من قومية البشتون بأغلبيةٍ ساحقة، وكانت سياساتها بشتونية شوفينية. وفي 2021، استولى مقاتلو طالبان من العديد من العرقيات على السلطة في المناطق التي يهيمن عليها الأوزبك والطاجيك. الاستثناء المهم في ذلك هو المناطق التي تهيمن عليها قومية الهزارة في الجبال الوسطى. وسنعود لهذا الاستثناء لاحقًا.

بالطبع لم يختر كلُّ الأفغان الاصطفاف إلى جانب طالبان. هذه حربٌ ضد غزاة أجانب، لكنها أيضًا حربٌ أهلية. حارب الكثيرون في صفِّ الأمريكيين والحكومة وأمراء الحرب، وأكثر منهم ساوموا مع كلا الطرفين من أجل النجاة، وكثيرون غيرهم لم يكونوا واثقين في اختيار المعسكر الذي ينحازون إليه، وكانوا ينتظرون بمزيجٍ من الخوف والأمل ليروا كيف ستجري الأمور.

ولأن هذه هزيمةٌ عسكرية للقوة الأمريكية، فإن الدعوات المُوجَّهة لبايدن ليفعل هذا الشيء أو ذاك ليست إلا دعواتٍ سخيفة. إذا ظلَّت القوات الأمريكية في أفغانستان، فسوف تضطر إلى الاستسلام أو الموت. وسيغدو ذلك إذلالًا أسوأ للقوة الأمريكية عن الكارثة الحالية. وكما هو الحال مع ترامب، فقد نفدت الخيارات من جعبة بايدن.

لماذا اختار الكثير من الأفغان طالبان؟
إن اختيار الكثير من الأفغان طالبان لا يعني أن أغلب الأفغان يؤيِّدون الحركة بالضرورة، بل يعني أن هذا هو الخيار الذي اتَّخذوه بالنظر إلى الخيارات المحدودة المتاحة. لماذا؟

الإجابة القصيرة على ذلك هي أن طالبان هي التنظيم السياسي المهم الوحيد الذي قاتَلَ الاحتلال الأمريكي، وأغلب الأفغان كانوا يكرهون ذلك الاحتلال.

لم يكن الحال هكذا دائمًا. أرسلت الولايات المتحدة أولًا قاذفاتٍ جوية وبضع قواتٍ إلى أفغانستان بعد شهرٍ من 11 سبتمبر. وحظت بالفعل بدعمٍ من قوات التحالف الشمالي، وهو تحالفٌ من أمراء الحرب غير البشتونيين في شماليّ البلاد. لكن قادة وجنود هذا التحالف لم يكونوا مستعدين للقتال إلى جانب الأمريكيين. وبالنظر إلى تاريخ المقاومة الأفغانية ضد الغزو الأجنبي، وآخر غزو كهذا كان الاحتلال السوفييتي 1980-1987، كان ذلك عارًا شنيعًا عليهم.

غير أنه، على الجانب الآخر، لم يكن هناك أحدٌ تقريبًا على استعدادٍ للدفاع عن حكومة طالبان التي كانت في السلطة آنذاك. واجهت قوات التحالف الشمالي طالبان في حربٍ زائفة، ثم بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها البريطانيين والأجانب في القصف.

تفاوَضَ الجيش وجهاز الاستخبارات الباكستاني من أجل إنهاء النزاع، وكان سيُسمَح للولايات المتحدة بالاستحواذ على السلطة في كابول وتنصيب رئيسٍ من اختيارها. وفي المقابل، يُسمَح لقادة وقواعد طالبان بالعودة إلى قراهم أو الذهاب إلى المنفى في باكستان عبر الحدود.

لم يُروَّج لهذه التسوية علانيةً في الولايات المتحدة وأوروبا لسببٍ واضح، لكننا كتبنا عنها، وكانت مفهومةً على نطاقٍ واسعٍ في أفغانستان. وأبرز دليلٍ على هذه التسوية التفاوضية هو ما حدث لاحقًا. لعامين متواصلين، لم تكن هناك أيَّة مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، ولا حتى في أيَّة قرية، فيما ظلَّ الآلاف من أعضاء طالبان السابقين في هذه القرى.

هذه حقيقةٌ استثنائية. فقط قارنوا ذلك بالعراق، حيث انتشرت المقاومة منذ اليوم الأول للاحتلال في 2003. أو قارنوا ذلك بالغزو الروسي لأفغانستان الذي قوبِلَ بنفس الغضب عام 1979. لم يكن السبب ببساطة أن طالبان لم تكن تقاتل، بل أن الناس العاديين، حتى في معاقل طالبان في الجنوب، أملوا أن يجلب الاحتلال الأمريكي السلام لأفغانستان ويطوِّر الاقتصاد وينهي الفقر المُروِّع المتفشي.

كان السلام ضروريًا. بحلول العام 2001، كان الأفغان عالقين في حروبٍ طويلة امتدَّت على مدار 23 سنة؛ الأولى حربٌ أهلية بين الشيوعيين والإسلاميين، ثم حربٌ بين الإسلاميين والغزاة السوفييت، ثم حربٌ بين أمراء الحرب الإسلاميين، ثم حربٌ في شماليّ البلاد بين أمراء الحرب الإسلاميين وطالبان.

23 سنةً من الحرب كانت تعني الموت، والإصابات، والنفي، ومخيَّمات اللاجئين، والفقر، وشتى أشكال الأسى، وخوفًا وقلقًا بلا نهاية. ربما يكون أفضل عن ذلك هو “الحب والحرب في أفغانستان” (2005). كان الناس يتوقون للسلام. وبحلول العام 2001، حتى مؤيِّدو طالبان كانوا يشعرون بأن سلامًا سيئًا أفضل من حربٍ جيدة.

كانت الولايات المتحدة أيضًا غنيةً للغاية، واعتقد الأفغان أن الاحتلال قد يؤدِّي إلى تنميةٍ ربما تنقذهم من الفقر. لكنهم ظلوا منتظرين، والولايات المتحدة جلبت لهم الحرب لا السلام.

احتلَّ الجيش الأمريكي والبريطاني القواعد عبر القرى والبلدات الصغيرة في المناطق الرئيسية لطالبان، وهي المناطق البشتونية بالأساس في الجنوب والشرق. لم تُخبَر وحدات الجيش بالتسوية غير الرسمية التي تم التوصُّل لها عبر التفاوض بين الأمريكيين وطالبان. لم يستطيعوا إخبارهم، لأن ذلك كان مخجِلًا بشدة لحكومة الرئيس بوش آنذاك. لذا رأت الوحدات الأمريكية أن مهمتهم هي استئصال ما تبقَّى من “الأشرار”، الذين من الواضح أنهم مازالوا موجودين.

تواصلت المداهمات الليلية للمنازل، وإذلال وترهيب العائلات، واعتقال الرجال وتعذيبهم من أجل الحصول على معلومات. في أفغانستان، كما في مواقع أخرى سيئة السمعة حول العالم، طوَّر الجيش والاستخبارات الأمريكية أساليب جديدة للتعذيب شاهد العالم لمحةً وجيزةً عنها في سجن أبو غريب، السجن الأمريكي في العراق.

بعض الرجال الذين اعتُقِلوا كانوا ينتمون لطالبان ولم يقاتلوا من قبل. وبعضهم كانوا أناسًا خانهم خصومهم وباعوهم للأمريكيين، في تنافسٍ معهم على أرضٍ أو انتقامًا منهم لضغينةٍ ما.

تقدِّم مذكرات الجندي الأمريكي جوني ريكو، بعنوان “الدماء تجعل العشب يترعرع بالأخضر”، سرديةً مفيدةً لما حدث بعد ذلك. بعض القرويين الغاضبين من أقارب المعتقلين أطلقوا بضع طلقاتٍ على الأمريكيين في الظلام. داهَمَ الجيش الأمريكي المزيد من المنازل وعذَّب المزيد من الرجال. وبالتالي أطلق القرويون النار مجددًا. ثم استدعى الأمريكيون الغارات الجوية، وقتلت قذائفهم عائلةً تلو الأخرى.

عادت بذلك الحرب عبر جنوب وشرق البلاد. استفحَلَ الفساد وتفشَّت اللامساواة. تطلَّع الأفغان للتنمية التي تنعش حياة الفقراء والأغنياء. وبدا أن ذلك واضحًا وسهل التحقُّق. لكن لم يفهموا السياسة الخارجية الأمريكية، ولم يفهموا التفاني العميق للـ1% المهيمنة في الولايات المتحدة لمفاقمة اللامساواة في بلدهم.

صحيحٌ أن الأموال الأمريكية تدفَّقَت إلى أفغانستان، لكنها ذهبت إلى الحكومة الجديدة برئاسة حامد كرزاي. ذهبت إلى أولئك الذين يعملون مع الأمريكيين والقوات المحتلة الأخرى. وذهبت إلى أمراء الحرب وحواشيهم المتورِّطون في تجارة الأفيون والهيروين الدولية التي تسهِّلها الاستخبارات الأمريكية والجيش الباكستاني. ذهبت هذه الأموال إلى أولئك المحظوظين بما فيه الكفاية لكي يعيشوا رفاهيتهم الخاصة في منازلهم المؤمَّنة جيدًا في كابول التي أجَّروها للموظفين الأجانب المغتربين. وذهبت أيضًا للرجال والنساء الذين عملوا في المنظمات غير الحكومية المُمَوَّلة من الخارج. وهناك بالطبع تقاطعاتٌ بين كلِّ هؤلاء وبعضهم.

اعتاد الأفغان على الفساد؛ توقَّعوه وكرهوه. لكن هذه المرة بَلَغَ مستوياتٍ غير مسبوقة. وفي أعين الفقراء ومتوسِّطي الدخل من الشعب الأفغاني، كلُّ هذه الثروة الفاحشة الجديدة، بصرف النظر كيف جُنِيَت، تدلُّ على الفساد.

على مدار العقد الماضي، قدَّمَت طالبان شيئين أساسيَّين عبر البلاد. الأول هو أنهم غير فاسدين، إذ لم يكونوا فاسدين حين كانوا في السلطة قبل 2001. كانوا القوة السياسية الوحيدة في البلاد الذي انطبق عليهم ذلك.

الشيء الثاني، والمهم، هو أن طالبان كانت تدير نظامًا قضائيًا أمينًا في المناطق الريفية التي سيطروا عليها. كانت سمعتهم نظيفةً لدى الجمهور، إلى درجة أن الكثير من الناس المنخرطين في قضايا مدنية في المدن كانوا يوافقون على نقل قضاياهم إلى قضاةٍ من طالبان في الريف. وهذا سَمَحَ بنظام عدالةٍ سريعًا ورخيصًا وعادلًا، دون رشاوى باهظة. وما دام القضاء ليس فاسدًا، كلا الطرفين المتنازعين يمكنهما التعامل معه.

بالنسبة للناس في المناطق التي خضعت لسيطرة طالبان، كانت العدالة الناجزة أيضًا حمايةً من اللامساواة. حين يرشو الأغنياء القضاة، يمكنهم فعل أيِّ شيءٍ للفقراء. والأرض كانت العامل الحاسم في ذلك الأمر. كان بإمكان الأغنياء والرجال النافذين، أو أمراء الحرب والمسئولين الحكوميين، أن يصادروا أو يسرقوا أو يتحايلوا من أجل الاستحواذ على أراضٍ مملوكة لفلاحين صغار، أو أن يقمعوا مزارعين أفقر حتى من هؤلاء الفلاحين. لكن كان مفهومًا لدى الجميع أن قضاة طالبان يحكمون لصالح الفقراء.

وهكذا اندمجت كراهية الفساد واللامساوة مع كراهية الاحتلال.

عشرون عامًا
مرَّ عشرون عامًا منذ العام 2001، حين سقطت طالبان أمام الأمريكيين بعد 11 سبتمبر. وقعت تغييراتٌ هائلة في الحركات السياسية الجماهيرية على مدار عشرين عامًا من الحرب والأزمة. تعلَّمَت طالبان وتغيَّرَت. كيف يمكن لها أن تفعل غير ذلك. علَّقَ الكثير من الأفغان، والكثير أيضًا من الخبراء الأجانب على ذلك، حتى أن الخبير الأمني الإيطالي أنطونيو جيوستوتزي استخدم عبارة “طالبان الجديدة” (2).

هذا التغيير، كما هو مُقدَّم على الملأ، له جوانب عدة. أدركت طالبان أن الشوفينية البشتونية لها نقطة ضعف خطيرة، فصاروا يشدِّدون اليوم على أنهم مسلمون، وأخوة لجميع المسلمين، وأنهم يريدون دعم المسلمين من الكثير من الأعراق الأخرى.

لكن كان هناك انقسامٌ مريرٌ في قوى طالبان على مدار السنوات القليلة الماضية. اصطفَّ قلةٌ من مقاتلي طالبان وأنصارها إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية. والفرق أن تنظيم الدولة الإسلامية يشنُّ هجماتٍ إرهابية على الشيعة والسيخ والمسيحيين. تفعل طالبان في باكستان الأمر نفسه، وهكذا أيضًا شبكة حقاني الصغيرة المدعومة من قِبَلِ الاستخبارات الباكستانية. لكن أغلبية طالبان تدين مثل هذه الهجمات.

سنعود إلى هذا الانقسام لاحقًا، إذ أن له تبعاتٍ على ما سيحدث لاحقًا.

شدَّدَت طالبان الجديدة أيضًا على مخاوفها بشأن حقوق النساء. يقولون إنهم يرحِّبون بالموسيقى والفيديوهات، وإنهم خفَّفوا من أعنف الجوانب وأكثرها تشدُّدًا في حكمهم السابق. ويردِّدون مرارًا أيضًا أنهم يريدون أن يحكموا بسلام، دون انتقامٍ من رجال النظام القديم.

من الصعب تحديد أيِّ قدرٍ من كلِّ ذلك مجرد دعاية وأيِّ قدرٍ يمثِّل الحقيقة. وعلاوة على ذلك، ما سيحدث لاحقًا يعتمد بشدة على ما يجري على الصعيد الاقتصادي، إضافةً إلى أفعال القوى الأجنبية. سنتحدَّث عن ذلك فيما بعد. لكن نقطتنا هنا هي أن الأفغان لديهم أسبابهم لاختيار طالبان وليس الأمريكيين وأمراء الحرب وحكومة أشرف غني.

ماذا عن إنقاذ النساء الأفغانيات؟
يتساءل الكثير من القراء الآن بإلحاحٍ ماذا عن النساء الأفغانيات؟ والإجابة على ذلك ليست بسيطة.

سنبدأ بالعودة إلى السبعينيات. تتشابك أنظمةٌ مُحدَّدة للامساواة الجندرية، عبر أرجاء العالم، مع أنظمةٍ مُحدَّدة من اللامساواة الطبقية. وأفغانستان ليست استثناءً من ذلك.

قامت ونانسي لينديسفارن بأعمالٍ أنثروبولوجية ميدانية مع نساءٍ بشتونيات ورجالٍ في شماليّ البلاد في مطلع السبعينيات. عاش هؤلاء على الزراعة ورعي الماشية. ويوضِّح كتاب نانسي، بعنوان “عرائس المقايضة: السياسة والزواج في مجتمعٍ قبلي”، الروابط بين الطبقة والجندر والانقسامات الإثنية في ذلك الوقت. وإذا أردتم معرفة ما اعتقدته هؤلاء النساء أنفسهن عن حياتهن ومتاعبهن ومباهجهن، فقد نشرت نانسي وشريكها السابق ريتشارد تابر مؤخَّرًا “أصوات القرية الأفغانية”، وهي ترجمةٌ لتسجيلاتٍ من رجالٍ ونساءٍ أفغانيات من الحقول.

هذه الحقائق مُعقَّدة ومريرة، ومليئة بالحب أيضًا. بالمعنى الباطن العميق، ليس هناك فرقٌ في تعقيدات التحيُّز الجنسي والتفرقة الطبية عمَّا هو في الولايات المتحدة. لكن مأساة النصف قرن الماضي غيَّرَت الكثير من ذلك. ولَّدَت المعاناة الطويلة هذا النظام القائم على التحيُّز الجنسي لطالبان، وهو ليس نتاجًا تلقائيًا للتراث الأفغاني.

بدأ تاريخ هذا التحوُّل في العام 1978. اندلعت حينها الحرب الأهلية بين الحكومة الشيوعية ومقاومة المجاهدين الإسلامية. كان الإسلاميون يحقِّقون انتصارات، لذا شنَّ الاتحاد السوفييتي الغزو في 1979 لدعم الحكومة الشيوعية. وتبع ذلك سبعة أعوام من الحرب الشرسة بين السوفييت والمجاهدين. وفي العام 1987 غادرت القوات السوفييتية تجرُّ أذيال الهزيمة.

حين عشنا في أفغانستان، في مطلع السبعينيات، كان الشيوعيون من خيرة الناس. وكان لديهم ثلاثة دوافع: أرادوا تنمية البلد، وأرادوا تحطيم سلطة كبار الملَّاك وتوزيع الأرض، وأرادوا المساواة للنساء.

لكن في العام 1978، استولى الشيوعيون على السلطة بانقلابٍ عسكري قاده ضباطٌ تقدميون. لم يكسبوا الدعم السياسي من أغلبية الفلاحين، في ذلك البلد الريفي إلى حدٍّ كبير. وكانت النتيجة أن الطرق الوحيدة التي كان بإمكانهم التعامل بها مع المقاومة الإسلامية في الريف هي الاعتقال والتعذيب والقصف. وكلَّما كان الجيش ذو القيادة الشيوعية يرتكب الأهوال، تنامى التمرُّد أكثر وأكثر.

غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان من أجل دعم الشيوعيين، وكان سلاحهم الوحيد هو القصف الجوي، وأصبحت أجزاءٌ كبيرة من البلد مناطق قصف مفتوحة. قُتِلَ بين نصف مليون ومليون أفغاني، وأُصيبَ ما يقرب من مليون آخرين بتشوُّهاتٍ وإعاقات دائمة. اضطر بين ستة وثمانية ملايين إلى الرحيل للمنفى في إيران وباكستان، وصار ملايين غيرهم نازحين في الداخل. كلُّ ذلك في بلدٍ لم يتجاوز تعداده 25 مليونًا.

حين جاءوا إلى السلطة، أول شيءٍ حاول الشيوعيون فعله هو الإصلاح الزراعي وتشريع حقوق المرأة. وحين شنَّ الروس غزوهم، انحاز أغلبية الشيوعيين إلى جانبهم. كان الكثير من هؤلاء الشيوعيين نساءً، والنتيجة كانت تلطيخ اسم النسوية على خلفية دعم التعذيب والمذابح.

لنتصوَّر أن الولايات المتحدة تعرَّضَت لغزوٍ من قوةٍ أجنبية قتلت بين 12 إلى 24 مليون أمريكي، ومارست التعذيب على الناس في كلِّ بلدةٍ، وأجبرت 100 مليون أمريكي على الرحيل إلى المنفى. لنتصوَّر أيضًا أن كلَّ النسويات تقريبًا في الولايات المتحدة أيدَّوا الغزاة. بعد هذه التجربة، كيف في اعتقادكم سيشعر الأمريكيون إزاء غزوٍ آخر من قوةٍ أجنبية أخرى، أو إزاء النسوية؟

في اعتقادكم، كيف تشعر النساء الأفغانيات إزاء غزوٍ آخر، هذه المرة على يد الأمريكيين، يُبرَّر بضرورة إنقاذ النساء الأفغانيات؟ لنضع في اعتبارنا أن هذه الإحصاءات عن القتلى والمُشوَّهين واللاجئين في ظلِّ الاحتلال السوفييتي لم تكن أرقامًا مجرَّدة. كان هؤلاء نساءٌ أفغانيات، وأولادهن وبناتهن، وأزواجهن، وأخواتهن وإخوتهن، وأمهاتهن وآباءهن.

لذا، حين رَحَلَ الاتحاد السوفييتي مهزومًا، تنفَّسَ الكثير من الناس الصعداء. لكن حينها، صار القادة المحليون، من المقاومة الجهادية إلى الشيوعيين إلى الغزاة، أمراء حربٍ، وتقاتلوا ضد بعضهم على غنائم النصر. أيَّد معظم الأفغان المجاهدين، لكنهم آنذاك سئموا من الجشع والفساد والحرب اللانهائية بلا طائل.

طالبان: خلفيات الطبقة واللجوء
في خريف العام 1994، وصلت طالبان إلى قندهار، التي يغلب عليها البشتون وهي الأكبر في جنوبيّ أفغانستان. لم تكن طالبان موجودةً من قبل في التاريخ الأفغاني، بل كانت بشكلٍ أساسي نتاجًا لعاملين اثنين من المستجدات التي لم تظهر إلا في القرن العشرين: القصف الجوي، ومخيَّمات اللاجئين في باكستان. كانوا ينتمون إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ مختلفة عن تلك النخب التي حكمت البلاد.

أما الشيوعيون، فكانوا أبناء وبنات الطبقات الوسطى المدينية، والمزارعين المتوسطين في الريف الذين حازوا بعض قطع الأرض. كان يقودهم أناسٌ تعلَّموا في الجامعة الوحيدة في البلاد برمتها في كابول، وأرادوا تحطيم سلطة كبار ملَّاك الأرض وتحديث البلاد.

الإسلاميون الذين قاتلوا الشيوعيين كانوا رجالًا من خلفياتٍ طبقية مشابهة، وأغلبهم كانوا طلابًا في الجامعة نفسها. أراد هؤلاء أيضًا تحديث البلاد، لكن بطريقةٍ مختلفة، وتطلَّعوا إلى أفكار الإخوان المسلمين وجامعة الأزهر في القاهرة.

تعني كلمة “طالبان” الطلاب في مدرسةٍ إسلامية، وليس مدرسةً حكومية أو جامعة. كان مقاتلو طالبان الذين دخلوا قندهار في 1994 رجالًا يافعين درسوا في المدارس الإسلامية المجانية في مخيَّمات اللاجئين في باكستان. كانوا شبابًا لا شيء لديهم.

أما قادة طالبان، فقد كانوا ملالي قرويين من أفغانستان. لم يتمتَّعوا بالصلات النخبوية التي كانت لدى أئمة المساجد في المدن. يستطيع ملالي القرى القراءة، وكانوا يتمتَّعون باحترامٍ من القرويين. لكن وضعهم الاجتماعي كان أقل كثيرًا من ملَّاك الأرض الكبار، أو خريج الجامعة الذي يعمل في مكتبٍ حكومي.

كانت لجنةٌ من 12 رجلًا هي التي تقود طالبان، وجميع هؤلاء كانوا قد فقدوا عينًا أو ساقًا أو ذراعًا جراء القصف السوفييتي في الحرب. كانت طالبان، من بين أمورٍ أخرى، حزب الرجال البشتون الفقراء والمتوسطين في القرى (3).

كانت عشرون سنةً من الحرب قد جعلت قندهار بلا قانونٍ وتحت رحمة الميليشيات المتحاربة. وجاءت نقطة التحوُّل حين طاردت طالبان قائدًا محليًا اغتصب صبيًا وامرأتين (وربما ثلاث نساء). أمسك به رجال طالبان وشنقوه. وما أبرَزَ هذا التدخُّل بصورةٍ صارخة لم يكن مجرد تصميمهم على وضع حدٍّ للاقتتال الدموي واستعادة كرامة الناس وأمانهم، بل ضجرهم من نفاق الإسلاميين الآخرين.

منذ البداية، تلقَّت طالبان التمويل من السعوديين والأمريكيين والجيش الباكستاني. أرادت واشنطن بلدًا هادئًا تمرُّ عبره أنابيب النفط والغاز إلى وسط آسيا. وبرزت طالبان بالنسبة لهم، لأنها لا تسمح بأيَّة استثناءاتٍ في الأوامر، ونظرًا للصرامة التي تطبِّق بها القواعد.

كان الكثير من الأفغان ممنونين لعودة النظام، علاوة على قدرٍ يسيرٍ من الأمن، لكن طالبان كانت طائفيةً وعجزت عن التحكُّم في البلد، وفي 1996 سَحَبَ الأمريكيون دعمهم. وحينها، أطلقوا حملةً شعواء جديدة من الإسلاموفوبيا ضد طالبان.

بين ليلةٍ وضحاها، صار يُنظَر إلى النساء الأفغانيات باعتبارهن ضحايا اضطهادٍ لا حول لهن ولا قوة، بينما الرجال الأفغان -أي طالبان- يُصوَّرون في هيئة متوحشين مخبولين يشتهون الأطفال، ومتسلِّطين ساديين، وأناسًا قساةً بصورةٍ عامة.

لأربعة سنوات قبل 11 سبتمبر، استهدَفَ الأمريكيون طالبان، بينما النسويات وغيرهم يصرخون من أجل حماية النساء الأفغانيات. وبحلول الوقت الذي بدأ القصف الأمريكي، كان جميع الناس يدركون أن النساء الأفغان بحاجةٍ إلى المساعدة. ما الخطأ الذي قد يحدث في ذلك؟

11 سبتمبر والحرب الأمريكية
بدأ القصف في 7 أكتوبر. وفي غضون أيام، أُجبِرَت طالبان على الاختباء. كانت الصور المنشورة للحرب صادمةً بحق في العنف والسادية. دُهِشَ كثيرٌ من الناس في أوروبا بالنطاق الواسع للقصف وعدم الاكتراث بحياة الأفغان (4).

غير أنه في الولايات المتحدة، في ذلك الخريف، كان مزيجٌ من الوطنية والرغبة في الانتقام يعني أن الأصوات المُعارِضة كانت نادرةً وفي الأغلب خافتة. اسألوا أنفسكم السؤال الذي سألته صبا محمود، أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة بيركلي الأمريكية، لنفسها: “لماذا كانت ظروف الحرب (التهجير والعسكرة) والمجاعة في ظلِّ المجاهدين أقل ضررًا للنساء من البطالة والافتقار إلى التعليم، بالنسبة لوسائل الإعلام، في ظلِّ حكم طالبان؟” (5).

ثم اسألوا أنفسكم مرةً أخرى بشدةٍ أكبر: كيف يمكن “إنقاذ النساء الأفغانيات” من خلال قصف السكّان المدنيين، الذين يتضمَّنون، إلى جانب النساء أنفسهن، أطفالهن وأزواجهن وآبائهن وإخوتهن؟ كان من المُفتَرَض أن ينهي هذا السؤال المجادلة من الأساس، لكنه ذلك لم يحدث.

جاء التعبير الأكثر انكشافًا عن الإسلاموفوبيا النسوية بعد أكثر قليلًا من شهرٍ من شنِّ الحرب. كانت هذه الحرب غير المتكافئة تمامًا لا تبدو جيدةً في أعين العالم، لذا كان من الأفضل القيام بشيءٍ يبدو فاضلًا وشريفًا. لذا، حين كان الأمريكيون في انتظار احتفالات عيد الشكر، في 17 نوفمبر 2001، أفصحت لورا بوش، زوجة الرئيس آنذاك، عن حسرتها على الحياة الصعبة للنساء الأفغانيات المُحجَّبات.

ردَّدَت شيري بلير، زوجة رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، المشاعر نفسها بعد أيامٍ قليلة. كانت زوجات الرؤساء المولعين بالحرب يستخدمن النموذج الاستشراقي بكلِّ ثقله من أجل إلقاء اللوم على الضحية وتبرير حربٍ على شعبٍ من أفقر شعوب الأرض. وصار شعار “إنقاذ النساء الأفغانيات” صرخةً دائمةً للكثير من النسويات الليبراليات لتبرير الحرب الأمريكية (6).

ومع انتخاب أوباما في العام 2008، صارت جوقة الإسلاموفوبيا أكثر انسجامًا في أوساط الليبراليين الأمريكيين. في ذلك العام، حلَّ التحالف الأمريكي لمناهضة الحرب نفسه عمليًا من أجل مساعدة حملة أوباما. ولم يكن الديمقراطيون، وأولئك النسويات، الذين دعموا وزيرة خارجية أوباما المولعة بالحرب، هيلاري كلينتون، ليقبلوا حقيقة أن حربيّ العراق وأفغانستان كانتا من أجل النفط (7).

كان لديهم تبريرٌ واحدٌ فقط لحروب النفط اللانهائية -معاناة النساء الأفغانيات. وكانت اللعب النسوية ذكيةً حقًا. استبعدت حججهن أيَّ مقارناتٍ بين الحكم المتحيِّز جنسيًا بلا شكٍّ لطالبان، والتحيُّز الجنسي في الولايات المتحدة نفسها. والأكثر صدمةً أن الحجج النسوية استبعدت الحقائق القبيحة حول الحرب غير المتكافئة بصورةٍ صارخة، كما فصلت بين أولئك “النساء اللائي يتعيَّن إنقاذهن” عن عشرات الآلاف من النساء والرجال والأطفال الأفغان الذين قُتِلوا وجُرِحوا وعانوا اليُتم والتشريد والجوع، جرَّاء الصواريخ الأمريكية.

صدَّقَ الكثير من أصدقائنا وأقاربنا النسويين في الولايات المتحدة، بحسن نيةٍ، الكثير من هذه الدعاية. لكنهم كانوا يُطلَب منهم دعم هذه الشبكة من الأكاذيب الذي شوَّهَت النسوية. كانت تلك نسوية الغزاة والنخب الحاكمة الفاسدة. كانت تلك نسوية الجلَّادين والقاذفات والطائرات المسيَّرة.

أما نحن، فنؤمن أن نسويةً أخرى ممكنة.

لكن يظلُّ من الصحيح أن طالبان قائمة على التحيُّز الجنسي. والتحيُّز ضد النساء قد حقَّقَ انتصارًا في أفغانستان، لكن الأمر لا ينبغي أن يسير على هذا النحو.

لقد دمّرَ الشيوعيون الذين انحازوا للغزاة السوفييت، بكلِّ ما ارتكبوه من فظائع، مصداقية النسوية في أفغانستان على مدار جيلٍ على الأقل. لكن حينها، اجتاحت الولايات المتحدة البلاد، وانحاز جيلٌ جديدٌ من صفوة النساء الأفغانيات للغزاة الجدد لمحاولة كسب حقوقٍ للنساء. وحلمهم هذا قد انتهى هو الآخر بالتواطؤ والعار والدم. بعضٌ من هؤلاء بالتأكيد كانوا يرتزقون من الأمر برمته، يردِّدون الابتذالات مقابل الحصول على التمويل الأجنبي. لكن غيرهم كثيرون كانوا مدفوعين بأحلامٍ صادقة. والفشل الذي آلوا إليه ذريعٌ ومأساوي.

التباسٌ ونمطية
أما خارج أفغانستان، فهناك قدرٌ كبيرٌ من الالتباس حول الصورة النمطية التي ترسَّخَت حول طالبان على مدار الأعوام الخمسة وعشرين الماضية. لكن فكِّروا مليًا حين تسمعون عن هذه الصور النمطية بأنهم إقطاعيين متوحِّشين وبدائيين. هؤلاء أناسٌ يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة وكانوا يتفاوضون مع الأمريكيين في قطر على مدار أربعة عشر عامًا.

طالبان ليست نتاجًا للعصور الوسطى. إنها نتاجٌ لأحد أسوأ الحقب الزمنية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. إذا ألقيتم نظرةً إلى الوراء على زمنٍ أفضل مُتصوَّر، لن يكون ذلك مفاجئًا على الإطلاق. لقد شكَّلتهم الحياة تحت القصف الجوي، وفي مخيَّمات اللاجئين، وفي ظلِّ الشيوعية، والحرب على الإرهاب، والتعذيب لانتزاع الاعترافات، والتغيُّر المناخي، وسياسات الإنترنت، واللامساواة المتفاقمة في ظلِّ النيوليبرالية. إنهم يعيشون، مثلنا جميعًا، الآن وفي هذه اللحظة.

قد تكون جذور طالبان هي الأخرى مُلتَبَسة. لكن، كما جادَلَ ريتشارد تابر، القبائل ليست مؤسساتٍ بدائية. إنها الطريقة التي ينظِّم بها الفلاحون في ذلك الجزء من العالم علاقتهم مع الدولة. والتاريخ الأفغاني لم يكن يتألَّف ببساطة من تنافساتٍ بين جماعاتٍ عرقية مختلفة، بل تحالفاتٍ معقَّدة عبر هذه الجماعات، وانقساماتٍ داخلها (8).

هناك مجموعةٌ من التحيُّزات المسبَّقة لدى اليسار تجعل بعض الناس يتساءلون كيف يمكن أن تكون طالبان منحازةً إلى صفِّ الفقراء ومناهِضةً للإمبريالية إن لم تكن “تقدُّمية”. اتركوا جنبًا للحظةٍ أن كلمة “تقدُّمية” لا تعني الكثير. بالطبع طالبان معادية للاشتراكية والشيوعية. وهم أنفسهم، أو آباؤهم أو أجدادهم، قُتِلوا على يد اشتراكيين وشيوعيين. وعلاوة على ذلك، فإن أيَّ حركةً خاضت حرب عصاباتٍ على مدار عشرين سنةً، وهزمت إمبراطوريةً عظمى، لهي مناهِضةٌ للإمبريالية، وإلا لن يكون للكلمات أيُّ معنى.

الواقع حقيقيٌّ كما هو. طالبان حركةٌ من فلاحين فقراء ضد احتلالٍ إمبريالي، تكره النساء، وتؤيِّدها الكثير من النساء في الوقت نفسه، عنصريةٌ وطائفيةٌ في بعض الأحيان، ولا تكون كذلك في أحيانٍ أخرى. هذه حزمةٌ من التناقضات التي أنتجها التاريخ.

يدور التباسٌ آخر حول السياسة الطبقية لطالبان. كيف تكون الحركة في صفِّ الفقراء وتعارض الاشتراكية بشدةٍ هكذا؟ الإجابة هي أن تجربة الاحتلال الروسي محا إمكانية استخدام الصياغات الاشتراكية حول الطبقات. لكن هذا لا يغيِّر من حقيقة الطبقات نفسها. لم يتمكَّن أحدٌ من قبل من بناء حركةٍ جماهيرية في أوساط الفلاحين الفقراء تحوز السلطة دون أن يُنظَر إليه باعتباره منحازًا لهؤلاء الفقراء.

لا تتحدَّث طالبان بلغة الطبقة، بل بلغة العدالة والفساد. وهذان الكلمتان تصفان الجانب ذاته.

لا يعني أيٌّ من ذلك أن طالبان سوف تحكم في مصلحة الفقراء. لقد رأينا ما يكفي من الانتفاضات الفلاحية التي تتربَّع على عرش السلطة في القرن الماضي وما قبله، فقط لتصبح حكوماتٍ تقودها النخب المدينية. ولا ينبغي لأيٍّ من هذا أن يصرف الانتباه عن حقيقة أن طالبان تنوي انتهاج الديكتاتورية لا الديمقراطية.

تغيُّر تاريخي في الولايات المتحدة
كان سقوط كابول هزيمةً نكراء للقوة الأمريكية حول العالم. لكنها أيضًا تمثِّل، وتوضِّح، تحوُّل الأمريكيين بشكلٍ حاد عن الإمبراطورية الأمريكية.

يأتي الدليل على ذلك من استطلاعات الرأي. في العام 2001، بعد 11 سبتمبر مباشرةً، وافَقَ بين 85% و90% من الأمريكيين على غزو أفغانستان. لكن النسبة تناقصت بصورةٍ ثابتة لاحقًا. في الشهر الماضي، أيَّد 62% من الأمريكيين خطة بايدن للانسحاب الكامل، فيما عارضها 29%.

هذا الرفض للحرب شائعٌ في اليمين واليسار على السواء. تقف قاعد الطبقة العاملة لدى الحزب الجمهوري وترامب ضد الحروب الخارجية. وينحدر الكثير من الجنود وعائلاتهم من المناطق الريفية والجنوب، تلك المناطق التي استمدَّ منها ترامب الكثير من قوته. يقف هؤلاء ضد المزيد من الحروب، لأنهم هم وأحباءهم خدموا وقُتِلوا أو أُصيبوا في حروبٍ كهذه.

تؤيِّد وطنية اليمين في الولايات المتحدة الجيش، لكن هذا يعني أنها تقف مع الجندي، لا مع الحرب. وحين يقولون “لنجعل أمريكا عظيمةً مجدَّدًا”، فهم يعنون أنها ليست عظيمةً بالنسبة للأمريكيين، وليس أن عليها أن تكون أكثر اشتباكًا في العالم.

وبالنسبة للديمقراطيين أيضًا، تقف قاعدة الطبقة العاملة ضد الحروب.

هناك أناسٌ يؤيِّدون المزيد من التدخُّل العسكري. هؤلاء هم ديمقراطيو أوباما، وجمهوريو رومني، والجنرالات، والكثير من المسئولين الليبراليين والمحافظين، وتقريبًا كلُّ مَن في نخبة واشنطن. لكن الشعب الأمريكي ككل، وخاصةً الطبقة العاملة -السوداء والمُلوَّنة والبيضاء- قد أدارت ظهرها للإمبراطورية الأمريكية.

بعد سقوط سايجون، عجزت الحكومة الأمريكية عن شنِّ تدخُّلاتٍ عسكرية كبرى على مدار خمسة عشر عامًا لاحقة. وقد تكون المدة أطول بعد سقوط كابول.

التبعات الدولية
منذ العام 1918، أي منذ 103 سنة، ظلَّت الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم. كانت هناك قوى مُنافِسة -أولًا اليابان وألمانيا، ثم الاتحاد السوفييتي، والآن الصين- لكن الولايات المتحدة ظلَّت هي المهيمنة. والآن، يوشك “القرن الأمريكي” على نهايته.

السبب طويل الأمد هو الصعود الاقتصادي للصين والتدهور الاقتصادي النسبي للولايات المتحدة. لكن جائحة كوفيد والهزيمة الأفغانية تجعل العامين الأخيرين يمثِّلان نقطة تحوُّل.

كشفت الجائحة القصور المؤسسي للطبقة الحاكمة والحكومة في الولايات المتحدة. فشل النظام في حماية الناس، وهذا الفشل الفوضوي والمُخجِل واضحٌ أمام الناس حول العالم. ثم جاءت أفغانستان. إذا كنتم تحكمون من خلال معايير الإنفاق والمعدات، فالولايات المتحدة هي القوة المهيمنة عسكريًا بصورةٍ ساحقة على مستوى العالم أجمع. وهذه القوى مُنِيَت بهزيمةٍ على يد أناسٍ فقراء يرتدون الصنادل في بلدٍ صغيرٍ ليس لديه إلا جَلَدٌ وشجاعة.

سيمنح انتصار طالبان جرأةً للإسلاميين في في بلدانٍ أخرى مختلفة، مثل سوريا واليمن والصومال وباكستان وأوزباكستان وتركمانستان وطاجيكستان ومالي. وسيتسع النطاق لما هو أكثر من ذلك.

سيقلِّص الفشل في التعامل مع الجائحة والهزيمة الأفغانية من القوة الناعمة للولايات المتحدة. لكن أفغانستان أيضًا تمثِّل هزيمةً للقوة الخشنة. استندت قوة الإمبراطورية غير الرسمية للولايات المتحدة، على مدار قرنٍ كاملٍ، على ثلاثة ركائز مختلفة. الركيزة الأولى هي الاقتصاد الأكبر في العالم، والهيمنة على النظام المالي العالمي. والثانية هي السمعة التي تتمتَّع بها في الكثير من الأوساط عبر العالم في الديمقراطية والكفاءة والريادة الثقافية. أما الركيزة الثالثة، فهي أنه إذا فشلت القوة الناعمة، فسوف تشنُّ الولايات المتحدة الحرب لدعم الديكتاتوريات ومعاقبة أعدائها.

ذهبت القوة العسكرية مع الريح الآن. لن تفكِّر أيُّ حكومةٍ الآن في أن الولايات المتحدة سوف تنقذها من غازٍ أجنبي، أو من شعبها. سيتواصل القتل بواسطة الطائرات المسيَّرة ويستمر في توليد معاناةٍ كبيرة. لكن الطائرات المسيَّرة لا يمكن أن تكون هي العامل الحاسم في أيِّ مكانٍ كان.

هذه هي بداية نهاية القرن الأمريكي.

ماذا سيحدث الآن؟
لا أحد يعرف ماذا سيحدث لاحقًا في أفغانستان في السنوات القليلة المقبلة. لكننا يمكن أن نحدِّد بعضًا من مواضع الضغط.

الموضع الأول، والأكثر أملًا، هو التوق العميق في نفوس الأفغان للسلام. لقد عاشوا حتى الآن 34 عامًا من الحرب. تصوَّروا أيَّ قدرٍ من الضرر تسبَّبَت فيه حروبٌ أهلية أو غزوٌ أجنبي لخمس أو عشر سنوات للكثير من البلدان. والآن تصوَّروا أنها 34 سنة!

سقطت المدن الثلاثة الأهم في أفغانستان، كابول وقندهار ومزار، بدون عنفٍ يُذكَر. هذا لأن طالبان، كما تظلُّ تردِّد، تريد بلدًا في سلام، ولا تريد الانتقام. لكن هذا أيضًا لأن الناس الذين لا يؤيِّدونها، الذين بالطبع يكرهون طالبان، اختاروا ألَّا يقاتلوا.

يدرك قادة طالبان بوضوحٍ أن عليهم إرساء السلام. وللسبب نفسه من الضروري أيضًا أن يستمروا في إرساء العدالة. سجلهم جيدٌ في هذا الصدد. لكن إغراءات الحكم أفسدت الكثير من الحركات الاجتماعية في العديد من البلدان الأخرى.

الانهيار الاقتصادي مُرجُّحٌ للغاية أيضًا. أفغانستان بلدٌ فقير وقاحل، الأرض الصالحة فيه للزراعة تمثِّل 5% فقط من مساحته. في العشرين سنة الأخيرة، تضخَّمَت المدن بشكلٍ كبير، وهذا التضخُّم اعتمد على الأموال المتدفِّقة من الفساد، وبدرجةٍ أقل الأموال الناتجة من زراعة الأفيون. وسوف ينهار الاقتصاد من دون مساعدةٍ أجنبيةٍ أساسية من مكانٍ ما.

ولأن طالبان تدرك ذلك، فقد قدّمَت عرضت صراحةً عقد صفقة مع الولايات المتحدة. تتمثَّل الصفقة في أن يقدِّم الأمريكيون المساعدة مقابل ألا تأوي طالبان إرهابيين قد يشنون هجماتٍ على غرار 11 سبتمبر. قبلت إدارتيّ ترامب وبايدن على السواء هذه الصفقة، لكن من غير الواضح على الإطلاق أن الولايات المتحدة ستحافظ على هذا الوعد.

وبالتأكيد يُحتَمَل أن يحدث الأسوأ. عاقبت إداراتٌ أمريكية سابقة العراق، وإيران، وكوبا، وفيتنام، لتحديهم العقوبات المدمِّرة وطويلة الأجل. وستكون هناك أصواتٌ مرتفعةٌ في الولايات المتحدة لفرض مثل هذه العقوبات، ولتجويع الأطفال الأفغان باسم حقوق الإنسان.

ثم هناك تهديد التدخُّل الدولي من جانب قوى مختلفة تدعم قوى سياسية أو عرقية داخل أفغانستان. وهذا يغري الولايات المتحدة، والهند، وباكستان، والمملكة السعودية، وإيران، والصين، وروسيا، وأوزباكستان. حدث ذلك من قبل، وفي وضعٍ من الانهيار الاقتصادي قد يحفِّز حروبًا بالوكالة.

غير أنه حتى هذه اللحظة تريد حكومات إيران وروسيا وباكستان السلام، بوضوحٍ، في أفغانستان.

تعهَّدَت طالبان أيضًا بالحكم دون قسوة. والقول أسهل من الفعل. فعند مواجهة العائلات التي راكمت ثرواتٍ من الفساد والجرائم، ماذا تعتقدون أن يريد الجنود الفقراء من القرى أن يفعلوه إزاءهم؟

ثم هناك أيضًا المناخ القاسي. في العام 1971، ضرب الجفاف والمجاعة شماليّ ووسط أفغانستان، ودمَّر المحاصيل وقطعان الماشية والبشر. كانت تلك أول علامة على تأثيرات التغيُّر المناخي في المنطقة، وقد جلبت المزيد من موجات الجفاف على مدار الخمسين سنة الماضية. على المدى الطويل والمتوسط، ستصبح الزراعة والرعي تحت تهديدٍ أكبر (9).

كلُّ هذه المخاطر حقيقية. لكن الخبير الأمني أنطونيو جيوستوتزي، المُطَّلِع على تفكير طالبان والحكومات الأجنبية، اختتم مقاله في 16 أغسطس الماضي في صحيفة الجارديان البريطانية بهذه الخاتمة المتفائلة:

“بما أن معظم الدول المجاورة تريد الاستقرار في أفغانستان، فعلى الأقل في الوقت الراهن من غير المُرجَّح أن تُستَغَل أيَّ تصدُّعاتٍ في الحكومة الائتلافية الجديدة من جانب أطرافٍ خارجية لزرع نزاعات. وبالمثل، سوف يكافح الخاسرون في 2021 من أجل العثور على أيِّ شخصٍ مستعدٍ أو قادرٍ على دعمهم في تدشين نوعٍ من المقاومة. وطالما أن الحكومة الائتلافية الجديدة تتضمَّن حلفاءً رئيسيين لجيرانها، فهذه بدايةٌ لمرحلةٍ جديدة في تاريخ أفغانستان” (10).

ماذا يمكننا فعله؟ الترحيب باللاجئين
الكثير من الناس في الغرب يسألون الآن “ماذا يمكننا فعله لمساعدة النساء الأفغانيات؟”. أحيانًا يفترض هذا السؤال أن معظم النساء الأفغانيات يعارضن طالبان، وأن أغلب الرجال يؤيِّدونهم. هذا محض هراء. من المستحيل تقريبًا تصوُّر شكل المجتمع الذي يكون ذلك فيه حقيقيًا.

لكن هناك سؤالٌ أدق هنا. بالأخص كيف يمكن أن نساعد النسويات الأفغانيات؟ هذا سؤالٌ مشروعٌ ولائق. والإجابة هي شراء تذاكر طيران ومنحهم اللجوء في أوروبا وأمريكا الشمالية.

لكن النسويات لسن هنَّ فقط اللاتي يحتجن اللجوء. هناك عشرات الآلاف من الناس الذين عملوا مع الاحتلال وهم في أمسِّ الحاجة إلى اللجوء مع عائلاتهم. والأمر ينطبق على أعدادٍ أكبر من الناس الذين عملوا مع الحكومة الأفغانية.

هناك الكثير من هؤلاء الناس مبهرون حقًا، وبعضهم وحوشٌ فاسدون، والعديد منهم يقع بين الطرفين، والكثير منهم أيضًا مجرد أطفال. لكن هناك واجبًا أخلاقيًا هنا. لقد تسبَّبَت الولايات المتحدة ودول حلف الناتو في معاناةٍ هائلة لعشرين عامًا. وعلى الأقل، على أقل القليل، يتعيَّن عليهم أن ينقذوا أولئك الذين دمَّروا حياتهم.

إن فشل الحكومتين الأمريكية والبريطانية في إنقاذ الناس الذين عملوا من أجلهم لهو فشلٌ موصومٌ بالعار وكاشفٌ. إنه ليس حقًا فشلًا، بل اختيارًا. إن العنصرية ضد المهاجرين أثقل بكثير لدى جونسون وبايدن من ديونهم الإنسانية.

لا تزال حملات الترحيب باللاجئين ممكنة. بالطبع ستقف مثل هذه الحجة الأخلاقية ضد العنصرية والإسلاموفوبيا في كلِّ منعطف. لكن في الأسابيع الأخيرة، جمَّدَت حكومتا ألمانيا وهولندا كلَّ ترحيلات الأفغان.

كلُّ سياسيٌّ، في أيِّ مكان، يتحدَّث دعمًا للنساء الأفغانيات، يجب أن يُطلَب منه، مرارًا وفي كلِّ مرة، أن يفتح الحدود أمام جميع الأفغان.

ثم هناك ما قد يحدث لقومية الهزارة. كما قلنا من قبل، كفَّت طالبان عن أن تكون ببساطة مجرد حركةٍ بشتونية، وصارت أوسع على المستوى القومي، إذ صارت تضمُّ الكثير من الطاجيك والأوزبك. وأيضًا، كما يقولون، بعضًا من الهزارة، لكن ليس الكثير منهم.

الهزارة هم أولئك الشعب الذين عاشوا لأزمانٍ في الجبال الوسطى في أفغانستان. هاجَرَ الكثيرون منهم إلى مدنٍ مثل مزار وكابول، حيث عملوا في حمل البضائع، وغيرها من المهن منخفضة الأجر. يشكِّل الهزارة حوالي 15% من السكَّان. وتمتد جذور العداء بين البشتون والهزارة إلى نزاعاتٍ طويلة الأمد حول الأرض وحقوق الرعي.

لكن النقطة المهمة أيضًا مؤخَّرًا أن الهزارة شيعة، بينما معظم الأفغان الآخرين سنَّة. ولقد أدَّت الصراعات بين السنَّة والشيعة في العراق إلى انقسامٍ في التقاليد الإسلامية المتشدِّدة. وهذا الانقسام مُعقَّدٌ، لكنه مهمٌّ ويحتاج إلى القليل من التوضيح.

في العراق وسوريا، ارتكب تنظيم الدولة الإسلامية مذابح بحقِّ الشيعة، مثلما ارتكبت مليشيات الشيعة مذابح ضد السنَّة في كلا البلدين. ظلَّت شبكات القاعدة الأكثر تقليدية تعارض بشدة الهجوم على الشيعة، ونادت بالتضامن بين المسلمين. أحيانًا ما يشير الناس إلى أن والدة أسامة بن لادن هي نفسها شيعية -في الحقيقة هي علوية من سوريا. لكن ضرورة الاتحاد صارت أكثر أهمية. وهذه هي المشكلة الرئيسية في الانقسام بين تنظيميّ القاعدة والدولة الإسلامية.

في أفغانستان، نادت طالبان بقوة من أجل الوحدة الإسلامية. والاستغلال الجنسي للنساء على يد تنظيم الدولة الإسلامية يُعَدُّ أمرًا بغيضًا بشدة بالنسبة لقيم طالبان، التي هي متحيِّزةٌ بشدة ضد النساء، لكنها أكثر اعتدالًا. ولسنواتٍ عديدة، كانت طالبان الأفغانية مُتَّسِقةً في إدانتها العلنية لكلِّ الهجمات الإرهابية على الشيعة والمسيحيين والسيخ.

لكن هذه الهجمات كانت تُشنُّ بالفعل. ولدى أفكار الدولة الإسلامية تأثيرٌ خاصٌّ على طالبان الباكستانية. وفي حين أن طالبان الأفغانية تمثِّل تنظيمًا، فإن طالبان الباكستانية شبكةٌ فضفاضة، لا تقع تحت سيطرة الأفغان. وقد نفَّذوا تفجيراتٍ ضد الشيعة والمسيحيين في باكستان.

إن الدولة الإسلامية وشبكة حقاني هما اللذان نفَّذا التفجيرات الإرهابية الأخيرة بحقِّ الهزارة والسيخ في كابول، بينما أدانت قيادة طالبان كلَّ هذه الهجمات.

لكن السيولة لا تزال سيدة الموقف. يمثِّل تنظيم الدولة الإسلامية أقليةً منفصلةً عن طالبان، ويتموقع بالأساس في ولاية ننكرهار في الشرق، ويكره الشيعة بمرارةٍ شديدة. وينطبق الحال على شبكة حقاني، وهي جماعةٌ من المجاهدين تقع بشكلٍ كبير تحت سيطرة الاستخبارات العسكرية الباكستانية. غير أنه، في هذا المزيج الراهن، اندمجت شبكة حقاني مع تنظيم طالبان، وزعيمهم الآن صار أحد قادة طالبان.

لكن ما مِن أحدٍ واثقٌ مِمَّا يحمله المستقبل. في العام 1995، منعت انتفاضةٌ لعمالٍ من الهزارة في ولاية مزار طالبان من السيطرة على الشمال. لكن تراث الهزارة في المقاومة تمتد لما هو أعمق وأقدم كثيرًا من ذلك.

قد يقع لاجئو الهزارة في البلدان المجاورة في خطرٍ الآن هم أيضًا. تتحالف حكومة إيران مع طالبان، وترجو منهم أن يتحلوا بالسلمية. وهم يفعلون ذلك لأن هناك ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني في إيران بالفعل، ومعظمهم يعيش هناك منذ سنواتٍ عديدة، وأغلبهم من عمال المدن الفقراء وعائلاتهم، وغالبيتهم من الهزارة. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الحكومة الإيرانية، التي تعيش ضائقةً اقتصادية بائسة، في ترحيل الأفغان إلى أفغانستان.

هناك أيضًا حوالي مليون من الهزارة في باكستان. وفي المنطقة حول مدينة كويتا الباكستانية، قُتِلَ أكثر من خمسة آلاف منهم في اغتيالاتٍ ومذابح طائفية في السنوات القليلة الماضية. ولم تقم الشرطة ولا الجيش الباكستاني بأيِّ شيء. وبالنظر إلى الدعم طويل الأمد من جانب الجيش الباكستاني والاستخبارات الباكستانية لطالبان الأفغانية، فإن هؤلاء الناس في خطرٍ أكبر في اللحظة الحالية.

ماذا يمكنكم أن تفعلوا خارج أفغانستان؟ مثل أغلب الأفغان أنفسهم، صلوا من أجل السلام، وانضموا إلى الاحتجاجات لفتح الحدود.

سنترك الكلمة الأخيرة لجراهام نايت. قُتِلَ ابنه، الرقيب بِن نايت، من القوات الجوية الملكية البريطانية، في أفغانستان في العام 2006. منذ أسابيع قليلة، قال جراهام نايت إن الحكومة البريطانية كان يجب أن تتحرَّك سريعًا من أجل إنقاذ المدنيين:

“لم نُفاجأ بأن طالبان استولت على السلطة، لأنه بمجرد أن قال الأمريكيون والبريطانيون إنهم سيرحلون، عرفنا أن هذا سوف يحدث. وقد أوضحت طالبان نيَّتها بوضوحٍ شديد أنه بمجرد أن نغادر، سوف يتقدَّمون.

“أما فيما يتعلَّق بما إذا كان أناسٌ قد فقدوا أرواحهم في حربٍ لم يكن الظفر بها ممكنًا، فأعتقد أن الأمر كذلك. أعتقد أن المشكلة كانت أننا كنَّا نحارب أناسًا ينتمون إلى بلدهم الأصلي. لم نكن نقاتل إرهابيين، بل أناسًا عاشوا بالفعل هناك ولم يعجبهم وجودنا”.

مراجع:
– Fluri, Jennifer L. and Rachel Lehr. 2017. The Carpetbaggers of Kabul and Other American-Afghan Entanglements. Athens OH: University of Georgia Press.

– Giustozzi, Antonio. 2007. Koran, Kalashnikov and Laptop: The Neo-Taliban Insurgency in Afghanistan. London: Hurst.

—, ed. 2009. Decoding the New Taliban: Insights from the Afghan Field. London: Hurst.

—, 2021. ‘The Taliban have retaken Afghanistan – this time, how will they rule it?’ The Guardian, August 16.

– Gregory, Thomas. 2011. ‘Rescuing the Women of Afghanistan: Gender, Agency and the Politics of Intelligibility.’University of Manchester PhD thesis.

– Hirschkind, Charles and Saba Mahmood. 2002. ‘Feminism, the Taliban and the Politics of Counterinsurgency.’ Anthropological Quarterly, 75(2): 339-354.

– Hughes, Dana. 2012. ‘The First Ladies Club: Hillary Clinton and Laura Bush for the Women of Afghanistan.’ ABC News, March 21.

– Jalalzai, Zubeda and David Jefferess, eds. 2011. Globalizing Afghanistan: Terrorism, War, and the Rhetoric of Nation Building. Durham: Duke University Press.

– Klaits, A. & G. Gulmanadova-Klaits. 2005. Love and War in Afghanistan, New York: Seven Stories.

– Kolhatkar, Sonali and James Ingalls. 200. Bleeding Afghanistan: Washington, Warlords, and the Propaganda of Silence. New York: Seven Stories.

– Lindisfarne, Nancy. 2002a. ‘Gendering the Afghan War.’ Eclipse: The Anti-War Review, 4: 2-3.

—. 2002b. ‘Starting from Below: Fieldwork. Gender and Imperialism Now.’ Critique of Anthropology, 22(4): 403-423, and in Armbruster and Laerke, 23-44.

—. 2012. ‘Exceptional Pashtuns?’ Class Politics, Imperialism and Historiography.’ In Marsden and Hopkins.

– Lindisfarne, Nancy and Jonathan Neale, 2015. ‘Oil Empires and Resistance in Afghanistan, Iraq and Syria.’ Anne Bonny Pirate.

—. 2019. ‘Oil, Heat and Climate Jobs in the MENA Region.’ In Environmental Challenges in the MENA Region: The Long Road from Conflict to Cooperation, edited by Hamid Pouran and Hassan Hakimian, 72-94. London: Ginko.

– Manchanda, Nivi. 2020. Imagining Afghanistan: The History and Politics of Imperial Knowledge. Cambridge: Cambridge University Press.

– Marsden, Magnus and Benjamin Hopkins, eds. 2012. Beyond Swat: History, Society and Economy along the Afghanistan-Pakistan Frontier. London: Hurst.

– Mihailovič, Konstantin. 1975. Memoirs of a Janissary. Ann Arbor: University of Michigan Press.

– Mount, Ferdinand. 2008. Cold Cream: My Early Life and Other Mistakes. London: Bloomsbury.

– Mousavi, Sayed Askar, 1998. The Hazaras of Afghanistan: An Historical, Cultural, Economic and Political Study. London: Curzon.

– Neale, Jonathan. 1981. ‘The Afghan Tragedy.’ International Socialism, 12: 1-32.

—. 1988. ‘Afghanistan: The Horse Changes Riders,’ Capital and Class, 35: 34-48.

—. 2002. ‘The Long Torment of Afghanistan.’ International Socialism 93: 31-59.

—. 2008. ‘Afghanistan: The Case Against “the Good War”.’ International Socialism, 120: 31-60.

– Nojumi, Neamatollah. 2002. The Rise of the Taliban in Afghanistan. New York: Palgrave.

– Rico, Johnny. 2007. Blood Makes the Grass Grow Green: A Year in the Desert with Team America. New York: Presidio.

– Tapper (Lindisfarne), Nancy. 1991. Bartered Brides: Politics, Gender and Marriage in an Afghan Tribal Society. Cambridge: Cambridge University Press.

– Tapper, Richard, ed. 1983. The Conflict of Tribe and State in Iran and Afghanistan. London: Croom Helm.

– Tapper, Richard, with Nancy Lindisfarne. 2020. Afghan Village Voices: Stories from a Tribal Community. London: I.B. Tauris.

– The Guardian, 2021. ‘Afghanistan Live News.’ August 16.

– Ward, Lucy, 2001. ‘Leader’s Wives Join Propaganda War.’ The Guardian, Nov 17.

– Zaeef, Abdul, 2010. My Life with the Taliban. London: Hirst.

– Zilizer, Barbie. 2005. ‘Death in Wartime: Photographs and the ‘Other War’ in Afghanistan.’ The Harvard International Journal of Press/Politics, 10(3): 26-55.

هوامش:
(1) انظر أيضًا بالأخص إلى: Nancy Tapper (Lindisfarne), 1991; Lindisfarne, 2002a, 2002b and 2012; Lindisfarne and Neale, 2015; Neale, 1981, 1988, 2002 and 2008; Richard Tapper with Lindisfarne, 2020.
(2) Giustozzi, 2007 and 2009 مفيدان بصورةٍ خاصة.
(3) حول الأساس الطبقي لطالبان، انظر: Lindisfarne, 2012, and many chapters by other authors in Marsden and Hopkins, 2012. And see Moussavi, 1998; Nojumi, 2002; Giustozzi, 2008 and 2009; Zareef, 2010.
(4) Zilizer, 2005.
(5) هناك قدرٌ هائلٌ من الأدبيات حول إنقاذ النساء الأفغانيات. انظر: Gregory, 2011; Lindisfarne, 2002a; Hirschkind and Mahmood, 2002; Kolhatkar and Ingalls, 2006; Jalalzai and Jefferess,2011; Fluri and Lehr, 2017; Manchanda, 2020.
(6) Ward, 2001.
(7) Lindisfarne and Neale, 2015.
(8) لمزيدٍ من الاطلاع عن الجفاف في 1971، انظر:
(9) Tapper and Lindisfarne, 2020. For more recent climate change, see Lindisfarne and Neale, 2019.
(10) Giustozzi, 2021.
(11) The Guardian, 2021.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تعتدي على متظاهرين متضامنين مع الفلسطينيين ف


.. شاهد لحظة مقاطعة متظاهرين مؤيدون للفلسطينيين حفل تخرج في جام




.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل