الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مبادئ وقناعات متحولة......قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 9 / 15
الادب والفن


لا أجد أمامي سوى زوجتي.. لأفرغ حمولات الهموم اليومية التي ترافقني حيث اتجهت.. رغم علمي أنها لا تهتم لأي أمر أحكيه لها.. إلا في اللحظة التي تسمعه مني.. فردُّ فعلها سريع ينعكس على وجهها بتأثر شديد.. وتمسح شيئا من الدمع لسماعها حدثا إنسانيا يؤلم النفس.. وما أن يستقر الموضوع في زاوية من دماغها.. حتى يشغلها موضوع خاص وبسيط في نظري.. لكنه في رأيها أهم من كل ما ترى وتسمع.
هي تريد أن تبدو في حالة جيدة من المظهر الذي يدعو للحسد من أقاربها وصديقاتها.. وتعمل لأجله دون كلل.. ومع ذلك فإني لا أجد من أفرغ له همومي اليومية سواها.. لأن ما أراه وما أسمعه لا يحتمل إبقاءه وكظمه في داخل الصدر.. لقد طفحت الكيول كلها.. ولم يبق متسع لتفريغ أي هم مهما كان صغيرا.. وتساوت زوايا الدماغ مع جميع المسطحات المجاورة.. حتى غدا لا يختلف عن قرعة رومية.
كجبل يرمي بثقله على صدري.. أي موضوع أتذكره منفردا لا يشاركني فيه أحد حتى زوجتي.. ولا أشعر بما يحدث لي.. حين يرتفع صوتي.. لأناقش الأطراف المعنية.. وكأنهم حاضرون.. وأضع الحلول الصحيحة والعادلة.. ولو شاهدني ساعتها أي واحد يمر بي.. لتيقّن أن لوثةً ألمّتْ بي.. حتى لو علِم سبب ضيقي وهيجاني.. فأنا بطبعي أخشى ثلاثة أشياء قريبة منا باستمرار.. الظلم.. والمرض.. والفقر.. لكن أكثر إزعاجا وقهرا منها كلها.. هو الظلم.. لأنه يقع من البشر على غيرهم من البشر.. وليس أقسى من الظلم الذي يقع على شخص واحد كل عام.. مثلما يحدث لصديقي المدرس.. الذي يتقدم بطلب نقل رسمي من مكان عمله في مدرسة بعيدة عن المدينة حيث يسكن أكثر من أربعين كيلو مترا.. شاهدته مرة وقد أزهرت نفسه فرحا.. وحسدته على تفاؤله الذي حل به.. يلوّح مبتهجا ويقول.
( اليوم سآخذ حقي.. أما يكفي كل تلك السنين؟ ).
تنتهي تشكيلات التنقلات السنوية للمدرسين والمعلمين كل عام جديد.. ينتقل من ينتقل.. ويظل صديقي في مكانه.. ولكنه يستمر في متابعة حقه عند المختصين الذين يقولون له.
( حتى يأتي دورك.. لم يأت دورك بعد).
يجلجل بصراخه في أرجاء المديرية.. وفي الغرف والممرات.. يصاب بتشنجات في حنجرته وأعصابه.. وما عليه أخيرا إلا أن يعود إلى مكان عمله كما كان.
بعد أن انتهت المدة المحددة للتنقلات نهاية الصيف.. ومضى أكثر من شهر.. فجأة تم نقل صديقي وبدون ضجيج أو صراخ إلى مدينته قرب بيته.. حين التقيته وهنّأته.. أسرّ لي أنه دفع عشرة آلاف .. ولو لم يدفعها.. قد يقضي بقية حياته بعيدا عن مدينته وبيته.
عدت لطبعي وحكيت لزوجتي.. فقالت.
( هذا لا يملك شيئا من الصبر.. عليه أن ينتظر ليأتي دورُه.. لو صبر كان وفّر هذا المبلغ لأولاده.. هم أحق به )
وكما هي عادتها لم تهتم للأمر أو تتأثر به.. لكني منزعج منها تماما كما أنزعج من بعض الظالمين.. قلت لها بانفعال وتوتر .
( كيف يصبر؟.. وإلى متى؟.. وهو يرى كل سنة معلمين ينتقلون وليس عندهم أكثر من سنة في التعليم؟..
اسمعي.. اسمعي.. جارُنا يريد أن يصطحب ابنه إلى بلد عربي حيث يعمل.. فأكد له المسؤولون أن ابنه لا يمكن أن يخرج قبل شهر.. فهذه إجراءات وعليه أن ينتظر.. جاهد الرجل لتقريب المدة.. لأسباب تفرضها مدة الإقامة لديه.. فهو سيغادر بعد أسبوع ولا يريد أن يترك ابنه بمفرده.
استطاع أن يصل إلى بعض أهل الخير.. الذين لهم أياد تمتد إلى أي اتجاه.. وتحل أية مشكلة.. فيتم له تحديد أسبوع فقط للسفر.. ويسافر الولد مع أبيه.. قالت.
( ألا ترى أن الصبر قد يثمر بدون أن يخسر الانسان شيئا).
ابتسمتُ ألما وسخرية وقلت لها.
( لكن جارنا دفع عشرة آلاف ليرة).
نفختْ قائلة.
( ومن أين يأتي المرء بعشرات الآلاف؟).
ذكّرتها بابن سعد الدين.. فلم تتذكره.. فاختصرتُ لها قصتَه.. قالت.
( الشاب الذي فُقِئت عينه.. ماذا حل به؟)
قلت لها.
( مسكين .. دخل المشفى وتم تطبيبه كيفما اتفق.. ثم نقل إلى السجن.. فالتقى بغريمه الذي قلع عينه.. لكن هذا لم يطل سجنه.. خرج بعد أسبوع.. لأن أباه دفع خمسين ألفا.. ثم خرج خارج البلاد.. أما ابن سعد الدين لازال في سجنه بعين واحدة).
دمعتْ عيناها وهي تقول.
( حرام.. والله حرام.. وأكبر ظلم).
لكني على يقين أنها ستنسى الأمر بعد مضي دقائق قليلة.. ولم يعد يهمها شيء.
*****
صرتُ اشعر بأن صدري يتحول إلى بالون ينتفخ رويدا رويدا.. وقد ينفجر دون إحداث أي أثر.. إلا من بقايا صدى يعبث به الأطفال.. وقبل أن ينفجر.. تلقاني حظٌ عظيم.. وسافرت للعمل في دولة خليجية.. وشاهدت ما ينتاب الناس ما ينتابني هنا.. وعانيت ما يعانون منه.
مضى الزمن رتيبا.. وكنت في شوق شديد للعودة إلى زوجتي وأطفالي.. كان يرافقني في العودة أحد المدرسين الذين سبقوني.. وصار لديه تجربة في الدخول والخروج من منافذ الحدود والمطار. أسرّ لي ونحن ندفع أمامنا عربتينا متوجهين نحو الجمارك.
( انتبه.. لا تعطي أكثر من خمس مئة ليرة.. تكفي لكي لا يعرقلك ويفتح لك حقائبك).
أخذت الموضوع بجد.. ولمته كثيرا لأنه تغيّر فجأة.. فأكّدتُ له أنه بهذا يشجع على الرشوة والفساد.. فقد تنازل عن كل ماكنت أسمعه منه من مبادئ وقيم أخلاقية رفيعة.. لم يعرني اهتمامه.. سبقني إلى الطاولة الرخامية.. دفع خمس مئة ومضى مبتسما دون أن يلتفت.
كنت بعده مباشرة.. فتح الموظف كل حقائبي.. ملأ ورقة بأسماء الأشياء الموجودة لدي.. حتى السيشوار الذي لا يفارقني.. فهو صناعة سورية.. لكن لم تُجدِ مناقشتي له لأنه طلب إثبات ذلك بوثيقة رسمية لا أملكها.. فأخذه ولم يعده إليّ أبدا.
أنهيت معاملات تصريف النقود.. دفعت المطلوب للجمارك.. أخذت حقائبي ومضيت.. تلفّتُّ حولي أبحث عن رفيق سفري.. لم أجده.. فعذرته لأني تأخرت كثيرا.


*****

كنت سعيدا أثناء توزيع الهدايا على زوجتي وأولادي.. لمحتها في حالة من اللامبالاة.. وتأففت بامتعاض.
العودة من حيث كنت.. أهون عليّ من فتح باب للمجادلة والمعاتبة.. استمريت أفتعل السعادة بلقائي بها.. لكنها لم تستمر في صمتها وسخريتها.. سألتني عن سعر بعض القطع القماشية.. قارنته بالأسعار في أهم وأغلى سوق هنا.. وصرختْ في وجهي.
( وهل كنت تلملم نقودك من الأرصفة وشاطئ البحر؟).
تساءلتُ بدهشة عن دهشتها.. فأكدتْ لي أن ما جئتُ به موجود في سوق الحميدية والصالحية والحمرا.. بأقل من نصف الثمن.. قلت لها.
( هذا صحيح إذا أضفنا له رسوم الجمارك ثلاثة أضعاف ). أشاحت بيدها وقالت بغضب.
( ولماذا لم تجلب شيئا له قيمة؟.. تلفزيون.. فيديو.. كاميرا فيديو.. عطورات فرنسية.. ساعات.. مكنة كبة ولحمة.. مكنة تنظيف.. سي دي).

*****

أمضيت سنة أخرى بعيدا عن الأهل والبلد.. وفي المطار.. كنت أدفع بعربة تحمل حقائبي وعلب كرتون دُوِّن عليها قابل للكسر.. تحتوي على كل ما ذكرتْه زوجتي من قبل.. وكان زميلي ورفيق سفري يدفع عربته.. همس في أذني.
( اسمع مني.. دع مبادئك وقناعاتك جانبا الآن.. وادفع خمس مئة.. أفضل من أن يعذبك ساعات ثم تدفع للجمارك أكثر منه بأضعاف). ضحكت بسخرية.. وأكّدتُ له وقلت:
( سأعمل بمبادئي وقناعاتي طبعا.. ولكن المبادئ والقناعات تتغير حسب تغير الظرف والحاجة.. ولن أدفع خمس مئة أبدا.. لأني أرى الأشياء بوضوح تام.. ورؤية سليمة.. حتى من الغربال.. أستطيع أن أرى كل الأشياء.. فأنا لست أعمى.. ولن أكون مثلك بخيلا.. سأدفع ألف ليرة)
توقف فجأة.. صار يمسحني بميزان نظراته المستنكرة من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس.. أحسست به يتراجع إلى الوراء ليبتعد عني .. كفريسة فوجئت بمفترس.. ابتسمتُ وأنا ألتفتُ إليه.. أسرع يلحق بي ويصرُّ على ثنيي عن قراري.. لكني أصريت على موقفي وقناعتي.. قلت له.
( كل مشكلة يتم حلها بدفع نقود هي ليست مشكلة.. ومن يدفع خمس مئة يدفع ألفا.. فسأحمي كرامتي وأكسب راحتي) .
سارت الأمور سيرا يسيرا.. سهلة الإجراء.. بسلامة وابتسامات طيبة.. وتحيات ودعوات تثلج الصدر ولم يعكِّر ساعتها أحدٌ أحدا.
فلماذا أكون شديدا صعبا وقاسيا وجدّيّا؟.. ولكي تسير أموري بيسر وسلامة وراحة.. عليّ أن أكون سهلا أيضا لينا طيب المعاملة.. مبتسم الشفة.. بشوش المحيا.. كريم اليد والنفس.. عند ذلك.. سيكون الطرف الآخر أيضا طيبا وكريما معي.. والمثل الشعبي يقول.. أطعم الفم.. تستحي العين.

*****

اكتشفت اكتشافا مبهرا.. وجدت عملا يمكنني أن أقوم به هنا في بلدي.. قررت عدم العودة للعمل في أي مكان .. وترك مهنة التدريس أيضا.. لأني سأقوم بمساعدة الناس على تسيير شؤونهم وأتعقب لهم معاملاتهم في دوائر الدولة ومؤسساتها .. فالناس غالبهم لا يعرفون كيف يسيّرون معاملاتهم.. ولم يحسنوا التعامل مع الموظفين.
بدأت ببعض النشاطات البسيطة.. وسرعان ما صار اسمي يتردد على ألسنة الناس بالمديح والثناء والشكر والتبجيل أيضا.. وصار لديهم قناعة أنني قادر على حل أي قضية مهما صَعُبتْ.. حتى لو كانت في القصر الجمهوري.. وكانت زوجتي تشجعني وهي سعيدة بما وصلتُ إليه من شأن.
أخرجت شابا في ربيع عمره من سجنه العرفي.. كان أبوه كريما جدا.. يبدو أنه عرف ثمن خروج ابنه.. واستطعت أن أحمي تاجرا ومقاول بناء.. يبني بدون ترخيص رسمي.. وبمخالفات كبيرة في مساحات العقارات.. وتقليل في تموين الحديد والإسمنت.. لكنه كان مبذرا في كرمه معي.. كما كنت كريما أيضا مع المســــ
صرت نجما مشهورا.. اسمي يتردد على ألسنة الناس في السهرات.. وفي كل مكان معروفا ولي شهرة عند مديريات ومؤسسات الدولة وبعض الوزارات.. وكان الموظفون يرحبون بي ويهتمون.. ويقدمون خدماتهم بسهولة ويسر.. كنا نتعاون حقا.. وكنت مثل زوجتي سعيدا حقا.

*****
تعبت من ضغط العمل وكثرة المراجعين ولم أنشئ مكتبا متخصصا.. فتحوّل بيتي إلى مكتب استشاري.. دائما يكتظ بالخلق نساء ورجالا.. أعداد تخرج وأخرى تدخل.. لا فرق بين بيتي وبين وكر مشعوذ أو دجال.
لم يعد لدي ساعة راحة.. لأستلقي وأتأمل في أمر ذاتي وخاص.. كطرح اسمي كوزير لوزارة أو نائب في مجلس الشعب لأستغل شعبيتي.. حتى عندما أكون في الساعات الأخيرة من الليل مع زوجتي.. يرن الهاتف.
( ألو .. نعم نعم.. ميت هلا.. ميت مرحبا.. من الذي بعثكم إلي في هذا الوقت؟.. هه.. عظيم.. هو قال لكم لا يمكن حلها إلا عندي؟.. طيب.. طيب.. شوف أخي تكرم.. غدا تأتي هنا أنتظرك ومعك خمس وعشرون ألف.. خلال يومين تنتهي مشكلتك.. بسيطة.. لا تهتم.. كل شيء نقدر عليه.

*****
بعد الغداء.. كنت أحاول سرقة لحظات استلقاء وإغفاءة.. طُرِقَ الباب ورُنّ الجرس بعنف واستمرار.. قامت زوجتي لتفتح.. سمعتها تناديني.. نهضتُ لأجد اثنين متجهمين.. قلت في نفسي.. أين الابتسامة والبشاشة والطيبة؟.. هذان لا يستحقان أية مساعدة.. سأطردهما الآن.
قال الأول.
( تفضل معنا يا سيد.. بسرعة ).
قلت.
( إلى أين آتي معكما؟.. وهل هذا وقت مناسب؟.. يا ناس اتركوني أستريح لحظات.. إن لجسدك عليك حقا.. وكما تشاهدون .. لست جاهزا.. ولماذا أنتما غاضبان؟.. ألهذا الحد مشكلتكما صعبة؟).
قال الثاني وهو يجرب أن يبتسم.
( ستعرف فيما بعد.. تعال أسرع الآن).
فضحكت وقلت.
( إي هه.. كنت سأطردكما.. لكن ابتسامتك أعادت لي صوابي.. تعالا في المساء .. أنا جاهز).
صرخ بانفعال.
( مطلوب للتحقيق يا سيد.. أسرع لا تكثر الكلام).
كانت لهجته صارمة حازمة.. اختفت الابتسامة وساد صمت قليل.. كنت أستعيد توازني.. ولم أجد تهمة تدينني وحدي في شيء.. قلت.
( أي تحقيق؟.. في أي موضوع؟.. ماذا فعلت غير مساعدة الناس على تسهيل معاملاتهم وشؤونهم؟.. ومتى كان التحقيق مع من يحترق لمساعدة الناس؟).
جذباني من كتفيّ بعنف شديد.. جراني خارج البيت.. ثم دفعاني دفعا غليظا.. لم أر شيئا من اللطف والابتسام والبشاشة طيلة مسافة الطريق.
حاولت مساومتهما.. فأنا أحل للناس اصعب المشاكل.. فلماذا لا أجرب حل مشكلتي بنفس الطريقة التي أحل بها مشاكل الناس؟.. يبدو أني اعتدت على حل مشاكل الناس فقط ونسيت نفسي.. قلت لهما.
( لو سمحتما لي بإدلاء رأي مفيد ).
نظرا إلي نظرة أحسست منها باحتقاري وضعفي وقلة حيلتي .. لكني تشجعت.. فليس أمامي حل آخر.. وقد ألفتُ مثل هذه النظرات في مواقف كثيرة.. تابعت القول.
( سأعطي لكل منكما عشرة آلاف.. شرط أن تعيداني إلى بيتي.. ولن أعود لمساعدة أحد مهما يكون الثمن).
أشار إليّ أحدهما أن أصمت.. فصمتُّ.
في هذه اللحظة.. بدأت أحسب للأمر ألف حساب.. ورحت أهيّئ دماغي للبحث عن مبادئ وقناعات جديدة.. تتلاءم مع ما يستجد من ظروف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا