الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدران عالية

محمد عبد الحليم عليان
كاتب و مؤلف للقصة القصيرة

(Eng.mohamed Abdelhaleim Alyaan)

2021 / 9 / 16
الادب والفن


كان جدي رحمه الله يعمل لدى تاجر كبير من الجاليات الأجنبية
التي كانت تتخذ من مصر سوقا كبيرة و رئيسية لتجارتها في عصر سابق
حيث كانت بلادنا مركز حضارة و رقي و تتسابق الجاليات الأجنبية على ضخ استثماراتها بها
بعد رحيل الملك حدثت بعض التغيرات التي دفعت الكثير من تلك الجاليات
في الإسراع في تصفية استثماراتها و العودة لبلادها
و كان من ضمن هؤلاء التاجر الكبير الذي يعمل معه جدي منذ طفولته
و الذي باع تجارته لتجار مصريين و أوصى أحدهم أن يستخدم جدي للعمل معه و يرعاه
و كذلك عقد اتفاقا مع جدي أن ينقل ملكية شقته الفاخرة التي كان يقطنها لجدي
علي أن يعده بإرسال ما يستطيع تدبيره من أموال سنويا إليه في بلاده
حتى يتم سداد مبلغ اتفقا سويا عليه
و تم نقل الملكية بالفعل بإسم جدي و الذي كان محل ثقة كبيرة جدا للتاجر
و كان مشهودا له بالأمانة و النزاهة
و إنتقل جدي و جدتي و معه والدي و عمتي لتلك الشقة الفاخرة
بذلك الحي العريق المطل على نيل القاهرة ( جاردن سيتي )
عمارة عريقة ذات طرز معمارية فريدة
الشقة بالدور الأرضي ترتفع بضعة درجات عن الشارع لها باب من ضرفتين مرتفع جدا
و بها العديد من الحجرات الواسعة ذات الحوائط العالية المزخرفة و جميع الحجرات مفروشة بأثاث فاخر
التزم جدي باستقطاع جزء من راتبه كل شهر ليجمعه و يرسله نهاية كل عام كما أتفق مع مالك الشقة السابق
بعد سنوات قليلة تزوجت عمتي و كان أبي قد بدأ عمله كمحصل قطار في هيئة السكك الحديدية
فقررت جدتي البحث له عن زوجة على أن يسكن معها في نفس الشقة الواسعة
و بالفعل اختارت له أمي و تزوجا و سرعان ما رزقا بي و بأختي الصغرى
في نفس التوقيت أيضا تزوج في الشقة التي تعلونا ابن مستشار كبير بمجلس الدولة
و الذي كان يخطو خطى والده أيضا فقد كان وكيلا للنائب العام و زوجته سيدة رقيقة و عطوفة جدا
كانت في نفس سن والدتي تقريبا و كانت تطلب من أمي أن تصعد لها بين الحين و الآخر
لتجلس معها و تعلمها بعض الأمور المنزلية التى لم تتعلمها في منزل والديها لأنها كانت الابنة المدللة لديهم
كنت في سنواتي الأولى و كانت أمي أحيانا كثيرة تصطحبني معها و تترك أختي الصغرى مع جدتي بشقتنا
كان جارنا جاف شديد الصرامة و التجهم على عكس زوجته و كان ينظر لنا بنظرة تعالي و ازدراء
كنت أشعر بها رغم اني طفل لا يدرك شيئا
و كنا كثيرا ما نسمع توبيخه لزوجته بسبب اختلاطها بأمي
سرعان ما رزقهما الله بإبنتهما الأولى و التى تصغرني بخمس سنوات
فزاد احتياجها لمساعدة أمي و التي لم تبخل عليها بالنصائح و المساعدة محبة فيها ليس إلا
و منذ أول مرة أشاهد فيها ابنتهما شعرت بإحساس غريب
و كأنها ملكي أنا و كأن إبتسامتها التي ترتسم على ثغرها ترتسم لي
و كأن صوت صرخاتها التى نسمعها من شقتنا هو نداء منها علي
كنت أصمم على ترك أي شئ أفعله حينما أعلم بنية أمي للصعود لهم لاصاحبها و أراها
كبرت شيئا فشيئا و كذلك أنا و كذلك إحساسي نحوها
مرت السنوات و أنا أتابعها تكبر أمام عيني دون أن أنطق
و قد منعتني أمي من الصعود معها لشقتهم و أصبحت تصطحب أختي بدلا مني
و كنت بعد عودتهن انفرد بأختي لأسألها عن كل تفصيلة حدثت
ماذا ترتدي و ماذا قالت و كيف كان شعرها و كيف كانت إبتسامتها و كل شيء عنها
و أختي تجيبني عن كل شئ و كأنها تشعر بلهفتي للمعرفة
أنهت مرحلتها الابتدائية و كنت أنا بالمرحلة الثانوية و طلبت من والدي
أن أنتقل للغرفة التي أسفل غرفتها مباشرة بحجة هدوء تلك الغرفة للتركيز في المذاكرة و قد كان
كنت استيقظ مبكرا و أرتدي ملابسي وأستلقي على السرير و عيني محدقةبالسقف
و أنصت حتى أسمع خطواتها تغادر السرير و تتحرك في الغرفة مستعدة للتوجه للمدرسة
و بينما تغلق خلفها باب شقتهم انتفض من على سريري و اهرول نحو بابنا
أضع أذني عليه لأسمع قرع حذاءها يدق درجات السلم فتتعالى دقات قلبي
حتى أكاد أظن أن كل الحي يسمع صوتها
حين تصل إلى الطرقةالمواجهة لشقتناأفتح سريعا باب الشقة
لأطالع وجهها المشرق الجميل تبتسم ابتسامة صغيرة وتومئ برأسها إيماءة تحية فأومئ مثلها
تكمل نزولها و أتبعها أتشمم عطرها الفواح و أتتبع خطواتها حتى تصل لباب مدرستها
و عيني لا تفارقها و بينما تطأ قدمها المدرسة تلتفت بلحظ عينيها مبتسمة في خجل فيقفزقلبي متراقصا من فرط السعادة
مرت السنوات و مر فيها ما مر فقد توفي جدي بعد أن سدد كامل ثمن الشقة كما كان اتفاقه مع صاحبها الخواجة
و لحقت به جدتي و تخرجت أنا من كلية الطب و التحقت هي بكلية الحقوق
و أصبح والدها مساعدا لوزير العدل و لا شئ تغير أبدا في روتين يومنا الصباحي
ككل يوم أنتظر خطواتها و أتبعها حتى الجامعة دون أن ينطق أي منا بكلمة سوى تلك الإبتسامات الخجلةالتي نتبادلها
و بعض الأسئلة التي يسألها كل منا عن الآخر من خلال أختي و التي أصبحت مقلة جدا في زيارتها
بعدما انشغلت كل منهن في دراستها فأختي هي الأخرى في سنتهاالنهائية بكلية الهندسة
بدأت عملي مباشرة بعد التخرج بمستشفى القصر العيني
و بدأت في التجهيز للدراسات العليا و اخترت جراحة القلب كتخصص
و كان والدي قد بلغ سن التقاعد فأنهى عمله بالسكة الحديد كبير مفتشي التحصيل
و رغم مرور كل تلك السنوات إلا أن
والدها لم يتغير أو تلين ملامحه بل ازدادت قسوة و حدة و غلظة
ونظراته مليئة بالإزدراء
و رغم ذلك مشاعري تجاهها تزداد يوما عن يوم
و أشعر بنظرات أبي و أمي و تترامى إلى أذني همساتهم
ألم يأن الأوان ؟ ألن ينطق و يفصح عن رغبته بها ؟
و أكاد أرد عليهم صارخا نعم أريدها و لم أحلم بشريكة عمر غيرها
فترتسم أمام عيني نظرات أبيها التى تزداد حنقا مع كل نجاح لي و كأنه يستكثر علي التفوق و النجاح
فأمتنع عن الرد و كأني لم أسمع همسهم
غدا نتيجتها النهائية سأذهب من الفجر لكليتها و أنتظر وصولها
لأزف لها بشرى حصولها على الليسانس و أصارحها بمشاعري بالفعل
بعدما إطمئنيت على نتيجتها وقفت بالقرب من باب الكلية أترقب وصولها
فإذا بي أراها تتأبط ذراع رجل أنيق و تتقدم نحوي و تلقي التحية
متسائلة عن سبب وجودي بالكلية و بينما عيني تسألها من هذا ؟
كانت شفاهي ترد بأن زميلي كلفني بإحضار نتيجة حبيبته
تلتفت لذلك الرجل الذي تتأبط ذراعه و تقدمني له بأني جارها بالعمارة
و بأنه استاذها بالجامعة و والده زميل و صديق مقرب لوالدها فيسارعها هو بقوله
و خطيبها فتنزل الكلمة كالصاعقة على مسامعي
انصرف و أنا أجر ساقاي و صوت المنطق يعلو داخلي
من أكون لأحلم بها زوجة لي و هل لو صارحتها بحبي
و الذي أكاد أجزم أنها تشعر به و تعيه جيدا
هل لو صارحتها ستترك المستقبل و الأصل العريق أستاذ الجامعة ابن المستشار
من أجل طبيب شاب والده محصل قطار سابق كل ما يملكونه من الحياة شقة لولا رحمة الله ما حلموا بها يوما
اتخذت قراري أن أكرس حياتي لعملي و جمعت بعض احتياجاتي الضرورية و انتقلت لسكن الأطباء بالمستشفى
و شغلت وقتي بالعمل و الدراسة و حتى في زياراتي القليلة لمنزلنا كنت اتحاشى سماع أي خبر عنها
ذات ليلة و أنا بقسم الطوارئ بالمستشفى اتفقد الحالات فإذا برائحة أألفها جيدا تسلل إلى أنفي نعم إنها رائحتها
أتلفت أمامي يميني يساري خلفي فلا أجدها أخرج من باب الطوارئ حتى باب الإستقبال
ألمح سيارة إسعاف يفتح بابها و تنزل منها ممسكة بيد رجل يرقد أمامها أجري نحوها فإذا به والدها ذلك المريض
أخضعه للكشف الفوري و الفحوصات السريعة دون أن أنطق بكلمة لها يتبين لي أنه يحتاج لجراحة عاجلة و تدخل سريع لإنقاذ قلبه
آمر بتجهيز حجرة العمليات فورا و أجري له الجراحة دون مشورتها أو موافقتها
و بينما هو في الإفاقة و قد تمت الجراحة على أكمل وجه
بدأت الحديث معها عما أدى لتلك الحالة المتدهورة فجأة
فتتساقط دموعها و هي تحكي لي أن شقيقها الأصغر تكرر رسوبه في جامعته الخاصة
حتى أصبح مهددا بالطرد من الجامعة لاستنفاذ مرات الرسوب بالإضافة أنه على علاقة براقصة أوكرانية
تعمل في ملهى ليلي هنا و أفصح عن نيته الزواج بها و كان ذلك في حضور زوجي الذي ما إن سمع ذلك
حتى هدد بالانفصال عني خوفا على سمعته و سمعة والده من زيجة كتلك
فإنهار والدي و سقط مغشيا عليه و انصرف أخي و زوجي و تركاه هكذا
فلم أجد حل سوى الاتصال بالاسعاف لتنقلني لتلك المستشفى تحديدا
لأني أثق أنك الوحيد الذي سيقف معي و مع والدي في محنة كتلك
(و بينما تحادثه نظرت إلى عينيه فإذا بعينيها يذرفان الدمع على ما فرطت ...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة تمس شغاف القلب
محمد عبد الحليم عليان ( 2021 / 9 / 16 - 13:26 )
القصة تمس شغاف القلب و تشعر القارئ بأنها واقعية و
أربما عايش أحداثها و تجعله يتفاعل معها و ينفعل
أحداثها
أتمنى أن تنال إعجاب القراء و استحسانهم

اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟