الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رباب … ! (قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 17
الادب والفن


حيّنا كغيره من بلاد الله الواسعة تقل فيه الحركة في مثل هذا الوقت من اليوم .. يخف الزحام ويهدء الصخب ويعم السكون .. لا صوت ولا ضجيج .. حتى الكلاب تكف عن النباح .. الكل صامت مترقب لآذان المغرب ، ومع اول تكبيرة يطلقها المؤذن تنسحب الى الداخل جماعات من مدمني الجلوس على اعتاب المنازل ، فتبدو الشوارع خالية أو تكاد .. تهب في الارجاء روائح القلي ، وخبز التنور استعداداً للعشاء ، فالناس في ذلك الزمان يتناولون عشائهم بعد الصلاة مباشرة ، وينامون نوم العصافير ، ويستيقظون باستيقاظها … هكذا كان حينا ، وهكذا كانت الحياة !
كنتُ عائداً من بيت خالي الذي لا يبعد عن بيتنا سوى زقاقين بعد ان انهيت تحضير دروس الغد مع ابن خالي الذي يشاركني نفس الصف ، ونفس المرحلة الابتدائية .. بينما كنت اهم بدخول زقاقنا الضيق استوقفني ما شاهدته من رجل يبدو طويل القامة ، رث الثياب هزيل البنيان ، وهو واقف يتبول ، ووجهه الى الحائط .. يدندن بصوت خافت نغماً غير مفهوم ، وجسده يتمايل قليلاً ..
وعندما سمع تردد وقع اقدامي التفت .. فرأيت في تعابير وجهه أسى واكتئاب ، وقسمات متعبة مكدودة .. جرحتها ، وخشّنتها قسوة الحياة وفضاضتها .. قد يكون صريع ذكريات أليمة كانت تطوف في ذهنه في تلك اللحظة حفّزتها الخمرة الرخيصة التي دلق منها فوق حاجته ! وقفت متسمراً في مكاني يركبني الخوف ويسيطر علي الاضطراب .. كيف لي ان امر واواصل سيري ، وهو يقف لي في منتصق الزقاق ، ويقطع علي الطريق ؟ كنت أمر من هنا ، وفي هذا الوقت كل يوم ، لا يهمني شئ ، ولا يخيفني شيء .. لكني ازددت خوفاً وارتباكاً عندما تأكد لي من خلال تصرفاته الغير طبيعية بانه سكران …
وكطفل .. كان عندي اعتقاد ربما رسخه ما كنت اسمعه من اهلي او من اناس آخرين .. لا اذكر من قصص بان السكران كالمجنون لا عتب عليه ان فعل أي شئ خارج حدود التوقع ، فالاثنين من فاقدي العقول .. خفت ان يصيبني منه أذى ، وتسائلت هل من الممكن ان يقوم باختطافي ؟ فسرت رعدة في اوصالي لمجرد تصور ذلك ، وتمنيت ان اعود الى بيتنا طائراً ، وزاد من قلقي وخوفي ان الظلام بدء يزحف !
فكرت ان اطلق ساقيّ للريح ، واعود من حيث اتيت ، ولكني لم افعل .. شعرت بالخجل من نفسي ان ابدو امامها جباناً رعديداً .. تقدم الرجل نحوي حتى اصبح في مواجهتي تماماً .. اقف امامه خائفاً منحني الهامة مطأطئ الرأس ، كمذنب بلا ذنب ، يتأملني قليلاً ، ثم يقول بصوت جاف ملتوي حاول ان يكون ناعماً ودياً :
— هل أنت خائف ؟ هززت رأسي بالنفي .. ثم اكمل :
— هل ترى ذلك الباب الازرق ؟ طرح سؤاله بنبرة لا املك معها إجابة سوى بنعم ، فهززت رأسي موافقاً ، ثم اشار الى بيت جارنا ابو شاكر .. ساعطيك عشرة فلوس اذا ذهبت وطرقته ، وان خرج لك أحد ، اطلب رباب ، وقل لها ابوكِ ينتظرك هنا ، واشار الى الارض باصبع عصبي مرتعش في دلالة على المكان …
ثم أخذ يطبطب على كتفي كأنه يشجعني او يصالحني .. كنت اعرف الباب والبيت واهله ، فهم جيراننا على بعد تقريباً خمس او ست بيوت ، والحي كله على أي حال متآلف ، والناس فيه عائلة واحدة ، والكل يعرف كل شئ عن الكل .. حاولت ان أحوم حول الموضوع لعلي اجد طريقا او وسيلة لأتخلص من هذا الموقف المحرج ، فقلت متوجساً : واذا خرج لي ابوهم ، ماذا اقول له ؟ بدا عليه التوتر ، والانزعاج ، حتى سمعت صرير اسنانه يطحن بعضها البعض ، فهتف في غضب : قل له اي شيء يخطر على بالك ، والان هيا .. ثم دفعني باتجاه البيت .. كنت مأخوذاً بهذا الجو الغريب ، فغافلتني دموعي ، ولم ترحمني هي الأخرى !
كان كل شئ يدعوني الى ان انهي مهمتي المفاجئة هذه بسرعة ، واعود الى بيتنا ، فالعصر بدء يضيق ، والظلام اخذ يزحف بشكل مخيف ، واكيد أمي قلقة عليَّ الان .. حرّكت رأسي بأني فهمت .. كنت قد سمعت أن أبا شاكر قد تزوج من امرأة مطلقة كانت بينها وبين طليقها مشاكل وشجارات لا احد يعرف اسبابها .. تحولت يوماً الى عاصفة عاتية كالاعصار ، اجتاحتهم جميعاً ، واقتلعت استقرار حياتهم الزوجية من جذورها ، فقذفت بالزوجة وابنتها رباب الى بيت اهلها ، والزوج الى الخمارة .. فاقدم اهلها على تطليقها منه لانه كان سكيراً عربيداً …
وعندما طلب ابو شاكر يدها بعد وفاة زوجته الاولى وافق الاهل لكنها اصرت ان تأخذ البنت معها … ! وبعد مرور سنين … كبرت الفتاة ، وبلغت الخامسة عشرة ، واصبحت صبية في نظارة العمر .. ممتلئةً انوثةً وحلاوة .. واليوم يريد ابو شاكر ان يزوجها الى رجل ثري يكبرها بعشرات السنين لغاية في نفسه .. ليضمها الى سرب حريمه حتى يمل منها يوماً فتصبح مهملات ، وهكذا .. !
بدء الليل يلف الزقاق بسواده الحالك .. الا من بصيص شاحب قادم من مصباح يتيم في الشارع ، توجهتُ الى بيت ابو شاكر ، وانا اسير على اطراف اصابعي دون صوت كأني لص .. اخوض في ظلام شبه دامس ، وارتجف من الخوف ، واتصبب عرقاً .. دائماً ما كان الظلام يبعث في داخلي نوعا من الهواجس ، ويلهب خيالي ، ويغذيه بخيالات مرعبة …
وصلت وطرقت الباب بينما فرائصي لا تزال ترتعد .. كنت ادعو الله ان لا يفتح ابو شاكر الباب لِما كنت اعرفه عنه من عصبية وسوء خلق ، ولحسن الحظ فتحت رباب الباب لان ابو شاكر كما يبدو كان يصلي المغرب ، والام مشغولة في اعداد العشاء ، فقلت لها ما قاله لي الرجل بالحرف .. مدّت الفتاة رأسها الى حيث كنت اشير .. لم ترى الأشياء بوضوح لان الزقاق كان شبه مظلم .. طلبتْ الاذن للحظة ثم عادت بعد ثوانٍ مرتديةً عبائتها ، سرنا معاً صامتين …
وعندما اقتربتْ من الرجل ، وكان منهاراً على الارض مستسلماً لاحزانه وآلامه .. اجهشتْ بالبكاء ، والقت بنفسها عليه تعانقه .. احتضنها بين ذراعيه ، وضمها الى صدره ، وقابلها البكاء بالبكاء ، واستمر يبكي وهو يواصل احتضانها ، واخذا يقبل بعضهم الآخر بحرارة .. لم اذكر اني رأيت رباب يوماً تبكي ، ولم استوعب كيف يمكن لمثل عينيها الواسعتين الجميلتين ان يخزنا كل هذه الدموع ، ثم انفجرنا كلنا نبكي كأنما لسعنا خاطر واحد ، حتى انا انتقلت الي عدوى البكاء ، فاجهشت دون ان اعرف على ماذا كنت ابكي !
تركتهم منهمكين في همومهم وغادرت ، ولم انتظر العشرة فلوس التي وعدني بها ، واسرعت الى بيتنا ، وعندما رأتني امي هالها ما رأت من حالي المزري ، وذهبت بها الظنون ، فتصورت أن شيئا قد حدث لبيت خالي ، لكني طمأنتها بأنهم بخير ، وان الاحمرار في عيني سببه غبار الشارع .. لم استطع النوم في تلك الليلة رغم التعب والرعب الذي مررت به ، فتمددت على فراشي مغمض العينين بلا نوم ، استعيد ذكرياتي في شجن !
وفيما تلا ذلك من أيام كان كل شيء يبدو طبيعياً وهادئا .. ربما حصلت اشياء اثناء غيابي في المدرسة ، لا ادري .. لم استطع ان اسأل اهلي او اي احد من الجيران .. حتى قفزت الى رأسي فكرة مفاجئة سارعت الى تنفيذها على الفور .. فاخترت وقتاً يكون فيه ابو شاكر في الشغل .. حملت كتبي ودفاتري ، وذهبت الى بيت ام رباب ، طرقت الباب ثم تنحيت جانبا … منتظراً من يفتح لي .. سمعت من يقول بصوت نسائي ناعم : من هناك ؟ عرفت فيه صوت جارتنا أم رباب ، وبعد هنيهة أطلت من الباب ، وهي ترتدي ثوباً لونه اصفر باهت كقشرة الليمون … يرتفع ذيله قليلاً عن الركبة … تهلل وجهها الجميل بِشراً ، وهي ترانى أمامها :
— أهلاً حبيبي ، تفضل … !
ادركتْ في الحال مقصدي ، فقد اعتدت على زيارتهم عندما كنت احتاج الى مساعدة في حل مسألة في الحساب قد استعصت علي ، والناس في الزقاق وفي الحي كله كانوا يعيشون اشبه ما يكون بمستعمرة للنمل يساعد بعضهم البعض .. فسحتْ لي مجالاً صغيراً للدخول ثم تقدمتني ، وهي تهز مؤخرتها المكتنزة الرجراجة ، ثم عادت الى عملها في لضم عقود البامية الجافة لتخزينها لأيام الشتاء التي باتت على الابواب …
كان البيت صامتا هادئاً .. خطوت الى الداخل حريصاً على أن تكون خطواتي منتظمة ومتماسكة ، وأن لا يبدو عليّ شيء من ارتباك ، فينكشف مقصدي الحقيقي .. أشارت الى غرفة رباب ، وكأنها تدعوني الى الذهاب الى هناك …
نقرت على الباب نقراً خفيفاً ، ثم دخلت فرأيت رباب منزوية في ركنٍ من الغرفة في وضع القرفصاء ، ورأسها منكسة ، ويدها تسند جبهتها ، وتحدق في لا شيء كأنها مستغرقةً في تفكير عميق .. تبدو سارحة في عالم آخر حتى شككت بانها قد رأتني أو حتى شعرت بوجودي … لمحتها وهي تزيح شعرها الى الخلف ، وتركن ظهرها الى الوراء ، وتنظر الي بعيون انهكها البكاء .. يبدو انها ادركت عدم حاجتي الى مساعدة ، وانها لم تكن سوى عذر ، فاكتفت بأن سألتني بلهفة عن تلك الليلة …
سردت عليها ما جرى بالتفصيل ، ولم انسى او اغفل عن شيء ، وكانت تصغي بانتباه شديد ، ثم عادت الى البكاء ، وبدأت تنشج وأخذ جسمها كله يهتز .. احسست بالذنب لانني كنت سبباً في استثارة دموعها ، لكن ايماني باني كنت ضحية انا الاخر قد نزع عني ذلك الإحساس ، شعرتُ بالحرج والالم معاً على هذه الفتاة الضحية .. لم يكن بيدي شيء افعله ، ثم اهملتني وعادت الى سرحانها … لم يعد لدينا ما يقال ، احسست بأن وجودي لم يعد له لزوم فانسحبت .. غادرت بعد ان حمّلتني ام رباب سلاماً وتحية الى والدتي … عدت الى البيت كما ذهبت لم اتخلص من حيرتي ، ولم اطفئ لظى فضولي ، وحينها قررت ان أترك الموضوع خلفي ، وأعود الى حياتي ، وانتبه الى دروسي !
ينبثق صباح شاحب جديد ، ويبدأ يوم طويل كغيره من الايام ، ويليه آخر ، ثم تعود الحياة الى وتيرتها ، وفي يوم كنت عائداً من المدرسة لمحت نفس الرجل يحوم في المكان ، وقد بدا مختلفاً تماما .. نظيفاً مهندماً هادئاً حلو التقاطيع جذاب الملامح ، رافلا في بدلة رمادية غاية في الاناقة .. كأنه شخص آخر .. ذهب عنه ذاك التوتر ، وتلك الخشونة التي رأيته عليها في تلك الليلة الليلاء .. ولم تمضِ الا فترة قصيرة انشغلت فيها بالحديث مع ابن خالي .. التفت فلم اجد للرجل من أثر حتى راودني الشك في سلامة عقلي ، وتصورت انني اتوهم رؤيته من كثرة ما كان يأخذه موضوعه من اهتمام في عقلي وتفكيري …
استيقظنا يوماً على جلبة ، وحركة غير طبيعية في بيت ام رباب كأنه شجار او صراخ مكبوت .. تعالت الاصوات وتداخلت … انتشرت الاشاعات والاقاويل كالدخان ، وكأنها على موعد مع هذا الحدث ، وواصلت الالسن ثرثرتها حتى أفرغ كل واحد ما في جرابه من خواطر وتخرصات وأوهام ، والكل تقريباً اجمعوا ، ومن ضمنهم اهلي بأن الفتاة قد شلحت مع عشيق لها .. الغريب في الامر ان لدى الناس مقدرة خارقة في اكتشاف المصائب ، ومناقشتها والتمتع بالحديث عنها ، والاضافة اليها ، والمبالغة فيها … !
كنت اسمع هذه الثرثرة ، وانا ابكي في سري كما لم ابكي في حياتي حتى ذلك الوقت على الاقل ، والالم يعتصر قلبي .. اولاً لفراق هذه الفتاة التي كان لها حصة مهمة من سنين عمري لاتزال حلاوتها على اطراف حلقي لحد اللحظة ، والى ما كانت تتعرض له المسكينة من ظلم وتعسف وتجني .. لم يعرف الحقيقة التي احتفظتُ بها الى هذه الساعة .. أحد غيري ، واعتبرتها سري الخاص ، واقفلت عليها .. بأن اباها اراد ان ينتشلها من مستقبل مظلم ارادوه لها .. ليس أكثر ، وأياً كان الامر فإن السهم قد نفذ ، والفتاة قد رحلت عن حيّنا ، وعن حياتي ربما الى الابد … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال