الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انعطافة لابد منها..... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 9 / 22
الادب والفن


يقول غوته: ( الحياة التي لا فائدة منها.. موت مبكر)
هذا صحيح , لكن الحياة التي لا حب فيها , إرضاء لتقاليد البيئة الاجتماعية , هي موت دائم , التمرد عليها فن عظيم.
_________________________________










- أنا جاهز للخروج.
وقف في مدخل الباب , نظيفاً , وسيماً , معطراً برائحة أنعشت خيشومها.. لامعاً كنجم , أنيقاً , يسوي ربطة عنقه بأصابعه, سعيدا.
لكنه لم يتلق اهتماماً منها , حتى التفاتة عابرة , ولا كلمة , خيّبت لامبالاتُها رهجه . كانت ترتّب قطع الغسيل بهدوء . ببرود , تطوي قطعة وتضعها بروية . تبقي يدها فوقها , تسرح وتفكر , تنسى نفسها , وفجأة تنتبه فتأخذ قطعة أخرى وببطء وملل , تطويها.
فوجئ بتجمد اللحظة , بدلو ماء بارد اندلق فوقه ،كآبة دهر تتغلغل في نفسه , كالسقوط في قعير مجهول.
هي التي طلبت منه الخروج في نزهة قصيرة إلى المدينة , أرادت أن تكسر رتابة الأيام , أن تغيّر لون الرماد مع من أحبت , لتصهل في الحدائق الفسيحة , لتزقو على الأرصفة بلا رقابة , تشارك نساء المدينة الدلال المنساب طبيعيا من غير تكلّف , وليفرح هو بها ومعها , ليحسد نفسه على سعادتهما , لن تطلب منه أي شيء , لا تحتاج , لديها كل شيء , فهي ما تزال عروساً , لم يمض على زواجها أشهر, لكن الصدمة التي نشبت في ذهنها واستقرت , قلبت حساباتها , غيرت من مسار تطلعها , كسرت أفق الفرحة , هشمت أباريق أملها.
تسّمر مكانه , مسحت الدهشة وجهه , خلطت ألوان نهاره بعشوائية , توقع شيئاً في نفسها .
- دعي الغسيل حتى نعود.. البسي بسرعة .
أرخَت تنهيدة كوته , فاضت سخريتها على شفتيها ابتسامة مرتعشة , مترددة.
- وماذا ألبس؟
فتح يديه ليشرح استغرابه , اختلج مكانه.
- كل هذه الفساتين و الجينزات و الكنزات ..لا تكفي!؟
- وما الفائدة منها أذا كنت سأغطيها بجلباب رمادي وأخفيها؟
لا أحد يراها.. ولم أخرج بها.. لن استمتع.. سأبدو أكبر من عمري بعشرين سنة.
- ليس باستطاعتنا تغيير شيء ..هي فترة قصيرة نقضيها في المدينة.
- ولماذا لا نغير؟ ما الذي سيحدث ؟
- هنا لابد من مراعاة المشاعر و العادات
- كلما فكرت بالذهاب إلى المدينة أغتمّ .. مع أني أحبها.. وخاصة معك.
- إذن هيا بسرعة.. البسي.. افرحي ولا تغتمّي أبداً.
شدّها من يدها , داعبها , وضحكت , ضمها إليه وقبّل رأسها.
- ما أسعدني بك.. أمنيتي أن أراك سعيدة مدى الحياة.
مشى بها إلى خزانة الملابس , كانت تتنطّط وتقفز , وهي تلبس ثم تخلع وتجرب كل ما تملك من لباس العرس , تعرض نفسها أمامه , وأمام المرأة الكبيرة , كان يصفها في كل واحدة وصفا يليق بعروس لم تفقد بعد جاذبيتها , يعجبها قوامها ورشاقتها , وكل ما فيها يعجبه , وقبل أن تبدل اللباس , يأخذها بين يديه, يقبلها , كأنه مع امرأة جديدة , أكثر فتنة من سابقتها.
هذا هو نعيمه الذي يسعى إليه , تحقق , لم يعد يفكر بالنساء. تخلص من عذاباته , ولبى حاجة عواطفه , وذلل العقبات , كافح وناضل , وصبر, وفي النهاية ظفر بحبيبته ربى , ومما زاد في تعلقه بها , اسمها , ربى, يذكره بروابي بلاده وتلالها , مخضرة يانعة في كل الفصول ,كعينيها , كطلعتها الزهراء ، المشرقة, لا فرق بين ضحكتها , وبين نداء العصافير فوق شجر الصنوبر و الكينا , ألحت عليه أن يختار لها ما يناسبها أكثر , لكنه تحير, لم يشأ أن يحدد أي واحد , فهو يراها بعيني محب , وهي أميرة في أي هيئة كانت , حتى بجلبابها الذي يمقته.
انتظرته , لفت بجذعها , لوحت بشعرها الكستنائي المنسدل أسفل كتفيها , لكنه خرج وهو يشعل لفافته وقال:
- اختاري ما تشائين .. كنت في كل لباس ..أروع من الأخر .. أسرعي ..لا تتاخري.
بقيت وحدها مع مرآتها وبدلاتها , مدت يدها إلي فستان يزدحم فيه الزهر وينساب طويلاً حتى القدمين , محتشماً , لبسته فأدهشها , بدت أطول , أضفى عليها وقارا وأناقة , اختارت قطعة حريرية سماوية اللون , جربتها فوق رأسها , لملمت شعرها . وعقَدَتها لكنها نزعتها متأففة , وطوقت عنقها بها , تركتها تتدلى على صدرها , وهزت رأسها , فانتفض موجه .
تمنت لو أنها تستطيع الخروج كما هي الآن , فكرت أن تعرض عليه أخر مشهد , أسرعت إليه بخطوات راقصة , وقفت في باب الغرفة , دارت حول نفسها , وراحت تسوي ربطة العنق على صدرها.
فتحت الدهشة عينيه وشفتيه , كتم سيجارته في طبق، نهض إليها , حل عقدة العنق , جمع شعرها وغطى بها رأسها , ثم اخذ جلباباً مرمياً , البسه لها وقال بحسرة:
- لا نستطيع ان نكون أحرارا بلا مقابل ..سنكون حكاية يلهجون بها و يتندّرون .. ماذا نفعل ؟
- ولكننا محرومون حتى التمتع بما نلبس .
- حبيبتي.. حريتنا لا تنمو هنا ..التربة عقيمة ومالحة.. استصلاحها يحتاج إلى معجزة.. هيا نخرج ..الوقت يسرقنا .
في إحدى حدائق المدينة , يجلسان على مقعد خشبي, يقضيان وفتاً قصيرا , ريثما يحين موعد الغداء في مطعم الروابي , كان دائم التلفت حوله وخلفه ، قرأت في ملامحه خوفاً وحذراً , ودون أن تحس , تمردت خصلة شعر من أسرها , تدلت تبحث عن شمس وهواء , لمحها فأسرع بكفه يغطيها , وبلهفة , لمها وأعادها تحت الغطاء بلا اهتمام منها , دون أن تنظر إليه , فردت ابتسامتها الساخرة , فأحس بها وارتبك , وراح يبحث عن تبرير يدافع فيه عن نقص يعانيه , شخصيته كاملة إلا في هذا الجانب , اخذ يلعن في سرّه ما اكتسبه عبر سنوات عمره , نشأ عليه رغم عدم اقتناعه به قال لها متردداً:
- ليست هذه قناعتي ومبادئي ..اعذريني حبيبتي ..أخشى أن يرانا أحد من البلدة ..تكون فضيحة
بتنهيدة آلمته , ارتج صدرها , أخذت ترتب شعرها تحت الغطاء بإحكام , كي لا يمد برأسه ثانية مثل حية صيفية , خوف ان يلدغ الناس بعطره , أو يشوه الحديقة بتموجه.
شاهدت كشكاً قرب باب الحديقة , نهضت.
- سأشتري أي شيء نتسلى به .
مشت بثقة وحدها ,. الكشك يقابل عينيه , يتجمع حوله فتيات وشباب وأطفال، يبتاعون البزر و الفستق و البسكويت , وأشياء أخرى , صارت بينهم .
هاجمته فكرة أرعبته ، هجس :(لو رآها أحد من البلد وحدها بين الشباب .. يفضحنا )
قفز بضع خطوات وأخذها من يدها بعيدا.
- أرجوك ابتعدي .. أنا أشتري ما ترغبين.
ذاب كيانها في ضباب السديم , وحالة من الغثيان تهاجمها , عادت بخطوات بطيئة نحو المقعد , تنتابها دفقات من اليأس والإحباط , تذكرت حريتها المفقودة الآن , حرية نشأت عليها في بيئة مسالمة , تخلو من قواعد اجتماعية صارمة , قاعدتها المحبة والتسامح, يعيشون حياة فطرية , كأنهم تعلموا من فولتير قوله : ( كن كريما وشريفا وافعل ما شئت) . كتمت غيظها , وحطت بثقلها على المقعد , وانكمشت , تفكر في المستقبل , غموضه يثقل أحمالها , بحثت عن اتهامات جزافية , تقرا كل ما يدور في ذهنه , تعرف انه منطلق , حر, شريف , كريم لكنه خائف , مرعوب , يريد أن يمد يده لأحد ينقذه من سجنه , يعتقه , يفك قيوده ليتحرر, ليستغل كل يوم في حياته ليعيش لحظات تحسب من عمر شبابه , ليشترك مع الناس في فعاليات الحياة , وهي معه , تظل تحبه , لا تفارقه , ينجبان أطفالا بعيدا عن المعتقدات والقيود الاجتماعية , وعن الأصابع المتّهِمة لينشَؤوا في كنف الطبيعة الحرة , ليتعلموا كل شيء بلا أسوار, رفعت رأسها المرمي في حجرها , شاهدته قادماً يفتعل المرح , ابتسم , ابتسمت له ، رثت لحاله , فالتمست له ألف عذر.
جلس بجانبها، فتح كيسا كبيرا ممتلئاً.
- أتيت بكل ما ترغب به نفسك .. ولكن لا تشبعي .. إياك أن تعطلي الغداء.
- شكرا يا حبيبي .. كأني أتعبتك يا ربيع.
- سأبحث عن سعادتنا .. حتى بين النجوم
مرّ من أمامهما شاب وفتاة , يطوق خصرها العاري بذراعه , يضم كفَّه بكفها، تتحسس شعيرات الأصابع, يتهامسان, يقترب بأنفه من شعرها الأغيَد، يتنشق نسيمه, يقضم أذنها أحيانا فتغيد و تزقو.
لمحها تتابعهما بنظرها صراحة حتى ابتعدا. قال لها متسائلاً :
- هل تحسدينهما؟
- أهنئهما.
تنفث الطبيعة همومها وكآبتها زفرات رياح.. وتنفث النفس ألامها أهات. تأوه مطولا , قال:
- لماذا توقف الناس عن غرس الأزهار في القلوب.. ورفضوا الربيع ؟
- وتوقف الخيال عن التحليق في الفضاء مع النجوم .
- حتى لم نعد نرسم الحدائق و البساتين على أرديتنا وجلابيبنا.
- علينا أن نبحث عن حل.. لتكون الحياة مليئة بالجمال .
بشق النفس , وجد النادل مكانا مناسبا في المطعم، هيأ طاولة صغيرة وكرسيّين بسرعة .
جلسا بسعادة مؤقتة , كان الطعام ساخنا ولذيذا, كسخونة العواطف , ولذة السهرة ,أضفى البهاءَ على الجو, دفءُ الغناء و الموسيقى, والرقص. امتد الوقت بهما حتى أفول الشمس , تقدم بعض الراقصين والراقصات , طلبوا من بعض الحاضرين المشاركة في الساحة الدائرية , نهض رجال ونساء , رقصوا على أنغام شعبية , وإيقاعات جبلية , الفرح حمامات بيضاء ترفرف فوق الرؤوس, تقدّم شاب وفتاة يلهثان رقصا , أخذا ربيع من يده إلى الحلبة , تمنعّ وهو يبتسم , لكنهما شداه بإصرار . كان كل عضو فيه يرقص على كرسيه و يدندن مع الغناء , وجدها فرصة ليفرغ شحنة مكبوتة في كيانه , يريد أن يلهو مع الشباب و الفتيات , لا لطمع في النفس يدينه , ولكن لرغبة عارمة بالرقص , مثل كل الفرحين , يحس أن الرقص يحقق له إنسانيته , ومما شجعه على النهوض والاستجابة في المشاركة , ربى, التي وقفت تشده , تحثه , تدفعه , قالت:
- يا لله ربيع .. لا تخجل.. ما أحلى رقصك .. هيا.
رقص مع الشباب والصبايا , أخذته فتاة من يديه , رقصت معه , إيقاع الطبل يحفزه على الاستمرار حتى الفجر, خلع سترته , حل ربطة عنقه , زاد التصفيق و التشجيع , وقف الكثير من الراقصين يتفرجون , دهشوا , بزّهم جميعا ,تبدلت الفتيات على الرقص معه, وكانت زوجته تصفق له بسعادة وهياج، كأنها ترقص على مقعدها , سال عرقه على وجهه ورقبته , شاب وفتاة أخذا بيدي ربى , يدعوانها إلى الحلبة , لتشارك زوجها , شاهداها ترقص جالسة , لمح ربيع المشهد فجأة من مكانه, توقف عن الرقص، أسرع نحوهم بعد أن وقفت معهما ربى تمايلت قليلا , فشدها من ذراعها بقوة , فسقطت على مقعدها .
نبتت في ذهنه رعونة عطلت إنسانيته , صرخ:
- ما هذا الغباء .. سترقصين ! ؟
ألا تخافي أن يراك أحد أبناء بلدتي ؟
أدارت رأسها باتجاه النافذة الواسعة, واستدرّت عيناها دموعا غسلت وجهها . كانت بعض العيون من حولها تراقب بحسرة انكسارها وخشونته , أحس بهم ، غدا الموقف في غير صالحه , لكنه , كلحظة الصحو من غيبوبة الألم , همس لها همسا , لم تلتفت , مدّ يده نحوها , أمسك بساعدها فأبعدته. قال:
- أنا آسف .. آسف جداً .. ليس بيدي .. لم أع ِكيف فعلت هذا .
كانت مثل محارب يخوض معركة بلا أمل , التفتت إليه , مسحت دموعها , ونهضت .
- خذني إلى البيت .. بسرعة أرجوك .
في الطريق , بالقرب من ساحة النقل العام , سبقها بخطوتين فجائيتين , وراح يمشي أمامها تماماً , خيل إليها أن شيئا قد حل به، فأسرعت إلى جانبه لتستوضح من ظنها , وحين فوجئ بأنها اقتربت منه , مد ذراعه ليبعدها خلفه , ويبقى هو أمامها , حل الظلام , كانت أعداد متفرقة تسير باتجاه مدخل الحافلات, حاولت أن تلحق به ثانية صارت تجانبه, فمد ذراعه معترضا وهو يتلفت حوله , ليتفحص عيون الناس ووجوههم، عساها تكون منشغلة بسواهما دفعها لتبقى خلفه. قال بصوت خافت :
- امشي خلفي حتى نصعد الحافلة .. أرجوك.
- ولم ! ! صرتُ سُبّة عليك ! ؟
أرجوك توقف .. توقف.. أفهمني ما تريد..
- اجعليني هدف خطواتك.. مسبار الطريق.. كبش فداء.. اجعليني ما تشائين.. المهم أن تكوني خلفي .
- ولماذا أسير خلفك ؟
- هنا .. قد يرانا أحد المسافرين من بلدنا.. فتكون فضيحة لي .
- وإذا مشيتُ خلفك .. لا تكون فضيحة ؟
- لا استطيع التمرد على عاداتنا .. الناس يلوكوننا بألسنتهم . ويصفوننا بأوصاف منحطة .. عليك فقط أن تتبعيني وكفى .
- ولكن قد يكره الإنسان ظله ويحتقره .. لأنه دائماً يتبعه .
- لا .. هم يرحبون بهذا .. ويجلّونه
- يمقتون الحرية الشخصية .. ويكرهون أن تكون المرأة إلى جانب زوجها.. ما هذه البلاد.. ؟ ما هذه الحياة ..؟ شيء عجيب ! !
- الحرية الشخصية هو ما يتفق مع رؤيتهم.
- ولكني أحب الحياة المليئة بالفرح .
- يكرهون الفرح.
- أود ان تراني العيون جميلة.. رشيقة .. فرحة.. وأكره هذا اللباس المعتم لا أرغبه.
- هم يقولون إن المرأة جوهرة.. علينا ان نحميها ونحافظ عليها .. ونخبئها من الأعين والنوايا .
- نحميها بتوعيتها وانطلاقها .. بالثقة بها لتثق بهم وبنفسها.
- يقولون .سيطمع فيها الرجال .. وتكون فتنة .. يريدونها أن تظل بعيدة لا يراها أحد ولا ترى أحداً .
- لا أحس إلا بعكس هذا .. إنها تصير سوداوية التفكير .. فتحتقر مجتمعها.
- دعينا الآن نصل إلى بيتنا .. هناك نقول ما نشاء.
- لا أود الكلام أبداً .. لا هنا ولا في البيت .. أرجوك يا ربيع.. أنا تعبت.
ساد صمت كالجليد طيلة الرحلة , كأن أطرافه ابتعدت عنه أيضاً , لم يعد يحس بامتلاكه أي شيء , حتى علبة التبغ , محرم عليه الاقتراب منها , وفي الاستراحة القادمة سيعبُّ منها ما استطاع.
تلقي ربى بوجهها على الأضواء الهاربة عكس اتجاهها , تشاهد قرى ومزارع وأعمدة , كلها تمضي مسرعة بعكس الاتجاه , مثلما يسرع ذهنها برمي الأفكار المتزاحمة الموجعة.
حاول ربيع ملاطفتها , أحس أنه أكثرَ مِن تأسفه عن أفعاله , ولكنه مرغم عليها , رغم رفضه القاطع , فعلها بحكم تعوده ونشأته , صارت قيد يديه ورجليه وعنقه.
ظلت ربى غائبة عن ملامسته, أو الاستماع لهمساته, أو الالتفات إليه مسافة الطريق.
أسرعت إلى غرفة الملابس , رمت عنها جلبابها وغطاءها , ثم جلست إلى قطع غسيلها المرمي في ارض الغرفة , بينما جلس ربيع على مقعد منكفئا على نفسه , حيادي الملامح , منكمشا في جلسته كالمستغفر, يضطرب نبضه ,يختلس نظرة سريعة متفحصة.
الموقف با جمعه صقيعي , فر الكلام من لسانه إلى الداخل , ابتلعه فغص , احتضن كفّه اليسار باليمين , فركهما , طقطق أصابعه. كانت هي منشغلة بطيّ الغسيل المبعثر منذ خرجا. كلما طوت قطعة , تقذفها فوق كومة مطوية فتنقلب إلى جهة أخرى وحين تنتهي من مجموعة , تعيد ترتيبها من جديد .
نزقها المصطنع , جعله يتجمد في مكانه كمتهم , لا يكاد يمد ذراعه نحو تبغه بحرية , كأنه مراقب , محاصر, يشهق البرودة في أحشائه مجفلاً , كلما رمت بقطعة قماش بنزق , كأنها جدار ينهدم على رأسه , يلجأ إلى شهيقه وزفيره, يساعده على التخلص من اختناق حنجرته , يهيئه لاستعادة التكيف, ويعبر بها عن ضيقه .
كانت تلتفت إليه بين لحظة وأخرى, تنشج, تعرض عليه دموعها خطفاً , ثم تتوقف بلا سبب , تهدأ , تقذف بنظرها خلال النافذة , يهرول القمر ضاحكا بين الغيوم القطنية , كطفل يفرح بندف الثلج , كمهرة تلهو بين البيادر, تتأمله , وترخي آهة مخنوقة , تحب الحياة لتعيشها بحرية مع حبيبها وزوجها بلا رقابه , بعيداً عن قوانين مجتمعه الصارمة , العادات المذلة , القيود اللئيمة , كلها تشل المشاعر, تعطل الأحاسيس , الموت عندها أعز من حياتها بلا حرية وانطلاق , و مشاركة في كل الفعاليات التي تبدع المرح .أحرق علبة تبغ كاملة في وقت قصير, تناول علبة أخرى أشعل سيجارة، تجرأ بعد مرور ساعات على صمت أرعف الغرفة حتى فاضت , وفاض به كيل تحمل الانتظار بلا جدوى , سعل سعلة مصطنعة , أحّ أحيحاً متكرراً , ليُذيل تكدّر الجو بينهما , ويشجع نفسه على الكلام , قال :
- حبيبتي ربى .. صدقيني.. أنا أعاني فقدان الحرية أضعاف ما تعانين .. ولكن ما العمل ؟
- .................................
لا ترد, تنظر إليه خطفا ً, وتحوّل وجهها باتجاه أخر.
- ساعديني على إيجاد حل ..ساعديني .. نحتاج حلا يخلصنا من قيودنا لماذا تريدين إحراجي ؟
كأنها اكتشفت كنزا , اتجهت إليه , فتحت عينيها العسليتين باهتمام شديد , شعرت بجدية طرحه للأمر, امرأة ذكية , واعية , أرادت ان تقطف ثمرة اللحظة الحاسمة , قالت بجدية :
- تقولها صادقاً ؟..أحقا تريد أن تجد حلاً ؟
- وغداً ننفذه .. إن كان يناسبنا..
- نرحل...
- نرحل !! لا لا ..لن أرحل عن وطني ..
ابتسمت , ابتسم لها , مسحت وجهها بمنديل , نظفت عينيها وأنفها قالت :
- لا يا حبيبي .. داخل الوطن .
- رحيل داخل الوطن !! إلى أين ؟
- إلى بلد يصنع الحرية ويحميها.
- أي بلد تقصدين ؟
- ما رأيك بمدينة ..طرطوس. . أو صافيتا.. أو أي مدينة يعيش فيها جميع الناس بحرية.. وفيها جميع أطياف المجتمع؟.
تريث وبدا يفكر، هو يحب البحر, ويحب طرطوس بالتحديد، زارها مرات عديدة ، لكنه لايدري لماذا يعشق حمص وأهلها.. زجوها ومناخها، أخذ رأسه بكفه ، أغمض عينيه , تخيل منزلاً صغيراً في ضاحية , وعملاً متواضعا يكفيه الحاجة والكثير من الحرية, أسرّ لنفسه ( لا نحتاج إلى دراسة كافية لاتخاذ قرار ) .
عزم أمره على أن ينقل عمله , وحاجاته المالية , وكل ما يتعلق بحياته ، إلى حمص , وهناك يعيش معها ، سيحب الحياة أكثر ألف مرة , سيستمتع بتفاصيل الأيام بحرية ، قال لها :
- ربى .. سوف نرحل إلى حمص .. غدا نسافر إليها لنبحث عن شقة صغيرة..
قفزت إليه كقطة , شعرت بأنها فقدت كامل عقلها لثانية , غيبته فرحة لم تعشها من قبل , وقف , لفته بذراعيها وأمطرته برشقات من القبل في كل أنحاء جسمه, أراحت رأسها على كتفه, وانفجرت حنجرتها ببكاء مثل زغرودة طويلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا