الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في كتاب - الثروة، الفقر والسياسة- قضايا (2)

خسرو حميد عثمان
كاتب

(Khasrow Hamid Othman)

2021 / 9 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الفصل الأول: قضايا ISSUES
يبدأ الكاتب THOMAS SOWELL هذا الفصل بمقولة أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية Alexander Hamilton: "ثروات الأمم تعتمد على مجموعة متنوعة لا حصر لها من الأسباب."
ويذكر بأن الناس الذين يعيشون في أكثر الدول ازدهارًا اليوم غالبًا ما يصابون بالصدمة من انخفاض مستويات المعيشة في بلدان العالم الثالث، أو من الطريقة التي يعيش بها الأشخاص الأقل حظًا في مجتمعاتهم. ويرى؛ إذا كان هدفنا فهم أسباب مثل هذه الظواهر، لا يمكننا المضي قُدمًا كما لو أن ما اعتدنا عليه من حولنا هو شيء يمكن افتراض حدوثه بشكل طبيعي أو تلقائيًا بحيث يمكن طرح المشكلة لأسباب أخرى كالدول "تفشل" عندما لا تتمتع بنفس مستويات المعيشة المرتفعة، أو إعتبار المساواة الاقتصادية طبيعية أو تلقائية أو شائعة لدرجة أن غيابها هو ما يحتاج إلى شرح. يمر الكاتب في هذا الفصل بسرعة بمجمل العوامل التي لها علاقة مباشرة بهذه التفاوتات الاقتصادي وكتب:
على الرغم من مدى انتشار مثل هذه الافتراضات الضمنية في الكثير مما يقال اليوم، فمن المشكوك فيما إذا كانت هذه الافتراضات يمكن أن تصمد عند مسحٍ متواضع للتاريخ. حتى في دولة معترف بها منذ فترة طويلة على أنها واحدة من أكثر الدول ازدهارًا على وجه الأرض، الولايات المتحدة الأمريكية، كان عشرة بالمائة فقط من المنازل الأمريكية فيها مراحيض دافقة و 3 بالمائة فقط فيها مصابيح كهربائية في بداية القرن العشرين. لا يوجد شيء تلقائي عن الازدهار. لم تتحقق مستويات المعيشة التي نأخذها اليوم كأمر مسلم بها إلا في غضون جزء صغير جدًا من تاريخ الجنس البشري، وهي ليست القاعدة السائدة بين معظم الناس في العالم اليوم، بأي حال من الأحوال. كانت مستويات المعيشة أدنى بكثير مما نعتبره الآن فقراً لآلاف السنين. ما يتطلب الشرح والتفسير العوامل التي خلقت مستويات أعلى للمعيشة وحافظت عليها ليس الفقر.
كيف يفسر المرء أصول شيء مثل "عدم المساواة"، الذي كان موجودًا في كل مكان منذ زمن بعيد في التاريخ المسجل؟
كان لدى الإغريق القدماء الهندسة والفلسفة والعمارة والأدب في وقت كانت فيه بريطانيا أرضًا لشعوب قبلية أُمية تعيش في مستوى بدائي. كان في أثينا الأكروبوليس- التي لا تزال أطلالها مثيرة للإعجاب حتى اليوم، بعد آلاف السنين - في وقت لم يكن فيه مبنى واحد في كل بريطانيا. كان لدى الإغريق القدماء أفلاطون وأرسطو وإقليدس وشخصيات بارزة أخرى ساعدت في إرساء الأسس الفكرية للحضارة الغربية، في وقت لم يكن هناك بريطاني واحد دخل اسمه في صفحات التاريخ.
في العصور القديمة كانت هناك أجزاء من أوروبا تعيش في مستوى تجاوزته اليونان قبل آلاف السنين. كانت هناك حضارات أخرى معقدة في العالم القديم - في مصر، الهند والصين -على سبيل المثال - في الوقت الذي كانت فيه الشعوب في أجزاء مختلفة من أوروبا وأماكن أخرى قد بدأت لتوها في تعلم أساسيات الزراعة.
كانت الفوارق الشاسعة في الثروة والقدرة على تكوينها شائعة منذ آلاف السنين. في الوقت الذي استمرت التفاوتات الاقتصادية الكبيرة على مدار التاريخ المسجل للجنس البشري، فقد تغير النمط الخاص لتلك التفاوتات بشكل جذري على مر القرون.
عندما كان اليونانيون أكثر تقدمًا بكثير من البريطانيين في العصور القديمة، ولكن البريطانيون أصبحوا أكثر تقدمًا منهم بكثير في القرن التاسع عشر، عندما قادت بريطانيا العالم إلى العصر الصناعي. أنتجت بريطانيا وحدها، من منتصف القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر، أكثر من 40 في المائة من الاختراعات والاكتشافات والابتكارات الكبرى في العالم، وتزامنت تفوقها التكنولوجي مع تفوقها كأمة قاهرة. سأل باحث إيطالي من القرن العشرين:"كيف ارتقت جزيرة محيطية من القذارة البدائية إلى الهيمنة على العالم، الى المقام الأول؟" كانت الامبراطورية البريطانية تُهيمن على ربع مساحات العالم وربع سكان المعمورة عندما وصلت الى أوج قوتها.
حدثت مثل هذه التغييرات التاريخية في أدوار شعوب وأمم معينة في أماكن وأزمنة أخرى. كان الصينيون أكثر تقدمًا من الأوروبيين على مدى قرون، من بين اكتشافاتهم واختراعاتهم: البوصلة، الطباعة، الورق، دفة القيادة في القوارب وألواح الخزف التي أطلق عليها الغرب اسم "الخزف الصيني". تم إنتاج الحديد الزهر في الصين قبل ألف عام من إنتاجه في أوروبا. لكن المواقف النسبية للصين وأوروبا انعكست أيضًا على مر القرون. شعوب أخرى مختلفة، تعيش في أجزاء أخرى مختلفة من العالم، لها عصور قيادية خاصة بها في مجالات معينة أو التقدم عبر العديد من التخصصات.
انتقلت الزراعة، وهي من أهم التطورات التي غيّرت حياة المجتمعات البشرية، إلى أوروبا من الشرق الأوسط في العصور القديمة. جعلت الزراعة نشوء المدن ممكنة، في حين كان الصيادون وجامعي الثمار يحتاجون إلى الكثير من الأراضي لتزويد أنفسهم بالطعام لكي يستقروا بشكل دائم في مثل هذه المجتمعات المدمجة والمكتظة بالسكان. علاوة على ذلك، أنتجت المدن في جميع أنحاء العالم لقرون حصة غير متكافئة تمامًا من جميع التطورات في الفنون والعلوم والتكنولوجيا، مقارنة بإنجازات عدد مماثل من الأشخاص المنتشرين في المناطق النائية.
نظرًا لأن الإغريق كانوا أقرب إلى الشرق الأوسط من شعوب شمال أوروبا أو أوروبا الغربية، فقد انتقلت الزراعة إلى الإغريق في وقت سابق وكان من الممكن أن يصبحوا حضريين في وقت مبكر- بقرون - وتقدموا، بطرق عديدة، أبعد بكثير من تلك الشعوب في أماكن أخرى التي لم تكن قد اُتيحت لها فرصة الانتفاع من الفوائد العديدة التي أتاحتها الحياة الحضرية بعد. لم تستطع حادثة الموقع الجغرافي أن تخلق عبقرية، لكنها جعلت امكانية خلق ظروف يمكن فيها للعديد من الناس تطوير إمكاناتهم العقلية الخاصة بما يتجاوز بكثير ما كان ممكنًا بين مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار الذين يتجولون في مناطق شاسعة، منشغلين بالحاجة الملحة للبحث عن الغذاء. لا تُحدد الجغرافيا مسبقاً ما سيختاره الناس القيام به، ولكنها يمكن أن تَحُد أو تزيد من عدد وانواع الخيارات المتاحة.
الجغرافيا هي واحدة من التأثيرات الكامنة وراء الاختلافات الاقتصادية الهائلة بين الشعوب والأماكن. علاوة على ذلك، فإن هذه الاختلافات، رغم أهميتها، ليست مجرد اختلافات في مستويات المعيشة. تعمل العوامل الجغرافية المختلفة على توسيع أو تقييد القدرات العقلية للأفراد إلى ما يسميه الاقتصاديون رأس المال البشري من خلال قدرة الشعوب المختلفة بإمكانية الوصول إلى عالم ثقافي أوسع أو أضيق، لا تنحصر تأثير هذه العوامل الجغرافية أفقياً فقط - بين أوروبا وآسيا وأفريقيا على سبيل المثال- ولكن بشكل عمودي أيضاً، بين الشعوب التي تعيش في السهول مقابل الشعوب التي تعيش في الجبال. ذكرت إحدى الدراسات الجغرافية: "تُثَبِط المناطق الجبلية نشوء العبقرية لأنها مناطق عُزْلَة وحَصْر بعيدة عن التيارات العظيمة للانسانية والأفكار التي تتحرك على مسار وديان الأنهار."
تظهر العديد من المناطق الجبلية في جميع أنحاء العالم - سواء جبال الأبلاش في الولايات المتحدة أو جبال الريف في المغرب أو جبال بيندوس في اليونان أو جبال الهيمالايا في آسيا أو غيرها من الجبال في أماكن أخرى - أنماطًا متشابهة جدًا من الفقر والتخلف. على حد تعبير المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل، "تخلفت الحياة الجبلية باستمرار عن السهل". وكان الأمر كذلك بشكل خاص خلال آلاف السنين قبل ثورات النقل والاتصالات في القرنين الماضيين، والتي جلبت مؤخرًا المزيد من تقدم العالم الخارجي إلى القرى الجبلية المعزولة. لكن ما لم تستطع هذه الثورات التكنولوجية أن تجلبه للجبال هو القرون السابقة من التطور الثقافي الذي عاشه الآخرون في بيئات أكثر ملاءمة. يمكن للشعوب التي تعيش في الجبال محاولة اللحاق بالركب، لكن بالطبع لن يقف باقي العالم ساكنًا أثناء قيامهم بذلك.
الجبال تشكل مجرد ميزة جغرافية واحدة، لها تأثير واحد على التنمية البشرية. ولكن بغض النظرعن الجغرافيا أو الثقافة، فإن العزلة هي عامل مُعَزِزْ للفقر والتخلف في جميع أنحاء العالم، سواء كان ذلك عُزْلة مادية أو عُزْلة ثقافية، لعدد من الأسباب المحددة (يقوم الكاتب باكتشافها في الفصول المقبلة-توضيح).
مهما كانت أسباب الفوارق الاقتصادية بين الشعوب والأمم، فقد كانت هذه الفوارق شائعة في العصر الحديث كما كانت في العصور القديمة. كان لكل من سويسرا والدنمارك وألمانيا أكثر من ثلاثة أضعاف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لألبانيا أو صربيا أو أوكرانيا، وكان للنرويج أكثر من خمسة أضعاف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول الشرقية في القرن الحادي والعشرين. هذه الفوارق الاقتصادية ليست خاصة بأوروبا. وفي آسيا أيضًا، حيث تمتلك اليابان أكثر من ثلاثة أضعاف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للصين وأكثر من تسعة أضعاف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للهند. دول في أفريقيا - جنوب الصحراء لديها أقل من عُشر الناتج المحلي الإجمالي للفرد في منطقة اليورو.
تكثر الفوارق في الدخل، داخل الأمم وبينها أيضاً، سواء بين الطبقات أو الأجناس أو التقسيمات الفرعية الأخرى للجنس البشري. تراوحت ردود الفعل على هذه الفوارق الاقتصادية بين الاستسلام للأمر الواقع أو الثورة. نظرًا لأن العديد من الناس يعتبرون هذه الفوارق في بلدانهم غريبة، إن لم تكن شِرْيرة، فمن الضروري ملاحظة أن هذه الفوارق الداخلية ليست ظاهرة خاصة بزمن أو مكان معينين. لذلك لا يمكن حصر تفسيرات الاختلافات الاقتصادية في عوامل خاصة بزمان أو مكان معين، مثل عصر الرأسمالية الحديثة أو الثورة الصناعية، ناهيك عن العوامل الملائمة سياسياً أو المُرْضية عاطفياً.
لا يمكن افتراض أن العوامل التي تثير قضايا بالغة الأهمية أخلاقيًا، مثل الغزو والاستعباد، لها نفس الأهمية مثل التفسيرات السببية للتفاوتات الاقتصادية الحالية. قد تكون أو لا تكون، في حالات معينة. قد تكون الشعوب أو الأمم غنية أو فقيرة لأنها: (1) أنتجت أكثر أو أنتجت أقل من الآخرين أو (2) استولت على المزيد مما أنتجه الآخرون.
ليس هناك شك في أن غزوات الإسبان في نصف الكرة الغربي، على سبيل المثال، لم تكتف ببطش الشعوب التي تم استعمارها، وإنما دمرت حضاراتهم القابلة للحياة أيضاً، ونقلت كميات هائلة من الثروات الموجودة من الذهب والفضة من نصف الكرة الغربي إلى إسبانيا أيضًا - 200 طن ذهب وأكثر من 18000 طن الفضة- نتيجة نهب الكنوز الموجودة من السكان الأصليين وتسخيرهم قسراً في مناجم الذهب والفضة. لم تكن إسبانيا فريدة في مثل هذا السلوك. لكن السؤال هنا هو: إلى أي مدى يمكن أن تفسر عمليات نقل الثروة الاختلافات الاقتصادية بين الشعوب والدول في عالم اليوم؟
تعد إسبانيا اليوم واحدة من أفقر البلدان في أوروبا الغربية، حيث تفوقت عليها اقتصاديًا دول مثل سويسرا والنرويج، التي لم تكن لديها مثل هذه الإمبراطوريات. كان من الممكن استثمار الثروات الهائلة التي تدفقت على إسبانيا في "عصرها الذهبي" في اقتصادها أو في شعبها بدلا من ذلك تم إنفاقها. تحدث الإسبان بأنفسهم عن الذهب الذي كان يتساقط على إسبانيا مثل المطر على الأسطح، ومن ثم يتدفق بعيدًا على الفور. كما أنه لم يكن من غير المألوف في التاريخ أن تنتج كمية هائلة من المعاناة الإنسانية - سواء من قبل الناس المحتلين أو المستعبدين - ألا تنتج شيئًا أكثر من الإثراء العابر للنخبة الحاكمة.
كان للنهب الأخلاقي الهائل لإسبانيا في نصف الكرة الغربي تأثير سببي ضئيل للغاية على ازدهار الاقتصاد الإسباني على المدى الطويل. في أواخر عام 1900، كان أكثر من نصف الناس في إسبانيا لا يزالون أميين، بينما كان معظم السود في الولايات المتحدة متعلمين، على الرغم من أنهم كانوا اصبحوا أحرارًا لمدة تقل عن 50 عامًا. بعد قرن، في عام 2000، كان دخل الفرد الحقيقي في إسبانيا أقل قليلاً من دخل الفرد الحقيقي للأمريكيين السود. أحفاد الغزاة العظماء الآخرين، مثل مؤسسي الإمبراطورية العثمانية أو جحافل جنكيز خان، فشلوا أيضًا في الظهور بين أكثر دول العالم ازدهارًا.
على العكس من ذلك، هُجِرَت بعض الجماعات من أرض ولادتها، وأُجبرت على التخلي عن الجزء الأكبر من الأصول المادية التي تراكمت لديهم على مدى حياتهم، أو على مدى أجيال - وهو بالتأكيد ظلم كبير- ومع ذلك ارتفعت أصولهم المادية مرة أخرى بعد وصولهم الى بلدهم الجديد وهم في حالة عَوَز. تتراوح هذه المجموعات من اليهود الذين طُردوا من إسبانيا في عام 1492 إلى غوجاراتيس Qujaratis(منطقة في الهند- توضيح) والذين طردوا من أوغندا في السبعينيات من القرن الماضى، بينما الكوبيون الذين فروا طواعية من وطنهم بعد أن تولى الشيوعيون زمام الأمور في عام 1958، والفيتناميين الذين فروا من وطنهم بعد أن تولى الشيوعيون مقاليد الأمور هناك في سبعينيات القرن الماضى، انتعاش وتحول، مماثل جدا، من الفقر إلى الازدهار في البلدان الجديدة. القضايا المهمة أخلاقيا ليست بالضرورة حاسمة كعوامل سببية.
الأسئلة الأخلاقية والأسئلة السببية مهمتان. لكن الخلط بين أحدها والآخر، أو تخيل أنه يمكن ببساطة دمجها في حزمة واحدة جذابة سياسياً أو أيديولوجياً، ليس نهجاً واعداً للغاية لتفسير الاختلافات الاقتصادية.
الفوارق الاقتصادية بين الدول ليست سوى جزء من قصة التفاوتات الاقتصادية. كما يجب التركيز على معالجة الفوارق الاقتصادية الكبيرة داخل الدول. عند النظر في الاختلافات الاقتصادية بين الناس في بلد معين، هناك ميل لرؤية هذه الاختلافات باعتبارها قضايا حول ما يسمى "توزيع الدخل". لكن الدخل الحقيقي - أي الدخل النقدي المعدل للتضخم - يتكون من السلع و الخدمات المنتجة في الأمة. إن النظر إلى هذا الناتج فقط من وجهة نظر أولئك الذين يتلقون المال مقابل إنتاج تلك السلع والخدمات ينطوي على مخاطر مفاهيم خاطئة لا داعي لها، ومشاكل اجتماعية خطيرة تنشأ من هذه المفاهيم الخاطئة.
يعتمد مستوى معيشة الأمة على إنتاجها للفرد أكثر من اعتمادها على الأموال المتلقاة كدخل لإنتاج هذا الناتج. خلاف ذلك، يمكن للحكومة أن تجعلنا جميعًا أغنياء، ببساطة عن طريق طباعة المزيد من الأموال. بواسط بالتركيز على ما يسمى "توزيع الدخل"، يتقدم الكثير من الناس كما لو كان بإمكان الحكومة إعادة ترتيب تدفقات الأموال هذه، بحيث تصبح الدخول أكثر "عدلاً" - مهما كانت محددة - بغض النظر عن تداعيات مثل هذه السياسة على عملية أكثر جوهرية لإنتاج السلع والخدمات، والتي يعتمد عليها مستوى معيشة البلد. لكن في الرؤية المقدمة في وسائل الإعلام، وغالبًا حتى في الأوساط الأكاديمية، يبدو الأمر كما لو أن المخرجات أو الثروة موجودة بطريقة ما، والسؤال المثير حقًا هو كيف يتم توزيعها.
في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي هذا الانشغال بتلقي الدخل، إلى جانب إهمال الاهتمام بإنتاج الناتج وراء هذا الحصول على الدخل، إلى محاولات تفسير تلقي مداخيل كبيرة جدًا من خلال "الجشع" - كما لو كانت رغبة لا تشبع، ستؤدي المبالغ المالية بطريقة ما إلى دفع الآخرين لتلك المبالغ الضخمة لشراء سلع أو خدمات.
من بين الأسباب العديدة المحتملة للاختلافات في الدخل والثروة، سواء بين الشعوب أو المناطق أو الدول، غالبًا ما يتم تجاهل أحد الأسباب الأكثر وضوحًا. كما قال الاقتصادي هنري هازليت: " إن مشكلة الفقر الحقيقية ليست مشكلة "توزيع" بل مشكلة إنتاج. الفقراء فقراء ليس لأن شيئًا ما مُنع عنهم ولكن لأن، لأي سبب من الأسباب، فهم لا ينتجون ما يكفي."
الذي بدا واضحًا لهنري هازليت لم يكن واضحًا للكثيرين، الذين كانت لديهم رؤى بديلة، بأجندات بديلة مبنية على تلك الرؤى. الفرق بين النظر إلى الفوارق الاقتصادية على أنها ناتجة عن اختلافات في إنتاج الثروة ورؤية تلك الفوارق على أنها ناتجة عن انتقال الثروة من بعض الناس إلى أشخاص آخرين هو أمر أساسي. يُظهر التاريخ أن أيًا من أسباب التفاوتات الاقتصادية يمكن أن يسود في أوقات وأماكن معينة.
عند استكشاف تأثيرات العوامل الجغرافية والثقافية والعوامل الأخرى التي تؤثر على إنتاج الثروة، يجب التمييز بشكل حاد بين "التأثير والحتمية". سيكون للحتمية الجغرافية أوضاع طبيعية مواتية خاصة تخلق بشكل أو بآخر الازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، سواء من خلال توفير موارد طبيعية أكثر ثراءً أو من خلال وجود مناخ أكثر ملاءمة للعمل ، على سبيل المثال.
كان من السهل على النقاد إظهار أن هذا ليس هو الحال دائمًا بأي حال من الأحوال، ولا يكون صحيحًا بالضرورة في معظم الحالات، نظرًا لوجود دول فقيرة مثل فنزويلا ونيجيريا ذات الموارد الطبيعية الغنية والبلدان المزدهرة مثل اليابان وسويسرا ذات الموارد الطبيعية الشحيحة. في حين أن أنواعًا معينة من المناخات قد تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمجتمعات الأكثر تقدمًا، فقد سعى عالم جغرافي في أوائل القرن العشرين لإظهارتراتبية مختلفة تمامًا للدول، وفقًا للمعايير نفسها، كان من الممكن أن يكون موجودًا قبل ألف أو ألفي عام، عندما كانت الصين أكثر تقدمًا من اليابان، بينما أصبحت اليابان في النهاية أكثر تقدمًا من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية من الصين، بعد آلاف السنين - دون أي دليل على أن المناخ قد تغير كثيرًا في أي من البلدين.
لم يؤد الامتداد التوضيحي للتفسيرات الجغرافية إلى استبعاد الحتمية الجغرافية فحسب، بل أدى أيضًا إلى خفض مرتبة الجغرافيا باعتبارها تأثيرًا رئيسيًا في المعاني الأخرى. ومع ذلك، لم يكن كل الجغرافيين في أوائل القرن العشرين مذنبين بالتهور. كتبت عالمة الجغرافيا المتميزة إيلين تشرشل سيمبل في عام 1911: "إن علم الجغرافيا البشرية برمته لا يزال صغيرًا جدًا بالنسبة للقواعد الصارمة والسريعة، وموضوعه معقد للغاية بالنسبة للصيغ". على الرغم من فشل الحتمية الجغرافية، يمكن للجغرافيا أن تؤثر على النتائج الاقتصادية بطرق أخرى مختلفة للغاية، كما سنرى لاحقاً. علاوة على ذلك، لا يرجع هذا التأثير بالضرورة إلى سمات جغرافية معينة - مثل المناخ أو الموارد الطبيعية - يتم النظر فيها بمعزل عن غيرها، ولكن غالبًا ما يكون بسبب التفاعلات بين ميزات جغرافية معينة مع ميزات جغرافية أخرى، فضلاً عن التفاعلات مع عوامل أخرى غير جغرافية مثل التأثيرات الثقافية والديموغرافية والسياسية أو غيرها.
حتى هذه الحقيقة الجغرافية البسيطة وغير المتنازع عليها مثل الأماكن الواقعة بالقرب من القطبين ذات درجات الحرارة المنخفضة، في المتوسط ​، من الأماكن الواقعة بالقرب من خط الاستواء، لا تصمد دائمًا عند أخذ التفاعلات مع العوامل الجغرافية الأخرى في الاعتبار. وهكذا فإن لندن، التي تقع على بعد مئات الأميال شمالاً من بوسطن، لديها متوسط ​​درجات حرارة شتوية أكثر دفئًا من تلك الموجودة في بوسطن، وتشبه إلى حد بعيد درجات الحرارة الشتوية في بعض المدن الأمريكية على بعد مئات الأميال جنوب بوسطن. متوسط ​​درجات الحرارة اليومية المرتفعة في شهر ديسمبر في لندن هو نفس متوسط ​​درجة الحرارة اليومية المرتفعة لشهر ديسمبر في واشنطن العاصمة، والتي تبعد أكثر من 850 ميلاً جنوبًا عن لندن.
عندما تتفاعل عوامل جغرافية معينة مع عوامل أخرى غير جغرافية أيضًا، يمكن أن تكون النتائج أيضًا مختلفة تمامًا عما ستكون عليه إذا تم النظر في عوامل جغرافية أو ثقافية أو ديموغرافية أو سياسية معينة في عزلة. هذا هو السبب في أن التأثير ليس بنفس الحتمية. نظرًا لأن العديد من النتائج الاقتصادية، إن لم تكن معظمها، تعتمد على أكثر من عامل واحد، فإن احتمالية تلاقي جميع العوامل معًا بطريقة تؤدي إلى تحقيق مستويات متساوية من الازدهار والتقدم بين الشعوب والدول في جميع أنحاء العالم تبدو بعيدة جدًا. تعد الإعدادات الجغرافية المختلفة جذريًا أحد العوامل التي تجعل النتائج الاقتصادية المتساوية غير محتملة.
الثقافات هي من بين العوامل الأخرى التي تختلف اختلافًا كبيرًا بين الشعوب والأمم ، وكذلك بين الأفراد والجماعات داخل أمة معينة. لجأ نقاد التأثيرات الثقافية أحيانًا إلى صورة مفرطة في التبسيط لتلك التأثيرات لانتقادها. على سبيل المثال، محاولة لتشويه تأثير العوامل الثقافية في النتائج الاقتصادية من خلال دراسة معروفة - لماذا تفشل الأمم - رفضت فكرة أن الثقافة الموروثة من إنجلترا أوضحت سبب ازدهار المستعمرات السابقة لإنجلترا مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا:
كانت كندا والولايات المتحدة مستعمرات إنجليزية، وكذلك كانت سيراليون ونيجيريا. الاختلاف في الازدهار داخل المستعمرات الإنجليزية السابقة كبير كما في العالم بأسره.
الإرث الإنجليزي ليس سبب نجاح أمريكا الشمالية، في حين أنه من الصحيح أن جميع هذه البلدان كانت مستعمرات سابقة لإنجلترا، وبالتالي يمكن وصفها بأنها وقعت تحت تأثرت ثقافة إنجلترا، فمن الصحيح أيضًا أن الأشخاص الذين أسسوا كندا والولايات المتحدة كانوا إنجليزًا، من نسل أناس غارقون في ثقافة إنجلترا كما تكشفت على مر القرون - بينما كان الناس في سيراليون ونيجيريا ينحدرون من أناس غارقين في ثقافات مختلفة تمامًا في منطقة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لقرون عديدة، وتعرضوا بشكل سطحي لثقافة إنجلترا لمدة أقل من قرن واحد، لم تنقرض خلاله ثقافاتهم الأصلية بأي حال من الأحوال في فترة وجيزة تاريخيًا عندما كانوا جزءًا من الإمبراطورية البريطانية. أشار المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل إلى "الاستعمار المتأخر وعابر الزوال من أفريقيا السوداء من قبل القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر. " كان هذا بالكاد كافيا لتحويل الأفارقة ثقافيا إلى أوروبيين."
استمرت العديد من المستعمرات الإنجليزية السابقة المأهولة بالسكان غير الإنجليز في مراقبة بعض جوانب ثقافة إنجلترا بعد أن أصبحت مستقلة - المحامون يرتدون الشعر المستعار في المحكمة، على سبيل المثال - لكن هذه التقاليد الخارجية للتقاليد الإنجليزية لم تمنع هذه المستعمرات السابقة من امتلاك تراث ثقافي مختلف تمامًا عن تراث إنجلترا، وبالتالي تجارب اقتصادية وسياسية مختلفة جدًا للمضي قدمًا بعد الاستقلال. إن محاولة تشويه تأثير الثقافة، من خلال جمع المستعمرات السابقة للإنجليز والمستعمرات السابقة للأفارقة التي يحكمها الإنجليز معًا، تظهر فقط أن أي معتقد تقريبًا، أي شيء تقريبًا، يمكن أن يظهر على أنه خاطئ إذا تم ذكره في عقلية بسيطة بما فيه الكفاية.
وبالمثل ، يسعى المؤمنون بالحتمية الجينية إلى تشويه سمعة العوامل الثقافية، التي تتنافس مع وجهة نظرهم القائلة بأن الاختلافات الجينية في الذكاء فطرية هي التي تفسر الاختلافات في التفاوتات الاقتصادية بين الأجناس والأمم والحضارات. لكن الحتمية الجينية، القائمة على الاختلافات المعاصرة التي لا يمكن إنكارها في دخل الفرد بين الدول والاختلافات المقابلة في درجات الاختبار العقلي، لا يمكن أن تفسر بنفس القدر التغييرات الجذرية التي لا يمكن إنكارها والتي كانت فيها أعراق أو أمم أو حضارات معينة متقدمة جدًا والتي كانت متخلفة كثيرًا في مختلف فترات من التاريخ - كان الصينيون والأوروبيون مجرد مثال واحد على انعكاسات الدور التاريخي من بين العديد من الدول.
الدول التي انتقلت من كونها فقيرة ومتخلفة إلى مراتب متقدمة في الإنجاز البشري في قرن - اسكتلندا، على سبيل المثال، بداية من القرن الثامن عشر واليابان، بدءًا من القرن التاسع عشر - تغيرت بشكل أسرع مما يبدو أنه من المرجح أن يتغير التركيب الجيني، وفي الواقع مع عدم وجود أي إشارة إلى أي تغييرات جينية على الإطلاق، على الرغم من وجود العديد من المؤشرات على التغيرات الثقافية في كلتا الحالتين. قد يشعر الباحثون بالإحباط من حقيقة أن أصول ثقافات معينة غالبًا ما تضيع في ضباب الزمن، على الرغم من أن مظاهرها المعاصرة مرئية. لا تصل الثقافة أيضًا إلى القياس الكمي، كما اشتكى أحد علماء الحتمية الجينية، وبالتالي لا يمكنها إنتاج تحليلات إحصائية، مثل تلك التي تظهر ارتباطًا كبيرًا بين درجات معدل الذكاء في الدول ودخل الفرد. ولكن الدقة العلمية وجدت الارتباطات السابقة بين المناخ والازدهار من قبل محدد جغرافي.
كلتا المجموعتين من الارتباطات مأخوذة من البيانات المأخوذة في فترة زمنية محدودة للغاية، مقارنة بآلاف السنين من التاريخ البشري، والتي تغيرت خلالها إنجازات الشعوب والدول المختلفة بشكل كبير. علاوة على ذلك، وكما أشار الإحصائيون في كثير من الأحيان ، فإن الارتباط ليس سببية - وكما قيل منذ سنوات: "من الأفضل أن تكون محقًا تقريبًا على أن تكون خاطئًا تمامًا".
سواء أكان النظر الى العوامل الثقافية أو الجغرافية أو السياسية أو غيرها من العوامل ، فإن تفاعلات هذه العوامل المختلفة هي جزء من سبب اختلاف فهم التأثيرات عن ادعاء الحتمية.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف