الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقصة الافعوان

مزهر جبر الساعدي

2021 / 9 / 25
الادب والفن


(رقصة الافعوان)
ركضت بكل ما في بدني من قوة، كي ابتعد كثيرا، واصل. سبقني عقلي في الركض، راكضا بين تلافيف دماغي. غابة النخيل كثيفة، أو هكذا خيل لي، وهناك اجمات متفرقة. تأملت اعماق السماء البعيدة، المرضعة بمصابيح الله. فحيح افاعي على مقربة مني، نباح كلاب في البعيد او عواء ذئاب، بت لا اعرف على وجه التأكيد. كنت متعبا جدا، لم انم منذ يوما كاملا، بليله ونهاره. استرخيت منبطحا على الحشائش. اخذت عيناي تتجول بين نجوم السماء التي بدت رمادية، اقرب الى السواد. عندما فتحت عيوني، وفركتها بكلتا راحتيَ، كان قرص الشمس الاصفر، لم يزل مختفيا وراء غلالة من ظلام شفيف. افترت عيناي في المكان حولي؛ كان على مقربة اشبار مني، افعوان ينظرني. ازيز مروحية امريكية، من نوع بلاك هوك، تدور فوق هامات النخيل، ارعبت العصافير والحمام، في قلب الاشجار والنخيل، لتحدث من جراء هذا الرعب؛ ضجة واضطراب، فوقي تماما. دارت دورة دورتين ومن ثم اختفت في البعيد حتى تلاشى هديرها في فضاء فجر لم ينجل بعد. الافعوان عندما انتبهت الى وجوده على مقربة مني؛ وجدته، يتلمظ بلسانه، ويحرك رأسه يمنة ويسرة، ثم اخذ يتلوى واقفا، كأنه يرقص. لكنه، عندما سلطت عيوني عليه، انسحب ودخل في بطن شجرة قريبة. قلت لنفسي: انك والله اشرف من الذباحين من جنس البشر. عندما وصلت الى باب سياج بيتي، فتحته، ودخلت ومن ثم اغلقته. من وراء الباب، حدقت في النخيل الذي شكل ما يشبه الغابة في عتمة الليل. ومن ثم حملقت مليا في السياج والباب الخارجي، ومن فوقهما الى نخيل الشارع الذي يتجول فيه الارهاب بحرية، كما هي الصورة او التصور الذي تكون في الذهن الجمعي عنه. دلفت الى البيت. وقفت وراء الباب، انظر إليه، متأملا صمت الليل، الذي امتص صوت الكائنات. الباب موصد. كنت متأكدا من احكام القفل. خائفا، ومرعوبا، ويداي ترتجفان، عندما ادرت المفتاح قبل لحظة، في احشاء القفل. من ثم بدأت ادور في البيت الذي الغرق في هذه اللحظة بالصمت والسكون والوحشة. قلت مع نفسي، ربما، رغم هذا السكون المشحون بالرهبة؛ الموت وراء الباب في الانتظار. عليك ان تغادر بأسرع وقت، في الليل قبل النهار. صديقي كان يقول لي في كل مرة التقيه في هذه الايام، الايام الأخيرة، وتحديدا من ثلاثة ايام مضت. انما في مساء هذا اليوم، قبل ساعات؛ كان يلح عليَ بقوة، اكثر قوة واصرار من ذي قبل. الشيء الذي جعلني، اهتم بالأمر، واتفكر مما قاله صديقي، بجدية وتمعن في الذي أنا فيه؛ كان حين تحدث معي في هذا المساء، قبل حين من الآن، شاحبا وكان يختض وهو يتكلم:- غادر المدينة قبل ان يرحلوك منها، ومن هذه الحياة كليا، ويمحوا وجودك منها تماما يا صديقي. لم اشأ ان اسأله، عن الدوافع والاسباب، هو ايضا كان لا يتطرق إليها. كنا كلانا نعرفها، مما جعلنا لا نخوض فيها، بتفاهم ايحائي متبادل، بلا حديث او كلام فيها. كنا على قناعة من لا فائدة من اعادة معرفة المعروف لنا، والمُعرف من وقت بعيد. ان الاجترار يبعث على الملل والقرف؛ كنا نقول بصمت في داخل كل منا. وقفت في وسط الصالة التي شهدت في الخوالي من الايام والنهارات والاماسي؛ جلسات عائلية، لعائلة صغيرة، مكونة من ابن واب وام. جلسات يسودها الحب والوئام والدفء الروحي الذي كان يغمرها بالرقة المفرطة. اقترب ابي مني، ونحن نشرب الشاي بعد العشاء كما هي العادة، كانت امي قد غادرت الصالة، بعد ان وضعت امام ابي وامامي على المنضدة المستطيلة؛ استكان الشاي. قال:- لا تنشغل بقراءة الكتاب كثيرا. اعط الجزء الاهم من وقتك الى حياتك، رتب امورك بعيدا عن صخب المواجهات مع الاخرين. ابتعد قدر استطاعتك عن مناطق الاحتكاك. لم اقل له كلمة، كنت الوذ، او احتمي بالصمت من طوق الحصار الذي يريد ابي ان يفرضه عليَ، بدافع هاجس الخوف على حياتي ومستقبلي. كنت اقدر هذا الحرص في داخلي تقديرا كبيرا، انما وفي ذات الوقت، لا يمكن لي؛ ان اترك ما ارى انه طريقا، اعثر فيه، على نفسي وكياني، كانسان؛ عليه ما على الانسان من شروط الانسانية. انصت الى سكون الليل في الخارج ووحشة البيت. كنت في هذه الساعة من هذا الليل المحمل بالكثير من الشك والريبة في الذي يحمله لي من مخاطر على حياتي، ولا اعرف من اين تجيء، أو من هو الذي، ربما في هذه الساعة او في هذه الدقائق؛ يمسك بيده اداة قتلي؛ اسمع صوت ابي ونواح امي، كان صوت ابي حزينا وباكيا، كما لم اره في حياتي، او في حياته حين كان يعيش معي، أو أنا من اعيش معه في هذا البيت؛ باكيا بهذه الدرجة العميقة من الشجن، بتناغم مخيف مع ندب امي الذي فطر قلبي. اخذت افتر في غرف البيت، واتوقف، وأنا احدق مليا في صور ابي وامي، فقد كان في الصالة عدة صور لهما وحدهما، وهناك صور اخرى كثيرة تضمني معهم. تسمرت امام صورة لنا نحن العائلة الصغيرة؛ كانت الصورة قد اخذنها قبل رحيلهما، او رحيل ابي بسنة ورحيل امي بعده باقل من سنة. كنت في وقتها، رجلا، وكانا في سنوات ما بعد خريف العمر. تناهي لي من الصورة او بعيد، او من جوف هذا الليل، او من جدران هذا البيت، فلم اعد اعلم على وجه اليقين من اي جهة او مكان كان يأتيني صوت ابي، وهو يقول: ألم اقل لك، ابتعد عن الخطر، ألم اقل لك ايضا؛ تزوج. لكنك لم تبعد عن مكامن الخطر، ولم تتزوج، وها انت تقف وحيدا، وخائفا، وحياتك مهددة، ان لم تستعجل الهروب من الموت الذي، ربما في انتظارك وراء الباب، او في ناصية الشارع. بحلقت في المكتبة الصغيرة، خاصة ابي؛ كانت تضم عدد من الكتب. هناك، في الزاوية من المكتبة دفتر من النوع المتوسط، كان ابي يكتب فيه، مذكراته، او شيء من هذا القبيل. فقد كنت حريصا على المكتبة كونها، تجعل منه؛ حيا يعيش معي. بدأت اقلب في صفحات الدفتر لا على التعين، اقلب في اوراقه كيفما اتفق. تسمرت عيناي امام احد الصفحات، جذب انتباهي، العنوان الذي تصدر الصفحة: الخراب سيحل على الوطن، في المقبل من الزمن. قرأت الصفحة حتى وصلت الى نهايتها، او الى الجملة التي ختم بها ابي؛ رؤيته:- امريكا هندسة الخراب. الصفحة كانت تحمل تاريخ الحادي عشر من ايلول، سبتمبر من عام 2003، اي قبل رحيله بسنتين. اغلقت الدفتر، ومن ثم وضعته في مكانه في المكتبة. اغلقت باب الصالة، وتحركت اجر خطوي بأسى، شلني ومزق روحي. نظرت الى الليل والظلام من الباب الخلفي الذي ينفتح على خرابة مهجورة من زمن بعيد، والتي هي بدورها تطل على الشارع الرئيسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا