الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في كتاب - الثروة، الفقر والسياسة- حتمية الجغرافيا (3)

خسرو حميد عثمان
كاتب

(Khasrow Hamid Othman)

2021 / 9 / 25
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يبدأ مؤلف كتاب Wealth, Poverty,and Politics توماس سويل بحثه المعمق في الجزء الأول تحت عنوان الحتمية الجغرافية geographic determinism بمقولة ديفيد سول لاندز: (لم يكن العالم ساحة لعب متكافئة أبداً، لكل شيء ثمن). ( للتوضيح: كان ديفيد سول لاندز (29 أبريل 1924-17 أغسطس 2013) أستاذًا للاقتصاد والتاريخ بجامعة هارفارد. مؤلف Bankers and Pashas ، Revolution in Time The Unbound Prometheus، The Wealth and Poverty of Nations and Dynasties. حظيت أعماله بالثناء لإعادته سرد التاريخ الاقتصادي بشكل مفصل، فضلاً عن الازدراء بتهمة المركزية الأوروبية، وهي تهمة تبناها علنًا، بحجة أن تفسير المعجزة الاقتصادية التي حدثت في الأصل في أوروبا، يجب أن يكون بالضرورة تحليلًا مركزيًا لأوروبا فقط.) من الويكيبيديا.
يَذْكُر بأن تفاعلات interactions العوامل الجغرافية المختلفة مع بعضها البعض، ومع عوامل غير جغرافية، بما في ذلك تغيير مستويات المعرفة البشرية بمرور الوقت، تجعل النتائج مختلفة تمامًا عما ستكون عليها إذا تم تحديدها فقط من خلال عامل جغرافي معين أو حتى من خلال العوامل الجغرافية ككل.
ويضيف؛ يمكن أن تلعب ميزة جغرافية معينة أدوارًا مختلفة جدًا في فترات مختلفة من التاريخ، اعتمادًا على التفاعلات بينها مع متغيرات المعرفة والتقنيات البشرية.
ويذكر المحيطات على سبيل المثال، التي كانت تشكل حواجز رئيسية أمام الاتصال والنقل، قبل أن تصل المعرفة بالعلوم وتكنولوجيا بالملاحة إلى مستوى يمكن فيه للبحارة عبور المحيط بأمان - وبعد ذلك وسّعت المحيطات بشكل كبير الكون الثقافي للشعوب في الأراضي البعيدة، والذين يمكنهم الآن التواصل فيما بينهم بانتظام ويتفاعلون اقتصاديًا عبر مسافات شاسعة من جانب، ولكن هذه التغيرات أدت إلى زيادة الفوارق الاقتصادية بين أولئك الذين لديهم قدرة أفضل على الاستفادة من هذه التطورات، مثل الأشخاص الذين يعيشون في مدن الموانئ مقابل الأشخاص الذين يعيشون في المناطق النائية أو الجبال من جانب أخر.
يؤكد المؤلف الأهمية القصوى للتواصل والتفاعل بين المجتمعات والشعوب عندما يكتب: " الآثار الاقتصادية للاختلافات الجغرافية تكون إما مباشرة تؤثر على مستويات المعيشة، وغير مباشرة تؤثر على تنمية الشعوب، يعتمد على ما إذا كان موقع جغرافي معين يسهل أو يعيق تواصلهم وتفاعلهم مع بقية الجنس البشري. لم يحتكر أي مجتمع الاكتشافات والاختراعات التي طورت البشر، لذا فإن مجموعة معينة من الناس - سواء كانت طبقة أو عرقًا أو أمة - على اتصال بما تفعله الشعوب الأخرى في جميع أنحاء العالم ميزة كبيرة، والعزلة ضرر."
كانت هذه فكرة مقتضبة عن العوامل الجغرافية، يُفضل قراءة الموضوع بالتفاصيل التي وردت في الكتاب: ص 25- 35:-
نعلم جميعًا أن القبائل، الأجناس، الأمم والحضارات المختلفة نشأت في أجزاء مختلفة من العالم. ما قد لا نعرفه جميعًا هو مدى اختلاف العوامل الجغرافية التي طورت كل شريحة من الأنواع البشرية أسلوب حياتها الخاص بموجبها، أو كيف أصبحت هذه الأجزاء المختلفة على دراية بالتنوع الكبير للشرائح الأخرى مؤخرًا؛ خلال ما يُعتبرفترة قصيرة من عمر البشرية التي تمتد لآلاف السنين. بعد أن تكاملت معرفة الشعوب المجاورة امتدت إلى نطاق أوسع من المعرفة بالآخرين، والاتصال عن بُعد معهم، ومع ذلك لم يكن نصف الكرة الأرضية على دراية بوجود النصف الآخر من الكوكب إلا خلال السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر الميلادي.
قد تبدو، على السطح، الأُطر التي طورت خلالها الشعوب المختلفة ثقافاتها المختلفة واقتصاداتها وتاريخها متشابهة تقريبًا، نظرًا لوجود الأنهار والجبال والسهول في جميع القارات المأهولة، على سبيل المثال. لكن الفحص الدقيق للأماكن الجغرافية يُظهر مدى الاختلاف الجذري لبعض هذه الأنهار والجبال والسهول عن مثيلاتها في مناطق أخرى من العالم - ومدى اختلاف الفرص التي وفرتها لتحقيق الازدهار الاقتصادي، الأهم من ذلك التنمية البشرية. الجغرافيا ليست متشابه. الاختلافات في المواقع الجغرافية وفي الظواهر التي تنشأ عنها، مذهلة، على الأقل، مثل التباينات الاقتصادية التي يجدها كثير من الناس مفاجئة للغاية.
التركيز الدولي للأعاصير، على سبيل المثال، هو أكثر تطرفًا عن التركيز الدولي للثروة. تحدث المزيد من الأعاصير في وسط الولايات المتحدة أكثر من أية دولة أخرى، أو في جميع البلدان الأخرى حول العالم مجتمعة. ساعات سطوع الشمس السنوية في أثينا تقارب ضعف عدد ساعات سطوع الشمس السنوية في لندن، وفي الإسكندرية - ساعات سطوع الشمس السنوية أكثر من ضعف عدد ساعات سطوع الشمس السنوية في لندن أيضاً. الزلازل شائعة حول حافة المحيط الهادئ - في كل من آسيا ونصف الكرة الغربي - لكنها نادرة حول حافة المحيط الأطلسي.
الفوارق الإجمالية شائعة في الطبيعة: هناك بعض الحشرات تعيش يومًا واحدًا فقط، بينما السلاحف تعيش مثل البشر، لأكثر من نصف قرن غالبًا، ويعيش بعضها أكثر من قرن، بينما عاشت بعض أشجار الخشب الأحمر لآلاف السنين.
قد نتحدث، في بعض الأحيان، عن مناطق جغرافية مثل المناطق الاستوائية أو الجبال أو الصحارى بشكل عام . ولكن عندما نفكر في البيئات الخاصة التي تطورت خلالها الشعوب والثقافات المختلفة، يجب أن نكون دقيقين للغاية بشأن خصائص تلك البيئات الجغرافية المعينة. جبال الآبالاش ليست كجبال الألب أو الأنديز، ونهر زائير ليس مساويًا اقتصاديًا لنهر المسيسيبي أو اليانغتسي، على الرغم من أنه يحتوي على مياه أكثر من أي منهما، لأن في زائير الكثير من الشلالات على مسارالنهر تُعرقل إمكانية توفير النقل بعيد المدى الذي توفره النهرين الآخرين.
يمكن أن تختلف فائدة الانهار للبشر اختلافًا كبيرًا، بسبب تفاعلاتها مع المناخ، حيث تحدد نسبة هطول الأمطار وذوبان الجليد كمية المياه التي يتلقاها النهر، ويحدد ضوء الشمس مقدار الماء الذي يتبخر. يتبخر حوالي 80 في المائة من الأمطار التي تهطل على إفريقيا، وإن أشعة الشمس الصيفية الوفيرة حول البحر الأبيض المتوسط ​---​--- ُتبخر كمية من المياه تفوق ما يغذيه الأمطار خلال فصل الصيف في تلك المنطقة من العالم. الطقس المتجمد في أي مكان يمكن أن يمنع النهر من الجريان على الإطلاق، مما يقلل من قيمته الاقتصادية إلى الصفر حتى يذوب الجليد. في بعض مناطق العالم يحدث هذا كثيرًا، ولأشهر في كل مرة، ولا يحدث أبدًا في مناطق أخرى ابداً، مع وجود العديد من الفروقات بينهما.
تُعتبر الجبال عاملاً جغرافيًا آخر له تأثيرات كبيرة على حياة الناس الذين يعيشون فيها، بالإضافة إلى تأثيراتها المختلفة تماماُعلى حياة الناس الذين يعيشون في أسفلها. تشكل الجبال موطن ما يقرب من 10 إلى 12 في المائة من سكان العالم، التي قد تبدو صغيرة، لكن إجمالي السكان الذين يعيشون في الجبال حول العالم أكبر بكثير من سكان الولايات المتحدة، وجميع الدول الأخرى باستثناء دولتين؛ الصين والهند. لكن سكان الجبال هؤلاء لم ينتجوا أي تقدم علمي أو اقتصادي أو تكنولوجي مثل تلك التي حدثت في الولايات المتحدة، أو حتى في البلدان التي يقل عدد سكانها كثيرًا، مثل إيطاليا أو فرنسا. لقد تركت القيود الجغرافية للحياة الجبلية العديد من سكان الجبال فقراء ومتخلفين. تُوفر التضاريس الخاصة لبعض الجبال احتمالات أكثر ملاءمة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
تختلف الجُزر والصحاري والأماكن الجغرافية الأخرى في بعض مناطق العالم عن مثيلاتها في مناطق أخرى أيضًا، وبالتالي فهي تقدم احتمالات مختلفة جدًا للتقدم البشري كذلك. لا توجد حتمية جغرافية رغم أهمية وتأثير هذه العوامل الجغرافية وغيرها،. لا توجد دول مزدهرة ذات موارد طبيعية شحيحة فقط، وبلدان فقيرة ذات موارد طبيعية غنية، بل إن بعض أفقر البلدان كانت غنية بالطبيعة لدرجة أنها أصبحت موضوع كتابٍ كامل يَدّعي بأن هناك "لعنة الموارد الطبيعية".
تجعل تفاعلات interactions العوامل الجغرافية المختلفة مع بعضها البعض، ومع العوامل غير الجغرافية، بما في ذلك تغيير مستويات المعرفة البشرية بمرور الوقت، النتائج مختلفة تمامًا عما ستكون عليه إذا تم تحديدها فقط من خلال عامل جغرافي معين أو حتى من خلال العوامل الجغرافية ككل .
يمكن أن تلعب نفس الميزة الجغرافية أدوارًا مختلفة جدًا في فترات مختلفة من التاريخ، اعتمادًا على التفاعلات بين ميزات جغرافية معينة مع تغير المعرفة والتقنيات البشرية. المحيطات، على سبيل المثال، كانت ذات يوم تشكل موانع رئيسية أمام الاتصال والنقل، قبل أن تصل المعرفة بالعلوم وتكنولوجيا الملاحة إلى مستوى يمكن فيه للبحارة عبور المحيط بأمان - وبعد ذلك وسعت المحيطات بشكل كبير الكون الثقافي للشعوب في الأراضي البعيدة، والذين يمكنهم الآن التواصل بانتظام فيما بينهم ويتفاعلون اقتصاديًا عبر مسافات شاسعة، مثل العديد من التطورات الأخرى، كان هذا سبباً في زيادة الفوارق الاقتصادية بين أولئك الذين لديهم قدرة أفضل على الاستفادة من هذه التطورات، مثل الأشخاص الذين يعيشون في الموانئ مقابل الأشخاص الذين يعيشون في المناطق النائية أو الجبال.
ما تعنيه التفاعلات interactions الجغرافية مع الأخرى بشكل عام هو أن التوليفات والتبادلات combinations and permutations المحتملة للعوامل التي تؤثر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي أكثر بكثير مما قد يوحي به عدد من العوامل الفردية. وهذا بدوره لا يعني بالضرورة احتمالية بأن كل هذه التوليفات والتبادلات ستعمل بطريقة تؤدي إلى تحقيق نتائج اقتصادية متساوية تقريبًا حول العالم. تغيير المعرفة البشرية بمرور الوقت، و تباين المعرفة من مكان إلى آخر في وقت معين، يعني أنه لا يوجد شيء يشبه تكافؤ الفرص لكي تصبح منتِجًا على قدم المساواة بين المجموعات القبلية أو العرقية أو القومية التي تطورت لآلاف السنين في أجزاء مختلفة من العالم، وطوّرت ثقافاتهم في بيئات جغرافية مختلفة بفرص وقيود مختلفة.
الأرض التي يعيش عليها الناس ليست هي نفسها في جميع الأماكن. التربة شديدة الخصوبة التي يسميها العلماء Mollisols ليست موزعة بالتساوي ولا بشكل عشوائي في جميع أنحاء العالم. توجد مثل هذه التربة بشكل حصري في المناطق المعتدلة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي تقريبًا، وتنتشر فيها بشكل غير متساو، لكنها تكاد تكون معدومة في المناطق المدارية أو في القطب الشمالي. كان هذا مهمًا بشكل خاص خلال العصور التي كانت فيها الزراعة أكثر الأنشطة الاقتصادية البشرية انتشارًا وأهمها - أي لآلاف السنين، باستثناء بعض المناطق الأكثر حظًا خلال القرون الأخيرة. الاقتصادات والثقافات التي تطورت خلال تلك الآلاف من السنين فعلت ذلك ضمن حدود اقتصادية مختلفة للغاية في بيئات جغرافية مختلفة.
الآثار الاقتصادية للاختلافات الجغرافية تكون إما مباشرة تؤثر على مستويات المعيشة، وغير مباشرة تؤثر على تنمية الشعوب، يعتمدً على ما إذا كان موقع جغرافي معين يسهل أو يعيق تواصلهم وتفاعلهم مع بقية الجنس البشري. لم يحتكر أي مجتمع الاكتشافات والاختراعات التي طورت البشر، لذا فإن تواصل مجموعة معينة من الناس - سواء كانت طبقة أو عرقًا أو أمة - مع ما تفعله الشعوب الأخرى في جميع أنحاء العالم ميزة كبيرة، والعزلة ضرر.
يعد وجود عالم ثقافي أوسع أمرًا مهمًا ليس فقط بسبب المنتجات والتقنيات والمعرفة التي يتم نقلها ذهابًا وإيابًا - على الرغم من أهميتها - لربما أكثر أهمية، لأن الناس يرون بشكل متكرر كيف تم تنفيذ الأشياء بشكل مختلف من قبل الآخرين، يمكن للأماكن أن تخترق الجمود البشري الطبيعي الذي يجعل الناس يفعلون نفس الأشياء بنفس الطرق المألوفة، لأجيال أو حتى قرون، كما يحدث في العديد من المجتمعات المعزولة جغرافيًا.
عندما غزا الإسبان جزر الكناري المعزولة في القرن الخامس عشر، استولوا على أناس من عرق قوقازي، عاشوا مثلما عاش الناس في العصر الحجري. وبالمثل عندما اكتشف البريطانيون السكان الأصليين الأستراليين المعزولين في القرن الثامن عشر. الأماكن المعزولة الأخرى أيضًا ، سواء في القرى الجبلية البعيدة أو في عمق الأدغال الإستوائية تم العثور على شعوب تعيش كما عاش الآخرون في القرون أو قبل آلاف السنين.
الصحاري عامل جغرافي آخر يعزل الشعوب، أكبر صحاري العالم حتى الآن هي الصحراء الكبرى، وهي عامل سلبي لشعوب شمال إفريقيا ولكنها عائق مدمر لشعوب الجنوب والأفارقة السود في المناطق الاستوائية وجنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا. هذه الصحراء الشاسعة بشكل لا يقارن - أكبر بقليل من 48 ولاية متجاورة للولايات المتحدة - كانت لقرون أكبر عامل منفرد يعزل شعوب أفريقيا جنوب الصحراء عن بقية العالم. كما أدت ندرة الموانئ الجيدة في إفريقيا الاستوائية إلى الحد من الاتصالات مع الثقافات الخارجية، على حد تعبير فرناند بروديل، "رَِشح التأثير الخارجي ببطء شديد، قطرة بعد قطرة، الى القارة الإفريقية الشاسعة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى."
على الرغم من التأثيرات الجغرافية، لا يمكن أن تكون هناك حتمية جغرافية، لأنه عندما يكون الناس على اتصال مع شعوب أخرى، حتى البيئة الجغرافية غير المتغيرة تتفاعل مع المعرفة البشرية المتغيرة والثقافات البشرية المختلفة التي لها قيم وتطلعات مختلفة، مما ينتج عنه نتائج اقتصادية ونتائج أخرى مختلفة تمامًا في أوقات وأماكن مختلفة. معظم الموارد الطبيعية بالنسبة لنا اليوم لم تكن موارد طبيعية لرجل الكهف الذي لم يكتسب بعد معرفة كيفية استخدام هذه الأشياء لأغراضه الخاصة. كانت هناك رواسب ضخمة من البترول في الشرق الأوسط منذ زمن سحيق. ولكن بعد تقدم العلم والتكنولوجيا إلى المستوى الذي أدى إلى إنشاء دول صناعية في أماكن أخرى، أصبح نفط الشرق الأوسط أحد الأصول القيمة فقط، مما أدى إلى تغيير عميق في الحياة في كل من الشرق الأوسط والبلدان الصناعية.
لا يمكن اعتبار التأثيرات الجغرافية الفردية بمعزل عن غيرها، لأن تفاعلاتها تؤثر بشكل حاسم على النتائج. العلاقة بين هطول الأمطار والتربة هي مجرد مثال واحد على هذه التفاعلات. لا يقتصر الأمر على أن كمية الأمطار تختلف اختلافًا كبيرًا من مكان إلى آخر، وكذلك قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه التي تمطر عليها. هذه القدرة الحاسمة على الاحتفاظ بالمياه أقل بكثير في تربة الحجر الجيري في البلقان منها في تربة اللوس في شمال الصين. نظرًا لأن المناخ والتربة يؤثران على كيفية زراعة المحاصيل المختلفة في أماكن مختلفة، فقد حال ذلك فعليًا دون تحقيق رخاء متساوٍ في جميع مناطق العالم خلال آلاف السنين عندما كانت الزراعة أهم نشاط اقتصادي حول العالم ، وأساس التطور العمراني للمجتمعات والشعوب في أنحاء مختلفة من العالم.
كما هو الحال مع العديد من الأشياء الأخرى، فإن قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه هي فائدة فقط ضمن نطاق معين من التباين. بالعودة إلى العصر الروماني، أدت الأراضي المنبسطة جدًا في شمال غرب أوروبا، والتي تقع في منطقة غزيرة الأمطار، إلى العديد من المستنقعات وكانت أماكنها عوائق رئيسية أمام الزراعة. بعد قرون من تطوير تقنيات الصرف، تم تجفيف جزء كبير من هذه الأراضي أصبحت خصبة، والخصوبة في تربة معينة ليست أمرًا متأصلًا دائما وغير قابل للتغيير. إن تطوير تقنيات الصرف والري، أو المحاريث التي يمكن استعمالها مع الخيول أو الثيران لحرث التربة الثقيلة، يؤثر بشكل كبير على خصوبتها. كان تفاعل التربة وهطول الأمطار وتغير المعرفة البشرية والتكنولوجيا بمرور الوقت هو الذي جعل التربة في شمال غرب أوروبا تصبح خصبة.
لم تكن أوروبا بأي حال من الأحوال المكان الوحيد الذي تغيرت فيه خصوبة التربة على مر القرون أو آلاف السنين. كانت هضبة اللوس في شمال وسط الصين منطقة زراعية مهمة، منذ ما يقرب من ألفي عام، توفر الحبوب والأخشاب والماشية للبلاد ككل. ولكن يمكن للمسافرين اليوم في نفس المنطقة السفر لأميال "دون رؤية أكثر من بضع أشجار متناثرة أو بعض الشجيرات الصغيرة المنتشرة على نطاق واسع" في "بانوراما لا نهاية لها على ما يبدو من التلال والأودية والوديان الصفراء القاحلة." لم يقتصر على الصين عواقب مماثلة للتعرية المتسارعة بعد عمليات الإزالة الهائلة للأشجار استمرت في العصر الحديث في العديد من الأراضي الأخرى حول العالم، على الرغم من أن الولايات المتحدة لديها مساحات صافية من أراضي الغابات. كانت هذه العمليات شائعة حول أراضي البحر الأبيض المتوسط ​---​---القديمة واستمرت هناك في القرون الأخيرة: على الرغم من عدم اكتماله فإن الأدلة على إزالة الغابات على نطاق واسع وتآكل التربة في جبال البحر الأبيض المتوسط ​---​---بين عامي 1800 و 1950 مقنعة. اختلف التوقيت والوتيرة من مكان إلى آخر. تختلف تكاليف تغيير المناظر الطبيعية وفقًا للجيولوجيا والاقتصاد المحلي.عملت لصالح سكان الأراضي المنخفضة والساحلية، على الرغم من أنها لم تفعل في كثير من الأحيان. لم يكن لصالح سكان الجبال في أي مكان. التربة والوقود والأخشاب حتى المراعي أصبحت أكثر ندرة أو بعدا، وأصبحت الحياة الصعبة أكثر صعوبة.
بشكل عام، كل ذلك يعني: أنه لا يمكن افتراض أن منطقة معينة من العالم هي نفس البيئة الجغرافية على مدى فترات زمنية طويلة جدًا.
بسبب تأثير أشعة الشمس في تبخير الماء، حتى الأماكن التي بها نفس هطول الأمطار السنوي، ونفس امتصاص الأرض لمياه الأمطار هذه، يمكن مع ذلك أن يكون لهما كميات مختلفة جدًا من المياه في التربة لتغذية المحاصيل. نظرًا لأن الأراضي المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط ​---​---تتلقى الكثير من ضوء الشمس أكثر من إنجلترا، فإن تبخر المياه يكون أكبر في البحر الأبيض المتوسط. كما أشارت أطروحة جغرافية الى ملحوظة: "هطول الأمطار السنوي البالغ 23 بوصة، والذي يحافظ على الغطاء النباتي الطازج جنوب إنجلترا حيث رطوبة الصيف معتدلة، غير كافٍ في القدس أو باليرمو للحدائق أو مزارع الكروم ، والتي تتطلب بعد ذلك الري للحفاظ على النمو."
لم تكن النتائج الاقتصادية المتساوية نادرة أو غير موجودة فحسب، بل اختلفت أنماط عدم المساواة الخاصة في حقبة ما اختلافًا كبيرًا عن الأنماط المعينة لعدم المساواة في حقبة أخرى. عكس التفوق الهائل للمجتمع اليوناني القديم على المجتمع البريطاني القديم الميزة الجغرافية لليونان في كونها تقع بالقرب من الشرق الأوسط، حيث تطورت الزراعة في العصور القديمة وانتشرت في جنوب شرق أوروبا القريب، قبل قرون من انتشارها في جميع أنحاء أوروبا وخارجها. بدون الزراعة من الصعب، إن لم يكن من المستحيل عمليًا، أن تكون لديك مجتمعات حضرية مكتظة بالسكان، تختلف عن مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار، أو الرعاة - الذين يحتاجون جميعًا إلى مساحات شاسعة من الأرض للتجول من أجل الحصول على ما يكفي من الغذاء للحفاظ على عدد معين من الناس. ظلت المدن مصادر الكثير، إن لم يكن معظم، التقدم الحضاري حتى يومنا هذا. وقد حدث قدر أكبر بكثير من هذه التطورات، وخاصة الإنجازات العلمية والتكنولوجية البارزة، بين سكان المدن أكثر من عدد مماثل من الأشخاص الذين يعيشون في أماكن أخرى.
لقد تخلفت الشعوب التي ليس لديها المتطلبات الجغرافية للمدن منذ فترة طويلة عن الشعوب في الأماكن التي سهلت التوسع الحضري. تطورت المدن في وقت متأخر نسبيًا في وجود الجنس البشري على مدى عشرات الآلاف من السنين - وكذلك فعلت معظم التطورات في ما نعترف به اليوم على أنها حضارة. من خلال جعل المدن ممكنة، جعلت الزراعة امكانية التقدم الصناعي والطب الكبير وغيره من التطورات التي ازدهرت في البيئات الحضرية.
يمكن للتطورات الحديثة في النقل والاتصالات أن تخترق عزلة العديد من الناس، تمامًا مثل التطورات التكنولوجية الأخرى
التي يمكن أن تخفف، أو حتى تقضي في بعض الأحيان، على المعوقات الحالية لأنواع مختلفة أخرى من العوائق الجغرافية التي تعترض التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن ما لا تستطيع هذه التطورات الحديثة تاريخياً أن تفعله هو محو آثار آلاف السنين من التطور الثقافي المختلف الذي حدث حيث كانت هناك قيود جغرافية خطيرة، مقارنة بالأماكن التي يسكنها أناس لديهم آلاف السنين من التجارب التي أغنتهم تعرضات أوسع للإنجازات و أفكار الشعوب الأخرى حول العالم.
كيف نحدد مفهوم البيئة أمر بالغ الأهمية. كان تعريف أحد الجغرافيين المتميزين، "البيئة هي المكان المادي الكلي الذي يعيش فيه الناس." كيف أن التجارب السابقة للأجداد "تركت بصماتها على العرق الحالي في شكل القدرات الموروثة والعادات التقليدية المكتسبة في موائل الأجداد البعيدة تلك." مثل ما يدور حول أشخاص معينين أو بيئة محددة لتشمل أيضًا ما هو موجود داخل هؤلاء الأشخاص.
لا يمكننا فهم ما يحدث اليوم دون فهم الظروف الماضية التي شكلت كلا من العالمين الجسدي والعقلي للأشخاص الذين يعيشون اليوم ، والتي هي إرث من الماضي، للأفضل أو للأسوأ. "الرجال ليسوا ألواحًا فارغة تنقش عليها البيئة ثقافة يمكن محوها بسهولة لإفساح المجال أمام كتابة جديدة". 28 كما قال مؤرخ مشهور آخر: "نحن لا نعيش في الماضي ، لكن الماضي فينا "،على حد تعبير أحد المؤرخين الثقافيين.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع