الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يوجد شاي جاهز؟

سلامة محمد لمين عبد الله

2021 / 9 / 25
الادب والفن


من العادات الحميدة التي حافظ عليها الآباء و الأجداد في الماضي عند تحضيرهم للشاي، هي غليُ الماء أولا في غلاّية الماء (المَقْرَجْ). و كانوا يستعملون أدوات مشهورة و عملية لهذا الغرض، مثل (الحَمّارَة) ذات الثلاث أرجل،التي تحمل المقرج فوق النار المشتعلة، و آلة (نَبْلُو) التي تشبه حرف الكاف و لها رجل واحدة تغرز بطريقة مائلة في الرمل بجانب موقد النار و يعلق فيها المقرج. و عندما يدعونك لتناول الشاي عند إحدى خيم القرية البدوية "لَفْرِيگْ"، يقولون: "تعال رَانّ لاَهِي انْتَيُّو"، أي أننا بصدد تحضير الشاي. أو "گاَّلك فولان أتْجِي رَاهُ مْطَلَّعْ"، أي انه وضع المقرج فوق النار لغلي الماء. أو "رَانّ أمْعَمْرِينْ"، أو "رَاهُ فولان أمْعَمَّرْ"، أي أننا وضعنا البَرَّادْ (أو الإبريق) فوقَ الجمر في الموقد الصغير"أفْرَنَّة). فعملية غلي الماء كخطوة أولى في تحضير الشاي كانت شيئا ضروريا، بغض النظر عن حلاوة أو ملوحة الماء. و يجب الإنتظار حتى "يَطْلَعْ" المقرج، أي، حتى يغلي الماء الموجود فيه ، و "أيْلُوحْ أَسْبُولَة"، أي، يتصاعد البخار بقوة من رقبته لبعض الوقت. لقد اثبت العلم أن غلي الماء هو مسألة صحية محبذة لقتل الجراثيم الموجودة فيه و تصفيته. بعد ذلك تأتي خطوة غسل الشاي بالماء الساخن، و هذه "الغسلة" تسمى "التَّشْلِيلَة"، و قد تتبعها تشليلة أخرى خفيفة. ثم يسكبون الماء على الشاي في البراد و يضعونه فوق الجمر.لكنهم لا يتركون الشاي حتى يغلي تماما، و إنما يأخذونه من فوق النار عندما يبدأ في الغليان، في اللحظة التي تصعد فيها أوراق الشاي و الرغوة إلى فوهة البراد و فمه. حينها يقولون أن الشاي "أشْهَرْ"، فيضعونه في الطّبْلَة ليستريح و يضيفون له السكر و النعناع إذا كان متوفرا، و يقلبونه بين البراد و الكؤوس، و لا يعيدونه إلى النار ثانية إلا عند الحاجة القصوى و للحظات قليلة فقط. هذه الخطوات و الطقوس أضفت على الشاي هيبةً و إحترامًا، و أكسبته مذاقًا رفيعًا و لونًا ذهبيًّا به حُمرة أو خُضرة، و مذاقا لذيذا يفتح الشهية و رائحةً فريدةً تكشفُ نوعيته و جودة طهيه و "اتجيب اسْعِيدْ مْنَ ابْعِيدْ"، و منحت جلسةَ الشاي دفئا خاصا، و جلعت الحديث هادئا و مركزا و شيقا و مفيدا. فالضيوف كانوا يستمتعون بالوقت الثمين الذي يقضونه أثناء شرب الشاي و يتمنّون أن يطُولَ و أن يتكرّرَ. لا توجد مجاملات كثيرة أثناء جلسة الشاي، لكن الضيوف إذا أرادوا التعبير عن إعجابهم به، يقولون لمن يشرف على إعداده: "رَانَكْ تَيَّيْتْ"، أو "رَانَكْ تَيَّيْتِي" بالنسبة للمرأة، مع إختلاف صوتي طفيف في "رانك". أو يقولون "كَاسْ" و حسب، أو يطرقون طرقا خفيفا برؤوس أصابعهم على زجاج الكأس الفارغ. أما إذا كان الشاي مركزا جدا، يقولون "گاسِي" أو "مر"، و قد يعيدونه للقَيَّام ليخففه بالماء (المغلي!) و السكر. إذا كان خفيفا و يخصه السكر، يقولون "مَأسَخْ". و إذا كان مخففا و لونه فاتحا، فيسمونه "بوجمعة" أو البُوجاعي". و عندما يكون لذيذا و لونه يميل إلى الصُّفرَة بتأثير اشعة شمس المساء، فإنهم يطلقون عليه "الذَّهْبِي". أما إذا كان الكأس الأخير من كؤوس الشاي الثلاثة التي يقدمها المُضيفُ لضُيوفِه في الجلسة الواحدة، "ذَهْبيًا" شفافا و فيه كثير من السكر، و الوقت أصبح يداهمهم و لا يسمح لهم بإنتظار التحسينات الممكنة، فإنهم يشربونه و يمدحونه بالتعبير الساخر:"أحْلُو و احْلالْ".
اليوم، للأسف، لم نعد، نحن المتعلمون، نكلف أنفسنا عناء غلي الماء أثناء تحضير الشاي، و لم نعد نولي الإهتمام اللازم للخطوات و الطقوس التي ينجزها "القَيَّامْ"، أي المضيف الذي يعدُّ الشاي و يدعو الناس لتناوله. هذا التراخي و الإهمال و ما يصاحبهما من فوضي و تذبذب في عدد و مستوى الضيوف، و تعدد مواضيع الحديث و عدم إحترام جلسة الشاي و ما تتطلبه من إنتباه و هدوء و إنضباط، تسبَّبَ في فقدان طقوس الشاي طابعها التقليدي الجميل، و جلسة الشاي هيبتها و وقارها، و الشاي خصائصه الفريدة. يجب أن نفهمَ أنَّ براد الشاي له حجم محدود، فهو إما أن يكون "اثْلاثِي" أو "أخْماسِي" أو "أعشَاري"، و أنّ عدد كؤوس الشاي "الفناجين" محدود أيضا، و أنّ مذاق الشاي و جودة تحضيره، يتوقفان على تَنَاسُب كمية الشاي و السكر مع عوامل الجمر و مدة التسخين والنقع، و يتأثران بالجو العام للجلسة و طريقة الحديث و بالحالة الشعورية لِ "القيام". كما يجب إدراك أنّ الدعوة لتناول الشاي هي مناسبة حميمية إجتماعية إنسانية، تدُلُّ على الكرم، و لها مكانُها و وقتُها و آدابُها الخاصة. لذلك، لا يجب أنْ نتصرّفَ كالصّبيان، ونتطفّل و نتجاهل و نستهتر و نتغافل و نتكاسل و نتلصص. و أينما تشَمّمنا رائحة "عَسْلَة" الشاي تنبعث من مكان ما، أو قيل لنا أنّ شخصا ما يتناول الشاي في مكان ما، نفتعل سببا تافها، و ندوس على الوصول و ننتهك الحرمات و الهدوء و السكينة و الهيبة و الوقار، و نتصرّف بطريقة فظة هجومية متعجرفة، و نقتحم جلسة الشاي بسؤال ليس له داع: "مَانَكْ صَابْ كَاس؟"، أي: هل يوجد شاي جاهز؟

عسلة الشاي: مادة بنية لها رائحة و طعم الكاراميل تتشكل عندما يلامس الشاي الحلو الذي يخرج من فم البراد الجمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شاي -بوجمعة-
سلامة محمد لمين عبد الله ( 2021 / 9 / 25 - 22:35 )
نسمي -بوجمعة- الشاي الخفيف الفاتح اللون الحلو أو ليس له طعم واضح


2 - البراد أشهر
سلامة محمد لمين عبد الله ( 2021 / 10 / 6 - 16:07 )
نقول أن البراد -أَشْهَرْ-، فهي أكثر دقة.

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل