الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البلاد تغلق أبوابها..... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 9 / 26
الادب والفن


المحبة ليست بفضيلة .. هي ضرورة أشد من ضرورة الخبز والماء , والنور والهواء .
ميخائل نعيمة
...............................................................

ليتني ما جئت إلى هذه البلاد .
قالها وهو يغلق خلفه باب غرفته , وقذف بحقيبته على الطاولة بشيء من الضيق , وتهالك على سريره زافراً عبء شهور ربضت على صدره , حاملةً ألم الوحدة والفراق .
لكنه يلتجئ إلى كتاب أو مجلة , يحاوره على الصفحات مفكر يطرح رأيا في أهمية نقل المجتمع من حالة الركود والثبات في فكر غيبي أحادي , إلى أفكار متنوعة في العلمانية والحداثة والحرية.
يمضي به الوقت , يتأرجح بين القبول والرفض , فيوماً يجد نفسه منافحاً عن مجتمع يرتدي جلباب العزلة , متكئاً على خلفية صيانة الهوية الثقافية , وخشية الذوبان في مرجل عالمي يصهر الخصوصية التي نشأ عليها فاعتادها , ما يجعل الذهب العتيق يختلط بشوائب الحديد والنحاس والصدأ.
ويوماً آخر, يتحفز للترويج لآراء الفكر الغربي وإبداعاته , التي خلّص بعض المجتمعات من الخرافة والظلم , وآمن بإنجازات العقل وتحرير الذات .
وكثيراً ما يسأل نفسه عن أعظم قيمة يمتلكها الإنسان الحب , هذه النفحة الإلهية , هذه الخلطة الكيميائية التي بثها الله في العروق والشرايين , فصار نسيجاً شفافاً , يسري مع الدماء فينعش القلب , ويزكي الأعصاب بنور ملا ئكي.
الحب ؟ دق قلبه , سمع دقاته , طيف هالة ينتصب قبالته, دامعة العينين , عاتِبة ( لا خبر منك .. ولا سؤال عنا ؟ ).
ارتعد , خنقته عبرة , ( يا ملكة القلب , وعبير الروح , حقك أن تعتبي, رغم محاولاتي المملة للاتصال بك, دون جدوى , لا أحد يرد , لا هاتفك الجوال , ولا هاتف المنزل , فماذا جرى ؟ ).
يزفر, يمسح دمعه , يتمدد , يسرح مفاضلاً بين حياته يوم كان مع هالة في الجامعة , في السوق , في المطعم , في زيارة الأصدقاء من الجنسين , يسود بينهم الاحترام والمودة , وبين مجتمع لا يعرف رجاله النساء , ولا تعرف نساؤه الرجال , هم يؤمنون لو أن رجلاً يرى وجه امرأة أو يكلمها , قد تنهدّ السماء على الأرض .
النساء ليل كتيم , سواد دامس , ينتقل السواد إلى القلوب, فتنغلق النفوس , وتتحجر العقول , فتتصحر البساتين .
ما هذه الحياة , أين نفحة السماء ؟ أين نسيم الروح ؟ وكيف يأتي النور الملائكي ؟
الحب!.. نهض بجذعه, افتر ثغره عن ابتسامة ساخرة تحمل العديد من التساؤلات , تنبه , يا إلهي , ما هذه التعاسة ؟ كيف يختار الشاب فتاة أحلامه ؟
تصور نفسه طالباً يدرس في الجامعة , دون أن يرى هالة , وهي تخطو أمامه , وتشير له بأصابع كفها بتحية ناعمة , فيلحق بها مثل فراشة يجذبها الضوء , يحس أن الأرض تميد حين تميس , تتمايل , كأن جذعها سينقطع ليفترق عن حوضها , يهتز صدره , يتقافز شعرها مثل مروحة ملكية فوق عنق نبيل , يشرئب كبرياءً واعتزازاً بعلاقة حب ناضجة .
تنفس بعمق , ارتاح , طمأن نفسه , فهو سيعود إلى بلاده , يرى الحياة ويعيشها , الشباب والفتيات , وبينهن هالة سيأخذها من يدها , يتمشى معها , سيشاهدوهما معاً , ويتحدثون عن حبهما , وسيعلنان لهم جميعاً أنهما خطيبين , وقريباً زوجين , وسيقول للشباب والصبايا , ليبحث كل واحد عمن يحبه , فنحن نعيش في نعمة لا حدود لها , اختاروا من تحبون وتزوجوا , وسيهتف فرحاً , اصدح بغنائك أيها العمر, فالغناء يبعث الفراشات والعصافير في بستان قلب قاحل .
فرد مخدة الذكريات , ونام على سرير من أرق, أغمض جفنيه , أحضر يوم الوداع , وقبله , استحضر فرحة النجاح والتخرج , هو وهالة , تعاهدا على الزواج , رغم كل العقبات , ويوم وصله فاكس بعقد العمل خارج البلد , فرِح به وزف الفرحة لحبيبته هالة, فبنت عليه آمالاً ولونت أيامها بالأحلام , فهو بعد عام واحد , يستطيع تأمين طلبات الزواج .
ودّعها وهو يشد على كفها , كل همسة منه رعشةٌ تسري تحت مسامات الجلد والنبض والعروق, يكاد قلبه يسقط في أحشائه, وهو يمسح دمعتين غسلتا هدبيها وحين أفلت يده من يدها قالت: (الله معك لا تنساني) .
مرت الأيام طويلة , رتيبة , كل يوم يمضي , يحس أنه يقترب من حلمه أكثر, لكنه لا يستطيع أن يوصل لها أي خبر أو اتصال , ولم يتلق منها ما يطمئنه عن أحوالها , كأنه في سجن يحرّم عليه التواصل , ولم يبق أمامه إلا ذكرياته .
صورتها تنهض على الطاولة , يلقي عليها تحية الصباح , حين يستقبل الشروق , يتألق نور وجهها مع أشعة الشمس لتصب على قلبه الأمان والرضى .
قرر ألا يعود مرة ثانية إلى هذه البلاد , سينهي كل علاقة له , ويمضي ليعيش الحياة الحقيقية , فما جدوى حياته بلا محبة ؟ وما جدوى أن يجمع المال وهو يفقد أثمن ما في الدنيا ؟ سيعبّ السعادة قبل أن يشيخ الزمن وينطفئ سراج عمره , ويرقد في قبر الظلام والرطوبة.
وحدها أمه في المطار تنتظره , كان يتوقع أن ترافقها هالة , ضمته بذراعيها ورفرف قلبها , واكتحلت عيناها, وهو يخبئ دهشة السؤال.
هزت أمه رأسها وقالت :( أفهم ما يدور في رأسك.. لم أعرف شيئاً عن هالة يا بني.. ولم استطع رؤيتها منذ سافرت...لا تهتم ..غداً خذني إلى بيتهم لأخطبها لك) .
قفز مع الفرحة , قبّل رأس أمه ويدها , تنفس نسيم صيف دمشق , وهو يمد رأسه خلال نافذة السيارة التي تقلهما , ليملأ رئتيه عبير الياسمين والنارنج , ليتنشق عبق ذكرياته مع هالة عبر الأرصفة , والحدائق والمتحف الوطني , وقصر العظم , والصالحية , ومسرح الحمراء .
أحسّ أنه عاد إلى الحياة من جديد , كأنه طائر يحلّق بجناحين من حرية , هو أمير البلاد بحب هالة , صورتها تنهض على الطاولة في غرفته , ترافقه حيث حل , وفجأة يتنبه , يهمس لنفسه برعب , ويحاول إزاحة هذا الخاطر, خاطر جديد لم يداوره أبداً من قبل .
قاوم همس أفكاره بلا جدوى , أ يكون انقطاعها وغيابها وصمتها , سببه ...الموت ؟ خاطر صرع روحه , جذوة من لهب تحرق صدره .
يهز رأسه رافضاً خاطره , ينهمر الياسمين ليملأ دلو الصبح عبيراً أسيلا, فتتفتق جراح النفس , وينفلت عقال صهيل جيادها في ملعب التصورات القاتلة ,
استعجل أمه للذهاب إليهم , فلامته على اندلاقه وتهافته, ثم عذرته ضاحكةً حين تذكرت أنها كانت تطير كنحلة إلى أبيه , ويرفرف كعصفور نحوها .
سلّما على والد هالة وأمها , وجلسوا في غرفة الاستقبال, عرّف عن نفسه , وقدّم أمه أيضاً , كانت أم هالة ترتدي جلباب الكآبة , قالت أمه :
- جئنا إليكم نطلب يد هالة لابني .
نظر الرجل إلى زوجته ثم قال ببرود كئيب :
- اطلبي هالة لتحضر لدقيقة فقط .
دق قلبه بغير انتظام , خطف نظرة سريعة إلى عيني أمه , تبادلا تنهيدة حائرة .
دخلت فتاة صامتة , مترددة , لم يعتد أن يراها بمثل هذا الشكل الذي يلفها من رأسها حتى قدميها , وجهها لا يكاد يبدو من لفائف الأقمشة المحيطة به .
بُهت , ذُهل , أمسك رأسه بكفيه , كاد يبكي , قالت أمه:
- أهذه هالة ؟
أبوها رد قائلاً :
- نعم هذه هالة.. وشرطنا لمن يخطبها للزواج ، أن تبقى بهذا اللباس مدى حياتها .
استدارت هالة باتجاه الباب.. خرجت دون أن تفوه بكلمة, رمت بنفسها على سريرها وانفلتت بالبكاء .
أحس أنه فقد هالة إلى الأبد , لا فرق عنده بين فقدانها وبين شرط أبيها , قال :
- لكنني أحب هالة , وهي تحبني , ونحن أحرار في حياتنا نلبس ما نشاء.. ونعيش كما يحلو لنا.. المهم أن نحافظ على حبنا وكرامتنا .
انتفض الأب واقفاً وصرخ :
- رأي بنتي من رأيي , ليس عندي بنات للزواج , مع السلامة .
احتضن يأسه في غرفته مخذولاً , لا يدري من يسب , يجرِّض ريقه , ليبصقه في وجه الظلم , فيبتلعه منهزماً تحت وطأة المواجهة الخاسرة .
تسرح في رأسه أفكار غريبة , محاولةً إنقاذ هالة من وكر الوحشة والعفونة , لكنه يرتد عن هلوساته إلى واقع يطحن الحصى .
يخشى القانون الذي يسلبه حلمه وحريته , لأنه وحده لا يقدر على تغيير شيء .
بقي مدة الصيف , بدلاً من أن يملأ الوديان والجبال والساحل فرحاً ومرحاً مع الحبيبة , استمر قابعاً في مكانه , يئن تحت وطأة الاستلاب , ولا يملك إلا أن يتدثر بغير الصبر, ليبرأ من وجع الروح , يتأمل ما فاته من كآبات , وتبوح ساقية النفس بآهات من دمع وأسى .
حزم حقائبه , تخلخلت أحشاؤه ساعة الرحيل , ودّع أمه, ومضى قاصداً المطار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا