الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قَسَمُ أبقراط … هديةُ عيد ميلادي!

فاطمة ناعوت

2021 / 9 / 26
حقوق الانسان


في بداية حملها المسؤولية، أصدرت وزيرةُ الصحة المصرية المقاتلة د. "هالة زايد" قرارًا وزاريًّا فريدًا ينصُّ على إذاعة السلام الوطني لجمهورية مصر، يعقبه قَسَمُ الأطباء، أو قَسَم أبقراط، عبر الإذاعة الداخلية لكل مستشفى، في نهار كلّ يوم. وقوبل القرارُ المثقف بالاستنكار والاستخفاف، من رواد سوشيال ميديا ووصفه بعضهم "بالبدعة" و"الشوو" وغير ذلك من كلمات لا تليق.
لكنني، على النقيض من ذلك، راق لي القرار المبتكر القادم من "خارج الصندوق”، وشعرتُ أن وراءها عمقًا تريدُ الوزيرةُ المثقفة تكريسَه في شباب الأطباء، وفي سائر الهيكل الطبي من طاقم التمريض إلى الإداريين وغيرهم. فجلالُ السلام الجمهوري، يعطي الشعور بأن المرضى (الضعفاء بمرضهم)، ذوو حصانة قومية رفيعة، وكأنما (مصرُ) بكامل جلالها تتوسّط لهم وتنتظر خروجهم سالمين معافين. النشيدُ الوطني وقسَمُ الأطباء يخاطبان وجدان الطبيب، بشكل يومي، لئلا ينسى أمرين: واجبه تجاه وطنه، وواجبه تجاه أبناء وطنه، وذلك بإتقان رسالته، التي هي واحدة من أشرف الرسالات على الأرض: تخفيف آلام إنسان.
أما "أبقراط Hippokrátēs” فهو الطبيب ُالإغريقي العظيم، ابن القرن الرابع قبل الميلاد والمعروف تاريخيًّا بـ "أبو الطب"، ولقّبه العربُ بـ"الفاضل"؛ اعترافًا ببنائه أول منظومة علمية وأخلاقية في المجال الطبي، وتأسيسه أول مدرسة طبية في التاريخ أحدثت ثورة في الطب اليوناني القديم الذي ارتبط فيما مضى بالخيمياء والفلسفة، بل كان يُعتقَد أن المرض عقابٌ من الآلهة الغضبى على الإنسان. وعلى يد "أبقراط" صار الطبُّ علمًا مستقلا بذاته. ويرى "أبقراط" أن محاربة الشهوات والرغبات أيسرُ من معالجة العلّة، والإقلال من الضارّ خيرٌ من الإكثار من النافع، وإن الطب قياسٌ وتجربة. وقال إن الناس في حال الصحة يأكلون كما تأكل السباعُ، فيمرضون، فيصفُ لهم الأطباءُ طعام الطير، حتى يصحّوا.
أطلق أبو الطب قَسَمًا شرفيًّا يتلوه الطبيبُ قبل ممارسة المهنة، ويُعدُّ أهم وثيقة أسَّست أخلاقيات مهنة الطب، حتى اليوم. يرى "أبقراط" أن الطب مهنةٌ نبيلة لا يتعلمها إلا الشرفاء من أهل الطهارة والعفاف والتُّقى، لأن عالمَ علم الطب يجب أن يكون رحيمًا عفيفًا محبًّا لجميع البشر. في "قَسَم أبقراط" الشهير، يقسمُ أبو الطب الإغريقي، ألا يقسو على أهل المريض، وأن يراعي حالتهم المالية، وأن يقدّم خدماته دون أجر، إذا كان المريضُ فقيرًا، أو غريبًا عن وطنه. وضع "أبقراط" صفاتٍ سبعًا يجب على الطبيب التحلّى بها قبل ممارسة المهنة. الأولى: أن يكونَ تامَّ الخَلق، صحيحَ الأعضاء، حسنَ الذكاء، جيِّد الرويَّة، عاقلًا، ذَكورًا، خيِّر الطبع. الثَّانية: أن يكونَ حسنَ الملبس، طيِّبَ الرائحة، نظيفَ الثوب والبدن. الثَّالثة: أن يكونَ كَتومًا لأسرار المرضى، لا يبوح بشيءٍ من خبيئاتهم. الرابعة: أن تكونَ رغبتُه في إبراء المرضى أكثرَ من رغبته فيما يلتمسه من الأجر، ورغبته في علاج الفقراء أكثرَ من رغبته في علاج الأغنياء. الخامسة: أن يكونَ حريصًا على التعلّم ويتمتع بالرغبة القصوى في نفع الناس وعلاج أوجاعهم. السادسة: أن يكون نظيفَ القلب، عفيفَ النظر، صادقَ اللَّهجة، لا يخطر بباله شيءٌ من أمور النساء والأموال التي قد يشاهدها في منازل الأغنياء، فضلًا عن أن يتعرَّضَ إلى شيء منها. السابعة: أن يكونَ مأمونًا موثوقًا به على الأرواح والأموال، لا يصفُ دواء قتَّالًا ولا يعلمه لتلاميذه، ولا دواء يُسقِط الأجنَّة من الأرحام، يُعالِج عَدوَّه بنيَّة صادقة كما يُعالِج صديقه.
قبل سنوات بعيدة، كنتُ في زيارة لجاليري صديقي اليوناني العزيز "توني كازامياس"، مستشار دير سانت كاترين، الذي يعشقُ مصرَ كأنها وطنُه الأم، ويتحدثُ الدارجة المصرية كما نتحدثُها. كنتُ أجولُ بين أروقة الجاليري، وتتفحّصُ عيناي فرائد التحف والتماثيل القديمة القيمة، حتى وقع بصري على جدارية أنيقة من حجر البازلت مكتوب عليها بحروف بارزة من اللغة اليونانية القديمة. أدركتُ على الفور أنها "قسم أبقراط" حينما وقع نظري على رأسه محفورًا في أعلى الجدارية. وثبتُ في الهواء وهتفتُ بأعلى صوتي كطفلةٍ وقعت على منجم حلوى: “قَسَم أبقراااااط!” مفتونةٌ أنا بالحضارة الإغريقية القديمة وكانت فلسفة سقراط وأرسطو وحوارات أفلاطون أولَ ما قرأتُ في صباي المبكّر. وقفتُ أتأملُ الجدارية الجميلة، ولم أجرؤ على السؤال عن ثمنها. ومرّت السنوات. بالأمس، في عيد ميلادي هذا العام 2021، فوجئتُ بالصديق "توني كازامياس" يأتي إلى بيتي حاملا هديته. لم أتمالك دموعي من الفرح حين قدّم لي تلك الجدارية العظيمة. قال صديقي إنه لم ينس نظرة الانبهار في عيني حين شاهدتُ الجدارية قبل سبع سنوات، فقرر أن يجعلها هديتي. شكرًا لله على نعمة الأصدقاء.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إسرائيلى: إسرائيل أعطت الوسطاء المصريين الضوء الأخضر ل


.. كل يوم - خالد أبو بكر ينتقد تصريحات متحدثة البيت الأبيض عن د




.. خالد أبو بكر يعلق على اعتقال السلطات الأمريكية لـ 500 طالب ج


.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان تنديدا بالحرب الإسرائيلية




.. الأمم المتحدة تحذر من التصعيد في مدينة الفاشر في شمال دارفور