الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطبيعة وجناية البشر

فاروق عبد الحكيم دربالة

2021 / 9 / 27
الادب والفن


االطبيــعة وجناية البَشَــــــر

" أحلى منظر يمكن أن تراه العين هو القباب البيض في الروابي الخضر" ، تسري هذه المقولة من قديم في أوساط الحكماء والمبدعين ومتذوقي الجمال والفن ، وقد رأيت في زياراتي لتونس ولمدينتي الرباط والدار البيضاء في المغرب كأنهم فطنوا إلى هذا المعنى ؛ فالبيوت والمباني يتم طلاؤها باللون الأبيض الرائق ، أما الأبواب والنوافذ فتأخذ ألوانها من الأزرق الهادي الذي يجمع بين زرقة السماء الصافية ومياه البحر الفيروزية ، ونجد ذلك أيضًا فى أثينا والجزائر وشاطئ جنوب أسبانيا ، وبعض المباني في تلك المدن يحوي القباب الجميلة ، ومن حولها المروج الخضراء أو المزارع والحدائق ، وكل ذلك ينشر الجمال ويريح العين ويسر القلب ، ويبعث على التأمل والبهجة ، ويحبه السياح الذين يقصدون هذه البلاد بأعداد معتبرة ، وقد رأيت كبار السن والمتقاعدين من أثرياء أوربا ونجوم السينما يشترون الفلل والبيوت الريفية الجميلة في الريف المغربي للإقامة الدائمة ، وقد أقمت بعض الأيام في فندق صغير مطلي بالأبيض في مدينة سوسة التونسية ، وكان من ثلاثة طوابق وبه بعض القباب ، وهو في غاية النظافة والتنسيق ، وقد عرفت أنه كان سجنًا ، وتم تحويله إلى فندق ، وهم في الاستقبال لا يزالون يسلمون النزلاء تلك المفاتيح الحدادي الكبيرة جدًا للغرف .

إن الطبيعة هي أمنا الحانية المعطاء ، ونحن حين نحرم منها فإن ذلك يعد نوعًا من اليُتْم الحقيقي : فأشجار تطول ، وبراعم تثور ، وأزهار تميل ، وفراشات تزهو، ونحلات تجوس ، وطيور ترفرف ، وعبير يتضوَّع ، كلها تشكل مفردات الجمال في الطبيعة ، التي تمنح الوجدان عافية ، وتلهم الخاطر ، وتسهم في عزف سيمفونية الحياة البهية ، وقد تأملها العلماء ، واستلهمها الشعراء والأدباء ، فسكنت دواوين الشعر وصفحات القصص والروايات ، وعانقت الأقلام والأفلام بوهادها وجبالها ووديانها وبحارها وحقولها الوسيعة الممتدة ، وخيمت على حيوات البشر بسمائها وغيومها وظلال أشجارها وموفور بدائعها .

ولقد أنطقتْ الطبيعة الألسنَ ، وحَرَّضَتْ الأقلام لتصويرها والبوح بمغانيها ، فانطلق شاعر العربية الأكبر المتنبي مفتونًا بالشِّعب الشجري قرب بوان في بلاد فارس وهو يلهج مصورًا :

مَغَاني الشِّعْبِ طِيبًا في المَغَاني *** بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيَّ فِيهَا *** غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
مَلاعِبُ جنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا *** سُلَيْمَـــــانٌ لَسَــــــارَ بتَرْجُمَانِ
طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى *** خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا *** على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الشمسَ عني***وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي *** دَنَانِيرًا تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لهَـــا ثَمَـــرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ *** بأشْرِبَــــةٍ وَقَفــْنَ بِــــلا أوَانِ
وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا *** صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني

وكتب شوقي قصيدته في غابة بولونيا ، وتغنى حافظ إبراهيم بالنيل في قصيدته " النهر الخالد" ، ومن قبلهما وصف ابن خفاجة النهر والجبل ، ووصف البحتري الربيع وبركة المتوكل ، وكتب حنا مينه رواياته الباذخة عن البحر ، وفتحي غانم عن " الجبل" ، وصَوَّر إبراهيم الكوني الصحراء في العديد من رواياته وفي مقدمتها رواية " تِبْر " ، وأبدع صبري موسى " فساد الأمكنة " وعبد الرحمن منيف "النهايات" ، وميرال الطحاوي " الخِباء " كما كتب الفونس دو لامارتين قصيدته عن" البحيرة " والحبيبة ، وأبدع هيمنجواي " الشيخ والبحر"، وأبدع تشايكوفسكي باليه " بحيرة البجع " وغير ذلك كثير ممن تناولوا الغابات والسحب والروابي والسهول والسهوب والحقول والأزهار والأطيار والينابيع ودوالي الكروم ورائحة الأرض حين تشرب المطر.

إن الطبيعة بالليل حين يتغشاها الظلام تصبح في قبضة السكون ؛ فالكائنات تهجع ، والأصوات تتلاشى ، ويخيم الهدوء ويحتكم ، وينعس المدى ، وتَقَرُّ الأحياء والمخلوقات ، وتدخل الأماكن مرحلة من الاستسلام والوقار ، وقد تظهر أصوات بعض الطيور كالكروان وغيره ، إلا أن سلطان الليل الآسر الجبار يبقيها تحت سِتر الظلام ، ويحبسها في الحد الأدنى من الحركات والأصوات ، فالكون يسير وفق نظام محكم ، وسَنَن واضح وقوانين خاصة ، ولكن الإنسان لا يبالي إلا بمكاسبه وأهدافه ، فيقوم بالاعتداء على الليل بسلوكه البراجماتي ، ومصالحه التي غالبًا ما تصطدم بناموس الكون ونظامه ، وتؤثر سَلْبًا على المملكة الحيوانية والنباتية .

يتدخل الإنسان في نظام الطبيعة أو البيئة من حوله بأدواته ومخترعاته ووسائله الحياتية وأساليبه الترفيهية ، فيُفْسِّد ، ويُتْلِف ، من أجل منافعه ومُتَعهِ التي لا حدود لها ، إنه يتدخل بالأضواء الصناعية والضوضاء ويجدف ضد قوانين الأرض والسماء ، فيسخر المتنزهات والحدائق العامة ، ويحيلها إلى أماكن للتجمعات والاحتفالات وإقامة الأعراس في قلب الطبيعة ، محاولا أن يستدر عطاياها ، فيضييء الأنوار الساطعة الصادمة ذات الألوان الصارخة ، في وقت يعني بالنسبة للطيور وكائنات المكان الهجوع والسكينة والتطامن حسب قوانينها ، ولكنَّ المصابيح الكبيرة المبهرة تُضَاء ، وتُسلَّط حزم الضوء من الكشافات القوية على الأشجار والنباتات والكائنات التي تسكنها في دعة وطمأنينة ، وتُعلَّق المصابيح الملونة الفاقعة على الأفرع والجذوع ، وتصدح الموسيقى ، وينطلق الغناء من حناجر زاعقة ، وقد تتصاعد الأدخنة الكثيفة في حفلات الشواء ؛ فتفر تلك المخلوقات الوديعة التي تسكنها مذعورة مُرَوَّعَة ، لا تقوى على مواجهة تلك الحياة الصناعية المليئة بالإزعاج والبهرجة والفوضى .

تنزعج الطيور في أعالي الشجر ، وتقلق كائنات الأرض وكائنات الجو؛ فتفر من مكامنها مسرعة ، وتتخبط هائمة ، وتضطرب حركتها في هذا الطقس الاصطناعي الغريب ، الذي يؤرقها ويزعجها أشد الإزعاج ، وربما تغادر المكان بعد أن تفقد الأمن والسلامة ؛ لتبحث عن بديل أخر بعيدًا عمَّا ألفته وطال مُكثُها به ، ثم لا يلبث البشر أن يزعجوها في أماكنها الجديدة فتفر إلى أخرى . فضلًا عن انجذاب الحشرات والفراشات إلى الضوء الصناعي ، وعندما تقترب من مصادره كالمصابيح الملتهبة ، يمكن أن تُقتل إما بسبب الإجهاد أو لملامستها المصابيح الملتهبة فتحترق ، إضافة لكونها عرضة للهجوم من قبل كائنات أخرى مفترسة مثل الخفاش .

وعلى مستوى آخر قل في عالم الشعر والأدب أن نجد من يصف الطبيعة العمياء ، التي لا تُرى ملامحُها ليلا ، فالمبدعون يتعاملون معها مبصرة أثناء النهار ؛ حيث يعرب كل شيء عن نفسه ، ويتجلى في وضوح ، فيتم تصوير جمالياتها أو خشونتها وقسوتها، وإبراز كائناتها وألوانها وعوالمها كيفما تكون ، وهي تنشط وتتناغم وتتفاعل ، ويعيش سكانها الأحياء كل ٌّوفق مملكته الخاصة وطباعه التي خُلِق بها ، وتلك الكائنات الحرة تعرب عن نفسها بالمهارشة والمعاركة أو المزاح والملاعبة ، وذلك أثناء النهار، حتى إذا ما اقترب الغروب، وران السكون ، فهي تكف عن الحركة ثم تستكين وتستقر لتهجع في ضمير الليل ؛ فتهدأ الأصوات والحركات إلا قليلا لأن هناك بعض الحيوانات والزواحف تنشط ليلا ومنها أنواع من الثعابين والخفافش والثدييات ، فليس المقصود هنا عالم البراري والغابات ، وإنما الحدائق والمتنزهات والمزارع وما يجاور العمران من خضرة وأشجار تعوَّد الإنسان أن يتغشاها ويجبرها على الإضاءة والسهر .

على الإنسان إذا أراد التمتع بجمال الطبيعة أن يجعل ذلك في آية النهار المبصرة ، فيوافق الفطرة السليمة والطبع السوي ، وينسجم مع قوانين الوجود ودورة الفلك ، أما حين يفجؤها أو يفجعها ؛ فيحيل ليلها إلى نهار صناعي من البهرجة والأصوات والأضواء والمشتتات من كل نوع ؛ فإن ذلك يتصادم مع فطرة الأشياء ، وربما يطرح ذلك في طريقنا سؤالا لا مناص منه :
هل يمكن أن نستمتع بالطبيعة ليلا كما يحدث نهارًا ؟

إن المروج والسهول الخضراء والجداول والخمائل والحقول الهاجعة تحت ضوء القمر تثير شعورنا بالسكيتنة والتأمل والتطامن ، ولكن حين يتم اقتحامها بأدوات وآلات صناعية مزعجة تفسد سكونها ، وتَجْرَح بساطتَها الجميلة أو جمالها البسيط ؛ فإن ذلك من شأنه أن يثير فينا مشاعر الإشفاق جراء ما يحدث من العبث الذي يحول الأشجار إلى أشباح أو مسخ من البريق الزائف ، ويقلق راحة الكائنات التي تسكن المكان ؛ ويتعدى على سلطان الليل وينال من مهابته ، وبالطبع فإن ذلك يختلف عن حياة المدن نفسها ومجتمعاتها المستقرة ، التي تضاء ليلا بطاقة جبارة من الكهرباء ومصادر الضوء التي تجعلها تبدو من أعلى غارقة في البريق والتلألؤ ، تعلوها مساحة من الأشعة والأضواء ، كأنها فوهات البراكين المشتعلة ، مما يمثل أحدث أنواع التلوث وهو " التلوث الضوئي" ، وهو ما لم نقصده في ما سبق .

وبالرغم أن موضوعنا هنا لا يتناول التلوث الضوئي بمفهومه العالمي ؛ فإننا نشير فقط إلى بعض مشكلاته وسوءاته الكونية وفقا لمجلة " بيئتنا - الكويت – العدد 132 التي ذكرت" أن الطيور المهاجرة تجد مشكلة في الإضاءة بالليل، حيث إن بعضها يهاجر ليلا، فهي تعتمد في هجرتها على تحديدات في ذاكرتها أو فطرتها، وهي تتبع المجرات أحيانا كي تدلها على الطريق، لكن الإضاءة الصناعية الصادرة من المدن الكبيرة التي قد تمر بها أثناء هجرتها تحدث عندها بعض التداخلات والارتباك ، وقد تنجذب إليها وتحدث الكارثة ؛ ففي عام 1945 اصطدم خمسون ألف طائر مهاجر بقاعدة وارنر روبنز الجوية في جورجيا حين لحقت الطيور بالشعاع الناتج منها ، وفي كندا فشلت الطيور المهاجرة في تحديد اتجاهها ؛ لأن أضواء المدن منعتها من رؤية النجوم التي تهتدي بها أثناء رحلة الهجرة . "
علينا أن نستيقن أن الإنسان خلق لعمارة الكون ، ونشر المحبة والتسامح ، وقد تم تأهيله لرسالته وحياته بمنحه العقل والحكمة والتدبر ، وفيض المشاعر وتذوق الجمال ، والسعي نحو الخير والحق ، فإذا ما حاد ولم يتبصر ، واستبدت به الأنانية والطمع ، وتجبر بدلا أن يتدبر ، وأفسد بدلا أن يصلح ، عاش في غلاظة الطين ، وفقدان اليقين ، وربما هوى إلى أسفل سافلين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل