الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية.. مأساة روما.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 29
الادب والفن


«في روما القديمة عاش الملك حياة طويلة مرض في آخرها مرضاً توقع الأطباء أنه سيموت به بعد شهر. هذه قصته».

« في روما تلك عاش أُناس لم يعرف بهم أحد. ولدوا، ثم ماتوا ولم يخلّفوا أثراً يذكر.. هذه قصتهم».

«وفي روما نفسها عاش الشاب الجميل رومانوس الذي أحبَّ الشابة الجميلة جوليتوس.. وهذه مأساتهما».

الشخصيات:
ملك روما (مصاب بالعقم).
الشاب رومانوس.
الشابة الجميلة جوليتوس.
الرجل الظل، الطفل الظل.
الرجال الثلاثة.
جنود، نساء، أطفال، حاشية..
الأمكنة: فضاء الملك.
فضاء الشاب رومانوس.
غرفة مظلمة تتدلى منها الحبال.
ساحة عامة.
ساحة معركة

المشهد الأول
(الملك على عرش ضخم جداً وشاهق جداً)
الملك : عشتُ عمراً طويلاً.. رأيتُ كلَّ شيء وذُقتُ كلَّ شيء.. في ولادتي، تلك التي حدثت ذاتَ ليلةٍ ممطرة، ماتتْ أمي على فراشِ المخاض..
(ينبثق من الذاكرة)
(في مكان خرب، امرأة، حولها مجموعة من النساء، تتألم جرّاء الطلق العسير.. ثمّة رعد ومطر في الخارج، ثمّة ظلام يكبر ويكبر، صراخ طفل يُولد) أو:
الأم : اخرج يا ابن اللعينة.. إنكَ تُمزّقُ أحشائي.
الملك : لم أبكِ كالأطفال؛ بل نظرتُ إلى السماء واحتضنتُ أمي التي كانت تُزهِقُ الروح بي حنين إليها، إلى حضنها، إلى الدفءِ الذي لم أذقه..
(ينبثق من الذاكرة)
(الطفل، الذي سيصبح ملكاً، يلعب مع الصغار، يأخذ طعام أحدهم ويهرب جانباً يطاردونه جميعاً لكنه أسرع وأقوى. يصدهم، وحينما يرى أنه مغلوب يضع الطعام تحت قدميه، ويدعك به التراب) أو:
(الملك المراهق يأخذ طعام أحدهم).
الطفل : طعامي.
الملك : ما دام بين يدي فهو لي.
الطفل : طعامي.
الملك : اسكت وإلاَّ..
الطفل : (يبكي).
الملك : (وهو يأكل) جبان، يبكي كالنساء.
(يجتمع أصحاب الطفل ويطالبون الملك بإعادة الطعام).
الملك : لن يُجبرني أحد.
أحدهم : ليس من حقّك أن تأخذَ طعامَه.
الملك : لا شأنَ لك.
آخر : أعدهُ إليه.
الملك : (يأكل في حذر والأطفال يحاصرونه مجتمعين).
الملك : إذا اقتربتم، أبطش بكم.
(يتحلقون حوله).
الملك : كلاب.
(يضع الطعام تحت قدميه ويدعكه بالتراب).
الملك : عليّ وعلى أعدائي.
(ويهرب منهم).
الملك : ما لا عبتُ الصغارَ في ألعابهم، كنت أكبر من عمري.. أُحبُّ الصغار، وأعطفُ عليهم وأتنزهُ عن شططِهم. في مراهقتي بدأتُ أتأملُ العالمَ: كيف تكوّنَ، من كوّنه؟ أخذني الشكُّ حيناً وطوّعني العُرفُ حيناً، إلاَّ إنني لم أتركِ التأملَ لحظة..
(ينبثق من الذاكرة)
(المراهق الذي سيصبح ملكاً يُدخلُ شيشاً محمراً في دبر كلب، يشنق قطة، ويرمي الحجارة إلى أعلى).
الملك : إلى أعلى كنتُ أقفزُ كالحجارةِ التي يرميها صبيٌّ على طيرٍ بعيد..
(ينبثق من الذاكرة)
(الشاب الذي سيصبح ملكاً، في وسط مجموعة من أصدقائه، ساهم لا يتكلم بيننا هم يمرحون. تدل ثيابه على الفقر المدقع ونظرتُه تدل على عدم الرضا).
الملك : حتى وصلتُ إلى القمةِ التي ترونني أتربعُ عليها..
(ينبثق من الذاكرة)
(جمهرة من الناس تهلل وتصفق. بينهم الرجل الظل الذي يختلف عن الجميع.. لا يلاحظه أحد. امرأة تلاعب طفلها. هم يمرحون بانشراح حقيقي، فرصة المرح نادرة عندهم لذا يبالغون في اقتناصها) أو:
الأم : يا حبيبَ أُمك.
(ينبثق من الذاكرة)
(الشاب رومانوس، الذي ما زال مراهقاً، يمرُّ.. تظهر الشابة الجميلة جوليتوس مع صديقتها، لا تنتبه، يلمحها رومانوس فينشده. بالبطيء، يتحرك رومانوس، بالبطيء تمر الجميلة جوليتوس وحدها، لا تنتبه. تمر بالبطيء هي وصديقتها، تنتبه صديقتها إلى الشاب وتنبهها، الجميلة تخجل حينما تراه وتنحني تفادياً لنظراته. في الطريق يقف، تراه، وحدها هذه المرة، يبتسم فتبتسم. بالبطيء ينشرح قلب الشاب وتحس الشابة أنها قد وقعت في الغرام. يقف الشاب بالبطيء تحت شرفتها، يحيطه ضوء أزرق، ويكشف شرفتها ضوء أخضر، ينتظر وينتظر حتى الصباح، لا أحد في الشرفة. في مرة تالية، يقف متكئاً إلى الجدار تحيطه بقعة زرقاء، وتظهر هي على الشرفة، تخبئ نصف رأسها وراء الجدار، تحيطها بقعة خضراء، يبتسم لها بالبطيء فتبتسم).
الملك : لا أدري، لا أَدري، سوى أنّه محتّم..
(ينبثق من الذاكرة)
(أصحاب الشاب الذي سيصبح ملكاً، كلهم معلقون في حبال تتدلى من سقف غرفة مظلمة)
الملك : محتم أن تسيرَ في الطريقِ الذي تسير ُفيه.. غيرَ أنني لم أُخدع بالشباب، لم أركض خلفَ نزوة. كنت أعرفُ أنّ طريقاً شائكاً في انتظاري.. كان الشبابُ..
(ينبثق من الذاكرة)
(بالبطيء الشاب رومانوس يتكئ على عمود، يسرح في الخيال، يبتسم وينفعل صامتاً، ينظر إلى السماء وإلى الأُفق، يتحسر، يشد قبضته، تظهر الجميلة في الشرفة، يضع يديه في جيبيه بالبطيء، يخرج ورقة، ويلفها حول حجر التقطه بالبطيء من الشارع، تنظر إليه بالبطيء وبالبطيء يقذف بالحجر في اتجاه الشرفة.. في اللحظة ذاتها تنطفئ البقعتان).
الملك : يركضونَ نعم كالبغال، كالتيوسِ وراءَ ذكورتِهم أما أنا فبقيتُ محافظاً على..
(ينبثق من الذاكرة)
(بالبطيء، الشابة الجميلة جوليتوس في الشرفة وحدها تحيطها بقعة خضراء تقرأ الورقة التي رماها لها الشاب رومانوس. تبتسم. يمر الطفل الظل. تنظر الجميلة إلى القمر البعيد بالبطيء، وبالبطيء تحضن الورقة.. تنسحب، فتنطفئ البقعة) أو:
جوليتوس: (تقرأ) من بينِ كلِّ ما هو خالد، يتربعُ فناؤُكِ عليّ، تتربعينَ أيتها الموتُ الجميلُ على دقاتِ قلبي.. لا بكلماتِ العشّاقِ أَرشكِ، ولا بجنونهم أقيدكِ؛ بل بنوعٍ جديدٍ من الولهِ ونوعٍ جديدٍ من العبادة..قد تقولينَ ما هذا الهذيان.. الهذيانُ وحده يليقُ بكِ أيتُّها الفردوسُ الشيطانية.. لو كنتِ كباقي النساء لعشقتكِ كباقي الرجال؛ ولكنكِ لست مثلهنّ ولن يكونَ قلبي مضخةً ولا حبي.. سأموتُ عشقاً لأحيا وستخلدينَ بهذا العشقِ على مرِّ الدهور. أعدكِ أنّ لعنتي ستطاردكِ إلى أن تتملككِ أو تهلككِ.. أنصحكِ أن تُسلّمي قلبكَ للمجنون الذي أنا هو وأن تمشي في طريقِ خلوده..
المحب رومانوس.
الملك : (يضحك) هي هيَ هِي..
(ينبثق من الذاكرة)
(الملك – وحده، بقعة صفراء تحيط به. يتأمل هنا، وهناك، يتحسس جسده الشائخ. يتراكم العبوس في وجهه الشاحب، يزداد ارتعاشه، يرتفع ألمه.. ثم يبكي بانتحاب شديد).
الملك : لم أدع لنفسي لذةً لم أنلها، ولا نادتني نفسي لشيءٍ ما حققته. دخلتُ دروباً مظلمةً كثيرة، وأغمدت سيوفاً كثيرة..
(ينبثق من الذاكرة)
(مكان عام يتصايح فيه الباعة، نساء تستجدي أو تعرض نفسها للمارّة، صبية صغار يصرخون، ويتراكضون، جندي متمنطق سلاحه يمر دون أن يكترث به أحد، عجوز بالكاد تنقل قدميها من مكان إلى آخر تتوكأ على عصاها، طفل يسرق ويهرب... وفي زاوية ما يقف (الرجل الظل) الذي يختلف عن الجميع يراقبهم دون أن يراه أو يشعر بوجوده أحد، يبدو أنه يكبر ويكبر أثناء وقوفه حتى يشيخ، ثم يصغر ويصغر إلى أن يتحول إلى صبي) أو:
بائع : يقولونَ إن البضائعَ ستنفذُ من الأسواق... أسرعوا، أسرعوا..
رجل : أعطني...
امرأة : أين أنتم؟
رجل : في بيتٍ قريب.
امرأة : أُحضرُ أختي معي..
رجل : ستكونُ ليلةً...
عجوز : كح كح كح... تفوه على الدنيا وأهلها...
طفل : أي خدمة سيدي أي خدمة سيدتي...
امرأة : لا.
عجوز : كح كح كح.. تفوه عليكم جميعاً...
الملك : إني أخبركم أنني لن أسمحَ بأيّ انحرافٍ مهما يكن...
(ينبثق من الذاكرة)
(الرجل الظل، وحده في تأمل، يرى رومانوس وجوليتوس في خلوة عاطفية، وهما يتهامسان)
الرجل الظل : نعم، الحلم وحده... الحلم هو الحياة.. احلما احلما...
الملك : وكما بنيتُ نفسي بنفسي، أريدكم أن تحافظوا على البناءِ بأنفسِكم. في سبيل أن أصلَ فعلتُ كلَّ شيء.
أقصد كلَّ ما يجبُ أن يفعَلهُ رجلٌ حكيم ومحارب. لربما سمعتم عن أبي وما حصلَ بيننا: كلامٌ فارغ، لم أفعل ذلك.
لم أفعلْ الكثيرَ مما يُشاع وفعلتُ الكثيرَ مما لا يدري به أحد. إلا أنني في كلّ ما فعلت بقيتُ إنساناً محارباً شريفاً وسيداً مُطاعاً. كانتِ الريحُ تعصفُ، دائماً الريحُ تعصفُ لكنني لم أخفْ من شيء.
(ينبثق من الذاكرة)
(بالبطيء، الشاب والشابة محاطان بالناس التي ترقص وتغني، يرقصان هما أيضاً، وليمة صغيرة فيها نساء عجائز، وأطفال وشباب في غاية الفرح، يزفان لبعضهما وقد أحاطتهما البقعتان الزرقاء والخضراء، وبالبطيء يبتدئ الظلام، ويمر الطفل الظل) أو:
امرأة : أحضري الكؤوس..
فتاة : حاضر أمي.
امرأة : مبروك يا فتاتي.
جوليتوس: شكراً خالتي...
خالتها : لولا أبيكِ، وأهل رومانوس لما أعطيناكِ لغريب..
جوليتوس: النصيب... شكراً عمتي.. شكراً.. شكراً
عجوز : الفقرُ يأكلهم...
عجوز : نعم ويبذخون...
عجوز : يتصورونَ أنفسَهم أغنياء...
عجوز : ما يهمنا، المهم أن نشبعَ بطونَنَا على حسابِ الأغبياء.
عجوز : كح كح كح اللعنة على التخمة.
الملك : أما أعدائي فقد أكلهم الإهمالُ أو التراب...
(ينبثق من الذاكرة)
(ثلاثة رجال، يتهامسون)
الأول : الوضع في تأزم.
الثاني : ستسنح الفرصةُ قريباً.
الأول : لكن لم يحصلْ شيء بعد.
الثاني : الخوف والرغيف.
الأول : لكنه هِرِم.
الثاني : التسرعُ يؤدي إلى نتائجَ عكسية.
الأول : بل الانتظارُ يضيع الفرصَ السانحة.
الثاني : المسألةُ الآن مختلفة.
الأول : كيف؟
الثاني : إذا مات الملكُ فسيتصارعُ أعوانهُ ويتفرقوا، ويكون القضاءُ على الأفرادِ حينها أسهلَ من مواجهةِ الجيوش.
الأول : قد يسيطرُ أحدُ الأعوانِ ويُصبح كسابقه.
الثاني : سيصفّي بعضُهم بعضاً، وسنُصفي الذي يبقى.
الملك : لم أكن وحدي، فثمةَ جنودٌ سيرونَ دائماً...
(ينبثق من الذاكرة)
(الرجل الأول يهرب خارج الحلبة.. وفي الغرفة المظلمة التي يتدلى من سقفها حبل طويل، يتدلى رجل، تنفتح الإضاءة عليه شيئاً فشيئاً، فإذا به الرجل الثاني... الرجل الثالث يمسك بمعدته، يتلوى ألماً، يصرخ، يستجير) أو:
الرجل الثالث: بطني بطني، أيها السفلة، أهذا جزاءُ إخلاصي لكم. غدر، الغدر.
سأفضحكم... (يموت).
الملك : والآن... حانَ الرحيل. سريعٌ هو المجيءُ، وأسرعُ منه الذهاب. حانَ كرمشةِ عين. بالأمس كنتُ أجلسُ هنا ولم أبارح الثلاثين.. وها أنا في الثمانين الآن... غبيٌّ مَنْ يضيعُ لحظةً في الحياةِ دون أن يستثمرَها... تلك هي حكمتي.
(ينبثق من الذاكرة)
(في بيت رومانوس، جوليتوس، حولها مجموعة من النساء، تتألم جرّاء الطلق العسير ثمة رعد ومطر في الخارج وصراخ طفل يولد) أو: جوليتوس: ولد؟ سنسميهِ على اسمِ أبيه. (يغمى عليها)
الملك : سأرحلُ عما قريب، وسأظل بينكم إلى الأبد.. كل ممتلكاتي ستبقى باسمي إلى الأبد، وستشرفون عليها حسبما أوزعها أنا، دون أن يحقَّ بيعُ أو شراء لأحد.. أريد أن تبقى الأشياء كما لمستُها وكما صنعتُها، أريدُها أن تظلّ كما أردتُ لها، تظلَّ إلى الأبد...
(الجميع: مفهوم)
(ينبثق من الذاكرة)
(مجموعة من الناس تتحرك بعشوائية. أحدهم يبيع والآخر يشتري. أحدهم يهجم على أحدهم. الناس تنظر إليهما، بعضهم يشجع هذا بعضهم يشجع ذاك.
بينما يراقبهم عن بعد الرجل الظل دون أن يحسوا به) أو:
رجل : اضربه..
رجل : تعودوا أن ينهشوا..
رجل : لقد راهنتُ عليك يا خنزير..
طفل : (يمد يده)
رجل : الليلة أيضاً...
امرأة : نعم، مع أختي؟
رجل : أركله..
امرأة : بكم هذا؟
عجوز : كح كح كح، سأُداس بالرجلين!
الملك : وكل من يُقصّرُ في أيةِ فقرةٍ من فقراتِ وصيتي تُسحب منه كل مقتنياتِهِ ويُرمى إلى الشارع دونَ رأفة... مفهوم؟
الجميع : على العين والرأس..
(ينبثق من الذاكرة)
(ساحة معركة تتقابل فيها الجنود وتتقاتل، يسقط هذا ويسقط ذاك، صراخ وهرب)
الملك : أريد أن تبنوا لي قبراً كأنه القصر، فيه باحاتُ واسعةٌ خضراء، ومبانٍ كبيرة مبهرة... أريدكم، في كلّ عام، أن تهرعوا إلى قبري: تقيمونَ الولائمَ وتذكرونني بحسناتي ورجولتي وعنفواني وكأنني حيٌّ بينكم...
(ينبثق من الذاكرة)
(جمهرة من الناس تهلل وتصفق، تمرح بانشراح زائف)
الملك : افعلوا ما تشاءون، وكونوا مثلي فقط لكن إياكم والإساءة إلى اسمي، أريده ذهباً ناصعاً كما هو... لا أكثرَ ولا أقل.. وإلى أن يحينَ موعدي ستبقى الأمورُ كما هي.
(ينبثق من الذاكرة)
(مجموعة من الناس، يتكور كل منهم في مكانه تحيطه بقعة ضوء، لا يتكلمون، بل يهمهمون، يتلوى بعضهم، يغني بعضهم، يبكي بعضهم، يغازل أحدهم امرأة، يشرب أحدهم، يتعبد آخر، يقرأ أحدهم، تتزين إحداهن، تنحب أخرى، طفل عار تماماً، وسخ يبكي، تنظر أمه بلامبالاة، تصرخ في وجهه وتضربه ضرباً عنيفاً. يسقط عليهم جميعاً المطر، لكنهم لا يشعرون به، مثلما لا يشعرون بالرجل الظل الذي يراقبهم) أو:
رجل : أجل أجل..
امرأة : أكثر أكثر..
رجل : آآآآآآآآآآآآه..
امرأة : (وهي تنظر في المرآة) تصلّبَ وجهكِ.. وجفّ الماءُ فيه.
امرأة : (وهي تضرب طفلها) لا تفعل ذلك يا ابن الكلب. لقد دمرتني!
الرجل الظل : إنها تُمطر.
الملك : سنحارب، لا داعي لذكرِ الأسباب.. عليكم أن تستعدوا فقط.
(ينبثق من الذاكرة)
(الناس متجمهرة، تتكلم مع بعضها في لغط وتحيط بالرجل الظل، يبدو أن الفوران يزداد، تدخل الشرطة وتفرقهم بالعصي ويهرب الرجل الظل) أو:
رجل : لم نره.
شرطي : كذّاب..
رجل : لقد هربَ في هذا الاتجاه..
امرأة : أخ.
امرأة : (لطفلتها) اهربي يا صغيرتي.
شرطي : امسكوهم.
شرطي : (يضرب بالعصا)
الملك : وسينتهي الأمرُ حسب المرام...
(ينبثق من الذاكرة)
(الرجل الظل يركض، وخلفه يركض مسلحون، يختفي ويبحثون في أغراض الناس وحوائجهم ، يأخذون بعضهم، صخب ولغط وضرب)
الملك : نعم...
(ينطفئ الضوء عن الملك وينفتح الضوء على غرفة مظلمة يتدلى منها حبل يتدلى منه رجل... تفتح الإضاءة عليه، فإذا به الرجل الظل)

**

المشهد الثاني

لقطة
(يمر الطفل الظل، والجميلة جوليتوس تقف على الباب، الشاب رومانوس يودعها بالبطيء، يعود إليها يحضنها، يقبّلها بشغف، يفترقان، ويعود ثانية.
لا يستطيع أن يتركها ويذهب إلى الحرب، تومئ له بأن يذهب كي يعود سريعاً، الشاب لا يريد الذهاب، تمر الشرطة من أمامهما، فيهرع بالذهاب مع دموع تترقرق في عيني الجميلة) أو:
رومانوس : جوليتوس.
جوليتوس : رومانوس.
رومانوس : لا أستطيع.
جوليتوس : (تتنهّد)
رومانوس : لا أستطيع أن أذهبَ وأدعكِ للوحدة.
جوليتوس : (تصمت)
رومانوس : يكاد قلبي ينفطر.
جوليتوس : أنا أكثر يا حبيبي.
رومانوس : لن أذهب.
جوليتوس : ابقَ، يا حبيبي، ابق.
(يحتضنها)
رومانوس : لا، أنا ذاهب.
جوليتوس : أخافُ عليكِ من الموت.
رومانوس : أخاف عليك من الحياة.
جوليتوس : ثقْ بي، يا حبيبي. ستذهب وتعود، وجوليتوس كما هي: حبيبتُكَ الأبدية التي لن يغيرها شيء.
رومانوس : أبقى لحظات واذهب.
جوليتوس : نعم.
رومانوس : أريدُ أن أشبعَ منك.
جوليتوس : الأطفال، يريدونَ تقبيلَك.
(يحضنهم)
رومانوس : جرائي الصغار.. سيذهب أبوكم...
جوليتوس : وسيعودُ سريعاً.
رومانوس : ماذا أحضر لكم، ها؟ (يبكي)
(تمر مجموعة من الرجال المسلحين)
جوليتوس : (تومئ لـه باتجاههم وتقبض على يده وتقبلها)
رومانوس : ينبغي أن أذهب. (لا يتحرك من مكانه)
جوليتوس : إذهبْ. (وهي تمسك به أكثر)
رومانوس : ها أنا ذاهب. (لا يتحرك)
جوليتوس : نعم. (والدمعة تسقط بالرغم منها)
رومانوس : (بالكاد ينتقل خطوة واحدة)
جوليتوس : (بالكاد تمنع نفسها من النحيب)
(تمر دورية شرطة الملك)
(يغادر رومانوس بينما تقف جوليتوس على الباب، لحظات.تدخل وتوصد الباب خلفها)

**
لقطة
(ساحة حرب، سيوف تقرقع، سهام تنطلق وسهام تصيب، يقع هذا متألماً، يقع ذاك، يظهر رومانوس وهو يقاتل، يصرع أحدهم، يطعنه آخر في فخذه، يصرخ متألماً، يقع والنزيف يغمي عليه)

لقطة
(الجميلة جوليتوس وحدها في شرفتها، تطالع وجه القمر، تسمع شقشقة العصافير، تحلم به وهو يحضنها، تتأوه، تحيطها بقعة خضراء تتحول إلى صفراء، تغادر، فتنطفئ البقعة.. بينما يمر طفل صغير هو صورة مصغرة من الرجل الظل، ويختفي في الظلام) أو:
جوليتوس : عُدْ... عد أيها الغائبُ الحبيب.. فما عادتْ حبيبتُك قادرةً على الاستمرار.. كل شيءٍ يحاصرني.. الرغبةُ والحاجةُ... إنني امرأةٌ أيها الرجل.. كائن... إذا نفدَ صبرُهُ ضاع... وهاهو صبري قد نفد... عُدْ قبل فواتِ الأوان.. قبل أن أخسر نفسي أو أُجن...

لقطة
(حركة سريعة، حيث يعود الشاب، إلى بيته دون ساقين، تتلقاه الجميلة وهي تخفي نحيبها، يضعونه على سريره. حوله أطفاله يتصارخون وهم يعصرون بطونهم، تذهب الجميلة وتعود وتذهب وتعود، تذبل هي ويراقب هو، يعرف إلى أين تذهب ويسكت، يمسك بسيفه، يحاول أن يحز تفاحة آدم ويرتاح، لا يقدر، يكررُ المحاولة ويفشل، تعود، ويلتف عليها الأطفال، يأكلون، تحمر عيناه وتنتفخان، تهرب هي من نظراته، ثم تحاول احتضانه، يرفض. بحزم يقرر ما سيفعله)
أو:
رجل : على مهلكم...
جوليتوس : زوجي...
امرأة : يا خسارة.
رجل : برفق، برفق..
جوليتوس : ما هذا... رومانوس! (تصرخ)
رجل : ضعوه هنا، نعم...
جوليتوس : .. حبيبي.
امرأة : يا إلهي...
امرأة : (تبكي) ضاعَ شبابُه المسكين..
جوليتوس : تكلم يا حبيبي.. أتعرفني، أنا...
امرأة : لا تكوني مجنونة، ماذا يُفيد تمزيقُ الملابسِ أو نثر الشعر...
امرأة : أنتِ حامل، فكوني رفيقةً بنفسك...
جوليتوس : لا حياةَ لي بعده...
امرأة : الصبر، الصبر..
عجوز : كح كح كح، اللعنة على الحروب.
لقطة
جوليتوس : (تنظر إلى صغارها الذين يأكلهم الجوع وإلى الزوج المتمدد على سريره)
رومانوس : (يئن، ويقع في غيبوبة)
جوليتوس : (تخرج وتعود تخرج وتعود والصغار يزداد أنينهم) ويلي.. ما الذي أفعله؟ لا أستطيع..
لن أقدر على المقاومة.
رومانوس : آه!
جوليتوس : اصبر اصبر.
رومانوس : هل أكلَ الصغار؟
جوليتوس : (تكذب) نعم، نم أنت ولا تفكر بشيء.
رومانوس : حسناً.
(جوليتوس تذهب وتجيء، رومانوس يئن، الصغار يبكون)
جوليتوس : (تقرر رغماً عنها) سأفعلُ ما لا أريد.
رومانوس : (يقع في الغيبوبة)

**
لقطة
(الشاب يزحف إلى الباب، ثم يحضر قِدراً كبيراً، يضع فيه شيئاً، ويعيده بصعوبة إلى مكانه، تدخل الشابة الجميلة وأبناؤها، ينزل من على سريرها ويومئ لها بإحضار الطعام. يلتف حوله أطفاله، ينظر إليهم، يتألم ويصرخ باكياً. تأتي الجميلة وتحضنه، ويطبطب على كتفها، ويومئ لها أن تأكل معهم. لحظات وتمتد أيديهم إلى القدر التي ملأها الشاب بالسم. بقعة زرقاء تحيطهم، بقعة خضراء تتداخل معها، بقعة حمراء تجتاح الاثنين معاً، ويهجم الجميع على الجوع) أو:
رومانوس : (وهو يزحف باتجاه القِدر) سامحوني يا صغاري.. نعم أبوكم جبان؛ لكنه لا يستطيعُ أن يراكم وأنتم في هذا الحال.. إنهُ يفضّلُ الموت.. موتكم وموته على ذلك...
(يضع السم في القدر)
رومانوس : أبوكم خصي.. لا ينفع لشيء. دارتَّ به الأيام حتى تحوّل إلى خرقةٍ باليةٍ مرميةٍ في قبوٍ رطب.. يراكم تذبلونَ ولا يفعلُ إلا أن يتحسرَ ويلعن.. يرى جميلتَهُ تنزلق ولا يُحرّك ساكناً.. ها قد سئمت... سامحوني يا جرائي.
(تدخل الجميلة وأطفالها)
رومانوس : لنأكل سوية
جوليتوس : (وهي تُعدّ الطعام) لا. أنا ذاهبة الآن
رومانوس : منذ مدة طويلة لم نأكل سوية.
جوليتوس : لدي بعض الأعمال أقوم بها.
رومانوس : لأجل الصغار،
جوليتوس : (تهم بالذهاب)
(يجلسها بالقوة، نظرات ريبة متبادلة، الألم بائن في وجه رومانوس والقلق حائر في وجه جوليتوس.. ثوان محرجة ويهجمون على الجوع)

لقطة
(الشاب يتلوى ألماً هو وأطفاله، الشابة تتقيأ، وتصرخ، الأطفال يختنقون بسرعة ويموتون، الشابة، تزحف باتجاهه، وهو يزحف باتجاهها، قبل أن يصل إليها، تموت، يبقى هو يصارع الألم، ناظراً إلى السيف المعلق على الجدار وأطفاله الأربعة المنطرحين في وسط الغرفة وزوجته التي همدت تماماً.. يقع ميتاً مع انتشار الضوء الأزرق في المكان)

لقطة
(على كرسيه الشاهق يجلس الملك، وتحته الأعوان، المنحنيي الرؤوس بعد هزيمة كبيرة... ينظر إليهم منتصراً)
الملك : قال الأطباء أن صحتي على ما يرام، وإنهم اشتبهوا بمرضي.. هاها. يبدو أنني سأعيش إلى الأبد.

لقطة
(صخب وضجة في الخارج، بينما الغرفة مظلمة، يتدلى منها حبل طويل، تكشف الإضاءة عن مشاعل وأناس تحيط بجثة رجل تتدلى من حبل يتدلى من السقف. تكشف الإضاءة عن الملك معلقاً بالحبل)

لقطة
(يمر الطفل الظل، مسرعاً، يطارده رجال يرتدون السواد، يختفي، والرجال يهرولون في كل اتجاه)
أو :
جندي : هل رأيتم طفلاً صغيراً يمرُّ من هنا؟
جندي : أنت تعال هنا.
جندي : امسكوا ذاك.
جندي : أنت أيها الملثم قفْ بجانب هذه المرأة.
جندي : قفوا صفاً واحداً.
جندي : أنتم تعلمونَ أين هو
(يحاول أحدهم أن يتكلم فينهالوا عليه بالضرب)
جندي : تحركوا، تحركوا.
(يأخذونهم إلى الخارج، ونسمع أصوات ضرب وشهقات عالية)

(إظلام)
.............................
نشر هذا النص ضمن كتاب (مأساة روما) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب/ دمشق/ 2003.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو