الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى أين أنت ذاهب يا سعيد؟

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 9 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


هو ماض في نفس السكة التي قد سبقه إليها كل الحكام العرب، وقبل العرب، الماضين والحاضرين، وإلى نفس النتيجة- الحكم المستبد المطلق. لماذا، خاصة وهو يتفرد بين جميع سابقيه ومعاصريه بكونه المثقف المستنير وأستاذ القانون الدستوري؟! رحمك الله يا أفلاطون بموتك قبل أن ترى فيلسوفك الحاكم يتحول في أتون الحكم لمستبد عادي مثل كل مستبد آخر! لكن، لماذا تحول بن سعيد واستبد، أو على الأقل يسعى إلى الاستبداد عبر تركيز كل سلطات الحكم بيده؟

غاية نبيلة. بن سعيد يتصور نفسه شخص نزيه ومستقيم وعادل إلى آخره بين كثر من غير الأسوياء والمرتشين والفاسدين والأغبياء إلى آخره. الأهم من ذلك، والمعضد له، بن سعيد يتمتع بتفويض شعبي يفوق تفويضاتهم جميعاً. هو متأكد وواثق من ذلك. والأهم أكثر لا يزال، بن سعيد يمتلك من العلم والمعرفة، أكثر بكثير من كل ما يمتلكه خصومه مجتمعون، سواء بفضل دراسته وأستاذيته الأكاديمية أو بفضل تقلده منصب رئاسة الجمهورية، مصب كل المعلومات والتحريات والاستخبارات الهامة والحساسة والسرية. باختصار، إذا ما كان في الدولة من خلل أو عطب، ما من رجل آخر في تونس كلها هو أقدر أو أجدر من بن سعيد على ترميمه وإصلاحه لكي تعاود الماكينة دورانها من جديد. وهو أعطى الضمانات: سأصلح الماكينة وأجعلها تعمل ثم أرجعها لأصاحبها فوراً. لا حاجة لي بها حتى استحوذ عليها لنفسي. أليست غاية نبيلة حقاً؟!

ربما معضلة بن سعيد تعكس معضلة الحكم في منطقتنا منذ فجر التاريخ حتى الساعة. وربما قضيته تعطي مثالاً دامغاً على أن "الطبع" يغلب "التطبع"، في الثقافة العربية على الأقل. علم بن سعيد ومعرفته الحقوقية والدستورية، أو تطبعه بأحدث المعارف والثقافات الغربية والعالمية، لم يحولا بينه وبين طابع الحاكم العربي الأصيل- الرغبة والجنوح إلى الانفراد بالحكم والسلطة بأي ثمن، وبمبررات كثيرة. ثمة عطب ثقافي وحضاري يمنع البلدان العربية من توسيع دائرة المشاركة في الحكم وتخفيف مركزيته الخانقة والتحول التدريجي نحو الديمقراطية.

"أنا أكثر منك..... ". نظرية متغلغلة في الثقافة العربية وتقف سداً منيعاً أمام أي حراك أو تغيير حقيقي في الواقع العربي. وهي تنسف لحمة المجتمعات العربية وتجعلها مهترئة ونفاذة تتسل عبر ثقوبها ومسامها كل أشكال الانحراف البشري وليس السياسي منها فقط. في كل بيت وشارع ومكان عربي، ستجد من هو أكثر منك مالاً أو علماً أو نفوذاً أو جاهاً أو أي شيء آخر- لكن أكثر بكثير- إلى درجة تجاوز المعقول ويتنافى معها الائتلاف والاجتماع التلقائي والطبيعي السوي. الفروق الشاسعة تمنع التلاقي الحر، وتحول المجتمعات العربية إلى كانتونات وجيوب صغيرة مبعثرة ومعزولة ومتنافرة لا تلتئم معاً وعاجزة عن الحركة الجماعية المنسجمة والإنتاج.

في الحقيقة، نحن لا نزال أفراد في عائلات وأسر وقبائل وعصبيات وقرويات وجهويات إلى آخره، ناهيك عن عالمين منفصلين متباعدين ما بين رجال ونساء، ولم نحقق بعد درجة المساواة الضرورية فيما بيننا لكي نرتقي إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات بموجب قانون دولة واحدة. هذه هي في الحقيقة ثقافتنا العربية التي قد نشأنا وتربينا عليها جميعنا، ومنا بن سعيد وكافة معاصريه وسابقيه- ولا نزال نحملها في دمائنا ومورثاتنا، ونورثها في كتبنا وعاداتنا وتقاليدنا إلى أجيالنا القادمة. ثقافة لا تقر المساواة. هذا هو طبعنا الأصيل الحق، إلى أن نعيد النظر في ثقافتنا وتقاليدنا.

بن سعيد، حين انقلب على دستوره، لم يأت ببدعة. في الحقيقة، هو صوَّب استثناء وعاد سالماً إلى القاعدة، إلى الطريق المطروق والممهد والمؤمن جيداً منذ آلاف السنين. أن تكتب تاريخاً جديداً مشرقاً ومشرفاً لمنطقة عمرها آلاف السنين ومساحتها آلاف الأميال ويسكنها ملايين البشر، ربما يفوق طاقة رجل واحد ولو كان بقامة قيس بن سعيد، وبلد صغير بحجم تونس الغالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم روسي عنيف على خاركيف.. فهل تصمد الدفاعات الأوكرانية؟ |


.. نزوح ودمار كبير جراء القصف الإسرائيلي على حي الزيتون وسط مدي




.. أبرز ما تناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات الأخيرة


.. الشرطة تعتقل طالبا مقعدا في المظاهرات الداعمة لفلسطين في جام




.. تساؤلات في إسرائيل حول قدرة نتنياهو الدبلوماسية بإقناع العال