الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حول تيار الوعي والنسوية في رواية (بين حياتين ) للأديبة السورية د/عبير خالد يحيي بقلم الناقد المصري د/ محمد الحداد
عبير خالد يحيي
2021 / 9 / 29الادب والفن
يلجأ السرد في رواية (بين حياتين) للدكتورة عبير يحيى إلى الكثير من ملامح أسلوب تيار الوعي؛ حيث تنساب أفكار الشخصية الرئيسة (غالية) ونتابع حياتها، وصراعاتها، وأحاسيسها، عبر مستويات متعددة من الرواة يتمثل أحدها في الرواية الذاتية لشخصية غالية ذاتها، وفي الراوي المشارك في الأحداث، الذي تُغلِّب صيغ السرد ورؤاه أنه يتزيا بزي أستاذها؛ إضافة إلى مذكراتها، والأسطر الشاعرية التي تفتتح بها بعض فصول الرواية، ومنولوجات الشخصيات، إلى جانب قصة قصيرة تسيطر على مساحة الفصل الثامن عشر؛ معبرة عن لحظة بدء الانعطاف والتحول في حياتها، بحسب عنوان الفصل، وبحسب الجملة التي يُعقِّب بها الراوي المشارك، دلالةً على اكتشافه لنبوغها الأدبي، وقراره بأن يتبناها فنيًّا وأدبيًّا. كما نجد فصلًا كاملًا يُروى على لسان الابنة؛ ثم يأتي ما يمكن أن نطلق عليه كسر إيهام السرد، في الفصل الأخير، المعنون بالنهاية لنجد صراعًا بين أستاذ غالية، وبين قرينها الخيالي؛ يدَّعي كل منهما فيه أنه السارد الذي تولَّى رواية الأحداث.
أحسنت الرواية استغلال الفضاء الطباعي للفصل بين مستويات السرد، والوصف، والحوار، والمنولوجات، والأسطر الشاعرية، والقصة القصيرة المُضَمَّنَة، بما يحافظ على مسحة الغموض الفني، ويحمي من الخلط والتعمية واللبس؛ إلا أن اعتماد أسلوب تيار الوعي، والتلميح، في المقدمة، إلى أن الرواية تحمل ظلالا من السيرة الذاتية لمؤلفتها، يجعل المتلقي لا يستطيع أن يستثني من بنية النص الإهداء، والمقدمةَ التي كتبها أستاذ المؤلفة ذاته؛ وبخاصة حينما نصل إلى لحظة كسر الإيهام وإلى تنافُس الأستاذ والقرين على أحقية الانفراد برواية الأحداث.
يركز متن الحكي على حياة غالية منذ مرحلة الطفولة التي يصاحبها فيها قرينٌ من جنس الذكور، ويمتد مع مراحل عمرها تلميذةً، وشابة، وزوجًا، وأُمًّا، وشخصيةً تبحث عن ذاتها؛ ويزخر هذا المتن بالكثير من المعلوماتية النفسية والطبية، التي أجاد السرد دمجها في بنية النص وموضوعه. ونسبح في الفضاء الزمكاني للنص مع الكثير من مظاهر الحياة في بيئة مدن الساحل السوري وقُراه، وظواهر الحياة، والمجتمع السوري، في ظل حرب أكتوبر، وفي ظل ثورات الربيع العربي وما نجم عنها من تطورات في البيئة والحياة الاجتماعية.
إن البنية المركزية الأساس التي تدور في محيطها شخصيات الرواية وأحداثها، التي يتناولها متن السرد، إنما تتركز حول شخصية غالية، لنجد أنفسنا أمام نَصٍّ نَسَويٍّ في مضمون متنه، وفي بناء شبكة علاقاته؛ فغالية كانت دائما امرأة مُستلَبة مقهورة من جنس الذكور؛ بدايةً من طفولتها وعبر مراحل حياتها.
في طفولتها تتعلق بقرين خيالي كما يحدث مع بعض الأطفال، ولكنها لا تتعلق بقرين أنثى من جنسها، وإنما تتعلق بقرين ذكر، يدفعها إلى أن تَكُوْنَ ميولها في اللعب وفي طريقة التفكير أقربَ إلى الصبيان منها إلى الفتيات، ثم يصبح الأمر أشبه بالحالة المرضية حينما ترفض أن تتخلى عن هذا القرين في سن السادسة، وهي المرحلة العمرية التي عادةً ما ينصرف فيها هذا القرين الخيالي عن مخيلة أي طفل ليبدأ الاندماج في البيئة الاجتماعية ويُكوِّن علاقات تفاعليةً مع الأطفال من مثل سنه وجنسه؛ فالقرين ينصرف عن مصاحبتها، ولكنها تبقى مرتبطة به، تتعلق في كل مواقف حياتها بالوعد الذي قطعه لها بأن يظهر حين تحتاج إليه، وبأن يتمثل لها في بعض الشخصيات المحورية في حياتها.
لا نجد مبررات خارجية في البيئة تدفع إلى ارتباط غالية بقرين ذكر، لا أنثى من جنسها؛ فلا يبدو في محيطها الأسري تفضيلٌ للذكور على الإناث، ولا نجد اضطهادًا، أو استضعافا للأنثى في ظل الأسرة المُثقَّفة ذات المستوى الاجتماعي فوق المتوسط؛ وبالتالي فإن مسألة اختيارها للقرين الذكر تتعلق بميل في مدلول الشخصية ذاتها بعيدًا عن أي مؤثرات أخرى، وهو أمر يكون له أثره في تكوين شخصيتها التي لا تعبأ بالعلاقات الثنائية العاطفية بين الذكور والإناث؛ فتحافظ على جديتها في الدرس، وتتسم شخصيتها بالجدية والتفوق، وتبقى محتفظة ببراءة الطفولة المبكرة، التي لا تعطي كبير اهتمام لثنائية الذكر والأنثى.
إن نور ابنة غالية تُمثِّل دورًا عامليًّا آخر لشخصية غالية الطفلة التي تتعلق بقرين، إلا أن نور تتعلق بقرين أنثى مثلها، وتسميها سوسو، وهي تمثل قرينًا سيئًا في آثاره على شخصية نور، ولكن غالية تستطيع مساعدة ابنتها على التخلص من قرينتها في سن السادسة؛ وبالتالي تبقى حالة غالية مع القرين مائزة ومختلفة، لأن قرين غالية من الذكور، ولأن سيطرته على شخصيتها تمتد معها عبر مراحل عمرها؛ تترقبه وهي شابة، وتنتظر لقاءه في شريك حياتها المرتقب؛ فقرين غالية رمز لاستلاب طفولتها وشبابها.
ثم يأتي لقاء غالية بمصطفى الذي سبق لها أن التقته في طفولتها؛ ولأنها ما زالت تعيش براءة الطفولة، ولا تمتلك أي خلفيات أو خبرات عن العلاقات الثنائية بين الذكور والإناث، ولاتحمل خبرات البنات، ولا تجاربهن، ولأنها، في المقام الأول، مستلبة من جهة قرينها الذكر.. فإنها تتخيل أن مصطفى هذا يشبه قرينها، وتتخيل أن هذا القرين عاد ليتمثل في صورة مصطفى ليكون الحبيبَ ورفيقَ رحلة الحياة.
وإذا أعددنا مرحلة الاستلاب من القرين مرتبطة بنوازع نفسية في بنية الطفلة والشابة غالية، فإن المرحلة التي تعيشها غالية مع مصطفى تمثل كل ألوان الاستلاب والقهر المادي والنفسي، التي يمارسها الرجل الفاقد لمعاني الرجولة والإنسانية ضد المرأة المُستضعَفة، التي تتكالب عليها كل عوامل القهر من قِبَل شريك حياتها، ومن قِبَل تقاليد مجتمع لا تسمح لها بأن تتحرر من قيد الحياة الزوجية مهما كانت النتائج المُفجِعة التي يمكن أن يؤدي إليها استمرارها في هذه الحياة.. كان عليها أن تُضحي بقيم مجتمعها وبأمومتها، ولكنها لم تستطع سوى الاستسلام لهذا الاستلاب:
(وأنا.. اخترت المرّ، أمضي معه في زريبة هذه الحياة، كان قدري أن يتابعني كاللعنة في كلّ مجال أنجح فيه، ينتظرني حتى أبلغ القمّة ليبدأ لعبته الأثيرة، تقويض بنياني من الأساس، رغم أني لم أبدأ ببنيان ذاتي إلّا بعد أن ساعدته على رفع دعائم ذاته المهدودة أصلًا، فأخذ بالعلوّ رويدًا رويدًا على أنقاضي المتراكمة، حتى أصبح ناطحة سحاب، كنت فيها جنديًّا مجهولًا أعمل بالظّل، وعندما وصل المصعد إلى القمّة، كبر الرأس واستطال العنق، وبدأت السكين ببتر الأصابع، وقصّ الأجنحة، حتى عجزت الحمامة عن التّحليق، وانكفأت على ذاتها تداوي أطرافها وتنظر إلى سماء طار فيها الغراب ناعقًا بصوته القبيح .. عاجزًا عن مواراتها، فحفرت قبرها بمنقارها لتستر سوءتها بنفسها... واستمر عذابي في قبر اسمه الزواج...) (رواية بين حياتين: 96)
يقل اللجوء إلى الأدوار العاملية في الرواية، ولكن هذه المرحلة من حياة غالية ومصطفى وطفلتها منه، يقابلها تمثيل والد الطفل، الذي سيصبح خطيبًا لابنتها، للدور العاملي لزوجها مصطفى، أما أم هذا الطفل فتمثل صورة مناقضة ومقابلة للدور العاملي لشخصية غالية؛ فهي من أبناء المدينة التي تعيش فيها غالية، وهي تشبهها في الثقافة ومستوى التعليم، والانتماء إلى أسرة من الطبقة المتوسطة المثقفة؛ إلا أن أم هذا الطفل تتخذ الموقف المضاد لغالية بصورة تبالغ في مواجهة القهر بقسوة وعنف؛ فهي لا تكتفي بالطلاق والفكاك من أسر الاستلاب، وإنما يصل بها رد الفعل العنيف إلى حد التخلي عن طفلها ورفضه نهائيا، وقطع صلة الرحم به بلا رجعة، مما يدفع غالية إلى أن تتقبله، بعد أن صار شابا، خطيبًا لابنتها، وابنا تعوضه ما فاته من حنان هذه الأم التي انتقمت من قمع زوجها ببتر كل صلة تربطها به إلى حد بتر صلتها بفلذة كبدها؛ فلم يكن الأمر هنا مجرد تمثيل لجانب من الدور العاملي للشخصية، أو لأحد الخيارات الأخرى التي كان يمكن أن تتخذها شخصية تقع في ظروف مشابهة للظروف التي عاشتها غالية.. بقدر ما كان تمثيلًا لفقد الإنسان لإنسانيته، بعيدًا عن كونه ينتمي إلى جنس النساء أو الرجال.. وهذا أيضا من الملامح المميزة للأجواء الاجتماعية وتمثيل الشخصيات للأدوار العاملية؛ حيث لم يكن استلاب الأنثى مُتحقِّقًا من قِبل رجل عنيف دائمًا، وإنما نجد، من قَبْلُ، والدةَ مصطفى تقوم بهذا الدور جهة أخت زوجها.
تتحرر غالية من قهر مصطفى، وظلمه ومحاولاته لزعزعة كيانها وإفقادها الثقة في نفسها، حينما يلتفت عالِمٌ من أساتذة النقد لقدراتها الإبداعية والنقدية فيتبناها فنيا ويبدأ تأهلَيها للقيام بدور ريادي في الحركة الأدبية والنقدية، فيكون له دوره في علاجها النفسي بإجبارها على مواجهة مرضها النفسي، ومواجهة العوامل التي تعرقل تقدمها وتحقيقها لذاتها؛ فتبدأ حياتها الجديدة، التي لا يستطيع فيها مصطفى هدْمَ ثقتها في نفسها، ولا عرقلة تقدمها وتحقيقها لذاتها:
(تحرّكت باتجاه مصطفى الذي تحضّر لحركة مفاجئة منها، جعل يديه في مواجهة وجهه، كحركة احترازية عفوية، وقفت غالية قبالته، وتمنّت أن تطول تلك اللحظة عمرًا، مصطفى خائف من ضربة مباغتة، لن تُلام غالية عليها بحال من الأحوال طالما أنّها تتناول عقاقير تؤكّد أنها خارجة عن الأهلية، وبالتالي خارجة عن الملاحقة والتجريم، كلّ ما أسعفها به عقلها كان ابتسامة أعلنت فيها انتصارها عليه لحظة خوفه، وانتصارها لذاتها التي قرّرت أن ترفض دور الضحيّة إلى الأبد.....) (رواية بين حياتين: 203)
يشير عنوان الرواية أن غالية عاشت حياتين، وتشير المقدمة، والكثير من الإشارات، إلى دمج حياتها مع قرين الطفولة وحياتها مع زوجها في خانة واحدة هي خانة القهر والاستلاب، وهو ما يقرره المتن على لسان غالية نفسها حين تتقاسم مع أستاذها، وقرينها أدوار الرواية والحوار في فصل النهاية:
(أما أنا، فحياتي الجديدة رسالة متروكة في صندوق البريد، أطّرتها في صورة، علّقتها على ناصيتي، حروفها تتراقص فرحًا مع كل إنجاز أعيشه في الحياة التي فزت بها عندما انتشلتني يد سمحاء من عنق الزجاجة، من قبري الذي دفنت فيه يأسي وبؤسي، قال لي أنه يبحث عنّي منذ عشر سنوات، ليعطيني خلاصة علمه، وكلّ ما في عقله، لكن عليّ أولًا أن أعود إلى الحياة، فالميت لا يحتاج علمًا، وعليّ، أن أؤمن بنفسي، أمانة الله عندي، وعليها سيحاسبني الله، ومضيت معه أتعلّم فن الحياة...)
ويظل النص يفتح أبوابًا لرؤى أخرى قد تكون صالحة للتأويل، ما دام الرواة، هنا، جميعا، مشاركين في الأحداث بصورة أو بأخرى، وبالتالي فإن رواياتهم قد تمثل وجهة نظر شخصية، أو هي تُخفِي جانبًا من الحقيقة، لأننا لسنا أمام سارد خارجي موضوعي بصورة مؤكدة؛ ولهذا فإن حياة غالية يمكن أن تكون مُمثَّلَة في ثلاث مراحل، وتكون حياتها مع مصطفى هي مرحلة الاستلاب التي تمثل العمر الضائع بين حياتين، أولاهما مع القرين، وثانيتهما مع الأستاذ، وكلاهما يقدم الدعم من جانب، ويمثل استلابا من جانب آخر، فالقرين الذي كان مُساعِدًا لها على التألُّق بين الأطفال وابتكار الألعاب التي تبهر الصبيان أنفسهم، يمثل تسلُّطًا عليها، وقيادةً لها من جانب آخر؛ والأستاذ الذي يساعدها لتكتشف ذاتها وقدراتها، يمثل سلطة صارمة في قيادتها وسياستها.
إنهما يمثلان قدر السلطة الذكورية، مما تحتاجه المرأة لتبقى محتفظة بمسحة الضعف الأنثوي، التي تحفظ لها حقيقة جنسها التي فطرها الله عليها؛ وهما، في الآن ذاته، لا يقمعان طموحاتها وسعيها إلى النجاح والتألُّق واكتساب المكانة العالية في الحياة، بغض النظر عن فروق التجنيس الذكوري والأنثوي، وبالتالي يكون صراع الأستاذ والقرين صراعًا وهميًّا مُبتكَرًا في مُداعبته للمتلقي وخداعه الفني له.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس
.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل
.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر