الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطنة بين التأسيس والبناء (الجزء الثاني)

حسن سمر
باحث في الفلسفة السياسية

(Hassan Soumer)

2021 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


تميزت الانتقادات التي وجهت للثورتين الإنجليزية والفرنسية بالتباين في مستوى وحدة النقد ، فنجد بيرك burke يرفض ما جاء به الإعلان حقوق الإنسان لأنه لا يأخذ في الحسبان تاريخ وثقافات المجتمعات. فالبداية من الصفر لبناء مجتمع حديث من المستحيل لأن التاريخ هو الذي يوفر للمجتمعات الاستمرارية ، وهنا تجلى نقد بيرك للثورة الفرنسية فهي تعتقد أن بإمكانها تأسيس مجتمع جديد على أساس مبدأ الاستقلال الذاتي الليبرالي للفرد، وفي المقابل أشاد الرجل بالحقوق التي رافقت الثورة الإنجليزية وقال بان التعويل عليها يؤسس لظهور حقوق حقيقية داخل النظام المجتمعي، لأنها بنيت على الممارسات والتقاليد التي تمثل الميراث الجمعي للأمة ، بينما حقوق الثورة الفرنسية يغلب عليها الطابع التجريد الميتافيزيقي لأنها يستحيل معها ممارسة هذه الحقوق على الواقع. وتتمثل الحرية بالنسبة لبيرك في الالتزام بالتقاليد الموروثة والحفاظ عليها والعمل على نقلها إلى الأجيال القادمة ، فالمجتمع هنا يجب أن يسير سير الثورة الإنجليزية حيث التشبث والارتباط بالتاريخ الماضي وبالتقاليد الارستقراطية والمسيحية فلا من مجتمع تكون بدون ماضي. ان هذا الطرح يجعل من الشرعية السياسية خاصة ومشروطة بحيث لا يمكن للجميع المشاركة في الشأن العام اي لا يجب أن نقع في حكم الجمهور فلا مكان للرأي في النظام السياسي. كما يشكل الرابط الاجتماعي أساس تطور المجتمع وهذا ضرب في التصور الذي يجعل من الروابط الاجتماعية عائق أمام الطبيعة الإنسانية، فكل محاولة للتخلص منها من طرف الثورة لا يهدف إلا إلى محو الماضي وبذلك الوقوع في آفة الاستبداد والدخول في دوامة العنف والتخلف.
"يدفعنا هذا القول إنه بهدم الموروث والرغبة في إعادة بناء المجتمع من الصفر وتوحيد الظروف المحيطة بالجميع وتدمير مؤسسات الماضي والهيئات الوسيطة التي تضمن مشاركة الأفراد الحقيقية في الحياة الجماعية وحماية الحريات الملموسة بنفي الثوار البعد المترتب طبيعيا للمجتمعات وبذا لا يمكنهم أن يفضوا إلا إلى الطغيان وهم بذلك يعلون إلى تجريد السلطة من المسلحة البشرية في حين يعطي الانضمام إلى شخص بالإضافة إلى اكيال تباتا أكبر للهيمنة السياسية. نستخلص من ذلك أن الثورة التي ترغب في البدء من الصفر مصيرها المحتوم الانتهاء إلى الاستبداد وهو ما سوف يطلق عليه في القرن العشرون الشمولية. " فهذا النقد إذن يدعوا الثوار إلى الاستفادة من التجربة التاريخية واحترام استمرارية المؤسسات وفق ذلك الموروث فهناك نظام طبيعي لا يمكن للبشر تعويضه والإنسان يعجز عن معرضة مسار الطبيعة اللهم مسايرتها لأنها تلقائيا تتجه نحو التقدم والتطور والماضي باعتباره تقاليد وعادات تحمل قوانين ثابتة ودائمة تنظم المجتمعات، كما أن الطبيعة هي خلق من الله وبالتالي فقوانينها تعبر عن القانون الإلهي الذي يسمو فوق كل ما هو بشري، والملك داخل هذه المنظومة لا يمكن إلا أن يكون خليفة الله في الأرض فمواجهة السلطان هو اعتراض مبدئي على إرادة الله.
في نفس السياق رفض جوزيف دوماتر Joseph de maistre إمكانية خلق مجتمع جديد يختلف عن مجتمع الطبيعة لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خالقا، والملك ملهما من الله ولذلك تمتد سلطته إلى التشريع فالمجتمعات تتطور بشكل طبيعي وخاضعة إلى قانون متعال عن البشر. نفس الطرح يؤكده ريفارول
و يقول بأن الإنسان لا يمكن أن نخضعه للمساواة والحرية المطلقة لأن طبيعة الخلق الإلهي وُجدت الإنسان مختلفا فجميع الكائنات تخضع لمنطق تراتبي وهذا منطق إلهي يستحيل مجابهته والوقوف أمام الطبيعة لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفشل الدريع.
استمر نقد الثورة هذه المرة من طرف الرومانتكيون الألمان الذين خصوا بنقدهم الثورة الفرنسية وقدموا لها نقدا شديد اللهجة حيث رفضوا قطعا كل الحقوق التي تمجد الفرد على حساب الجماعة والأسرة. وطالبوا بالدولة العضوية التي تأخذ مبدأ الوسطية بين الجماعات الطبيعية والأفراد والأمة، ونظرت إلى المجتمع بكونه جسم واحد له أعضاء متعددة ولكل عضو مهامه، فهذه الترابية تفرض الجماعة على الفرد وتحدو حدوا احترام تاريخ المجتمعات باعتباره الأساس الذي يضمن استمرارية المجتمع. لقد رفض الفكر المعادي للثورة اساس فكرة إمكانية السلطة الديمقراطية ولم يقبل بثورة الفرد على الجماعة ونظر الى الفرد بكونه مصدرا لاضمحلال الدولة لأنه يضرب في تماسك المجتمع وانسجامه وبذلك فهو يخلخل العلاقات الاجتماعية التي هي مصدر الآمان والسلم للمجتمع أفرادا وجماعات. "ويمكن القول بشكل أعم أن المفكرين المتأثرين بالفكر المعاكس للثورة قد اعترضوا عل فكرة السلطة الديمقراطية فبالنسبة لهم تضعف الفردانية الدولة وتنحو لفصم العلاقات الاجتماعية من هنا وجب إقامة سلطة قوية تضم القيم المشتركة، ورفض هذا التصور لسلطة خاوية من أي محتوى. ترك على عاتق كل فرد مهمة اختيار المعنى الذي يرى إعطاءه لوجوده، على السلطة التدخل لتأكيد القيم المشتركة التي تنسح الروابط بين البشر وتدمج المجتمع لتوحد البشر حول طموح وإرادة مشتركين. "
مع بروز اتجاهات فلسفية وفكرية جديدة وظهور علوم حول الإنسان تشكل نقد جديد للفكر الثوري في العصر الحديث، حيث أشادت العلوم الانسانية بأهمية اللاوعي في مقابل الوعي، وكذلك الفلسفة البيولوجية والبركسونية فقد انتبهوا إلى محدودية العقل البشري واستحالة بناء منظومة جديدة فارغة من كل الموروثات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، ومع علم النفس أصبح الحديث عن اللاوعي الجمعي باعتباره العنصر الأهم في حياة الناس، كما نجد لويس دومو الذي انتقد الفكر المبنى على الديمقراطية والمواطنة وأقام مقارنة بين المجتمعات المصطنعة والمجتمع الهندي القديم، وخلص إلى أنه لا يمكن نفى الحياة الاجتماعية في مقابل تكريس مبدأ المساواة الفردية الذي يعمل على توسيع نطاق العنصرية، فالمواطنة الفعلية هي التاريخ والهوية والثقافة.
انتقد ماركس مفهوم المساواة من حيث أنها رهينة في الحقوق المدنية السياسية ولا تصل إلى المساواة الاقتصادية التي هي أساس بناء المجتمع، وهذا النفي للمساواة الاقتصادية أدى إلى تكريس هيمنة الطبقة البرجوازية على البروليتارية، كما أن مفهوم الحرية الماركسية تتجلى في الانفصال الإنسان عن الإنسان وليس في علاقة الإنسان بالإنسان. فالمجتمع البرجوازي أسس هيكلته على أساس مبدأ الملكية وحرية التصرف وهذا اجج الصراع بين الطبقة البروليتارية والبرجوازية، والنظام السياسي لعب دورا سلبيا هنا حيث انحاز إلى البرجوازية ووفر الآليات لهذه الطبقة لتوسيع السيطرة على البروليتارية وهنا وجه الديمقراطية الحديثة فهي تأسست على حساب طبقة تم نبذها اقتصاديا. فماركس إذن لفت الانتباه إلى الجانب المظلم في المواطنة الحديثة لأنها لم تحدد العنصر الاقتصادي باعتباره الأساس الذي يحدد الظرف السياسي والديني، واعتبر ماركس أن جميع مؤسسات الدولة بما في ذلك البرلمان ليس إلا أداة في يد البرجوازية لقهر البروليتارية. "من هنا يمكننا القول إن هناك دعوة للمواطنة الحقيقية في قلب نقد ماركس، فهو لا يرغب في إعادة النظر في غزوات وانتصارات الثورة الفرنسية وإنما يود استكمالها وإعطاءها معناها الحقيقي، فالديمقراطية لا يمكن اختصارها في حق التصويت وهي لا يكتب معنى طالما لم تعطي الظروف المادية للأفراد القدرة على الاستمتاع بالحريات. من هنا وجب إيجاد مجتمع ديمقراطي بشكل حقيقي يعد في آن واحد استمرارا واستكمالا للمواطنة التي ظهرت إلى الوجود في أثناء الثورة الفرنسية."
‘ن مبدأ الحقوق لا يمكن إلا أن يؤدي إلى الانتقال من المواطنة الصورية الشكلية إلى المواطنة الحقيقية حيث انتفاع المواطنين بحقوقهم فعليا، فليس المهم هو المفاهيم ولكن فحوى هذه المفاهيم ومدى قدرة اي نظام على تنزيل تلك المفاهيم من التجريد إلى مستوى الواقع. في هذا السياق ستظهر الدولة الحامية التي أقرت بأن عدم الأخذ في عين الاعتبار الظرف الاقتصادي والاجتماعي والمساواة فيها لا يمكن أن يؤدي إلا إلى ترسيخ قيم المواطنة القانونية والسياسية، فمن الضروري أن تتوفر ظروف متساوية للجميع لكي نحكم على الجميع باسم المواطن، فالتوازن في العامل الاقتصادي للمواطنين يشكل مبدأ أساسيا في تحقيق العدالة الاجتماعية. ويعطي عالم الاجتماع الانجليزي توماس همفري مارشال thomas marshal ثلاثة أبعاد للديمقراطية البعد الأول هو المواطنة المدنية وهي الحقوق والحريات ثم المواطنة السياسية وهي الحقوق السياسية كحق الانتخاب وأخيرا المواطنة الاجتماعية أي الحقوق الغير مادية.
اهتم هذا الفصل إذن بطرح مشكل نقد الثورات وتجلى هذا النقد اساسا في رفض تجريد المواطن والفرد التاريخي وهذا ما قامت به الثورة الفرنسية حسب هؤلاء النقاد، كما أشارت الماركسية إلى الجانب المظلم في الديمقراطية الحديثة وهو عدم إقرار المساواة في الجانب الاقتصادي، كما ظهر مفهوم الحقوق والواجبات من خلال السعي نحو تفعيلها داخل المجتمع، هذا الدور هو الذي ستقوم به الدولة الحامية التي عملت على ضمان تنزيل الحقوق من برجها العاجي إلى الواقع المعاش لكي يتم فعلا الانتقال إلى المواطنة الحقيقية القابلة للتفعيل داخل المجتمع وذلك عبر المؤسسات التي تتبناها الدولة الديمقراطية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس