الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاصٌّ من بلادي

عماد نوير

2021 / 9 / 30
الادب والفن


قاصّ من بلادي
قراءة مبسطة في رواية أوتو للكاتب البصري الأنيق خلدون السراي.

واقعية الأسطورة
اتفقت الشعوب و الحضارات على كذب وجود الأسطورة و أبطالها الخارقون و آلهتها المتعددة، لكنها اتفقت أيضا على قبولها كضرورة فلسفية تفسّر الظواهر و الوقائع الغامضة حسب ثقافات الشعوب على اختلافها.
و لو سلّمنا أن العالم الجديد قد أجلى كل غموض بعد الثورة العلمية الحديثة، فمن غير المنطقي أن تبقى الأسطورة فاعلة إلى يومنا هذا، لكن الذي حصل أنها مازالت تعمل بفاعليتها نفسها، فلماذا هذا الحضور القوي؟ ربما كونها تتناغم مع كثير من الاعتقادات الدينية بطريقة رمزية و تخيّليّة، لذلك فأدب الميثولوجيا أو علم الأديان مازال قائما إلى اليوم، نستنير من دروسه و عظاته و فلسفته، حتى أن الموروث الشعبي و حكاياته في معظمها العام تستمد أصولها من الأسطورة، فترسّخ في أذهاننا درسا اجتماعيا بفلسفة الحضارات المختلفة من رومانية أو أغريقية، فمن خلال بطل بهيئة حيوان غير مألوف، أو كائن بنصف آدمي و نصف آخر لا تدركه إلا تخيّلا، يمكن أن تترك أثرا نفسيا و فلسفيا تتناقله الأجيال لتعزيز فكرة معيّنة توافق معتقدات شعب ما.
و الأدب الحديث غنيّ بهذا الأسلوب و هذا النوع من النتاج الفكري و يُذكر أن الأدب الانكليزي خصوصا و الآداب الأخرى عموما قد خاضت في هذا المضمار و قدّمت مسرحيات و فنونا جميلة أخرى ذات دروس معتبرة، و الأدب العربي له باع في هذا المجال أيضا، فأسطورة السندباد و مصباح علاء الدين و علي بابا و الأربعين حرامي و غيرها الكثيرات مازالت تتناقلها الألسن و القراطيس.
فن و أدب خيالي له قدرة حسية و نفسية في تقديم درس اجتماعي مفيد.

أوتو
إله العدالة عند شعوب الحضارة السومرية القديمة..
الرّواية تواكب العناوين الحديثة، الملفتة للانتباه، و الصّارخة من خلال عنوان غريب، من حيث اسم شخصية لثقافة غريبة، أو ثقافة قديمة جدا كالسومرية أو البابلية أو الفرعونية و غيرها، يكون فخا يصطاد ذهن القارئ المتشوّق دوما لكل ماهو غريب و جديد، فتدخل إلى المكتبة العربية بثوب حديث يجذب لبّ القارئ العربي، و ليجد فيه تغيّرا نمطيا جميلا.
و أوتو الإله هنا إشارة قوية إلى أن أحداث الرواية تدور في أرض بلاد الرافدين، و الجنوب خاصة، فأتو كان إلهاً معبودا من شعوب المنطقة هذه، و كأن الكاتب يلفت ذهن القارئ إلى حاجته لمعرفة من هو أوتو أولا، و من ثم معرفة منازل رحلة أوتو ثانيا، ثم معرفة نتائج الرحلة و أسبابها و أهدافها آخراً، و إلقاء الضّوء على ذهن الفرد العراقي الحديث و مدى علاقته مع الإله بأيّ مسمّى.
غالبا ما نطلق كلمة السّماء كناية عن الله جلّ و علا، و ذلك تأكيدًا لرفعته و بسط علمه على كل شيء محيط بنا من خلال ارتفاعه في السّماوات، أو هكذا توارثنا الاعتقاد، كقولنا ذلك أمر سماوي أو هو تشريع السّماء، لكننا نجد في الإسطورة أوتو أن الإله يسكن في العالم السّفلي، وحين يقرر أن يبدأ رحلة ما فأنه يظهر لعباده على سطح الأرض، و هذه الفكرة وحدها كفيلة بأن تجعل من لاوعينا الباطن يستهين بقدرات إله يوجد في عوالم سفلية، و غالبا ما توحي كلمة السّفلية إلى العتمة و الظُلمة، و ما الإله إلّا نورا على نور يعتلي كل شيء حيث له الرّفعة و إليه المنتهى، هكذا نحسّ بالأمان و نثق نفسيّا بالقدرة التي تفوق قدراتنا بفراسخ كثيرة جدا..

يأس المظلوم و عجز الإله
أوتو.. رحلة إلى الوضع المزري في العراق و تسليط الضوء على ما آلت إليه تراكمات الحقب السّابقة على هذا البلد، رحلة تكشف مظلومية الفرد العراقي من قبل مؤسسات ندين لها بالولاء كحكومات و كمنظومة دينية ترشد العبد للطّريق القويم الذي يُرضي الله سبحان و تعالى، و إذا بكل تلك المنظومات تعيث فسادا في الأرض، و تتفنن في امتصاص دماء الفقراء و الأبرياء و تنزل عليهم البلاء و الهوان و الذل.
هناك عدّة أسئلة تطرحها رحلات أوتو إلى مناطق مختلفة لاقت ظلما لا تستطيع أن تجد من ينقذها منه.
لماذا يقر الإله بعجزه و فشله، و لماذا يتنمر البشر على الإله، كيف تطوّر العقل البشري من عابد مؤمن بكل أقدار الإله إلى ناقم ساخط على الإله، بل أن الأمر تعملق كثيرا ليجد الإله نفسه موضوع تهديد من قبل المخلوق.
لماذا يتزايد الظّلم مع تزايد التّحضّر و إرساء قواعد المدنيّة، و كان الأَوْلى أن يتراجع معدله لِما للنّظام المدني من قوة قانونية تحمي كل فرد و تعطيه حقه، أو هكذا يقول المنطق!!!
أسئلة كثيرة تتضمنها أسطر الأسطورة و جملها الجميلة و اعترافاتها الخطيرة، فالإله يصيبه الفضول لمعرفة كل حيثيات الظلامات، و تصيبه الدّهشة لكيفية تحمّل العبد لكل تلك المصائب، و كأن حاله يقول: لو نزلت هذه البلايا على الإله نفسه لما تحمّلها، و يشعر بالخيبة من جرّاء تفاقم الجور دون رادع، و الفشل و العجز كانت معظلته الأخيرة التي حجّمت قدرته، فيتساءل من جديد: كيف لي أن أفعل كذا و كذا و أنا لا أستطيع ذلك، و كيف لي أن أعيد ترتيب أمور معقدة ليست لي قدرة على صياغتها من جديد بشكل جميل!!! تساؤلات تجعله في نظر نفسه ليس إلها أبدا، تعيد نظرته إلى إله ذو قدرات محدودة و ليست مطلقة، و رغم ذلك يخفق في حل المشكلات التي ترد ضمن اختصاصه.. إله عاجز و بشر متنمر يزاحم الإله في عمله و يتجاوز البشر في مهمّاته.
و قد يتبيّن للقارئ أن الرّسالة تفيد أن الإنسان الظالم من كثر تماديه و حلم الإله عليه صار يعتقد بأن الرّب عاجز عن إيقافه، و من كثر وقوع المصائب على المظلوم و عدم قدرته تحمّل ذلك صار المظلوم معتقدا أن الرّب مجرد وهم و نظرية نفسية يعيش معها كمسلّم دون قناعة حقيقية.
و في كلا الحالتين فإن العدل الإلهي لم يفهمه الظالم و المظلوم سواء، إذ إن الطرفين يقيسان الأمر وِفق متعة أَحدهم و بلاء الآخر.

كان بودنا لو ألقينا الضوء على رحلاته كلّا على حده، لكننا تريثنا عن ذلك لأن الرواية غير متوفرة ألكترونيا لقارئ المقال، في الوقت الحاضر ربما، و كان يجدر أن نضعها بين يدي القارئ ليعرف مهمة القراءة بصورة جلية، فارتأينا أن نشير إلى أهداف الرحلات دون التفاصيل في فقرات المقال أعلاه.
امنياتي للكاتب الرّائع خلدون السراي بدوام الإبداع و التّألّق..
تحيّتي و الودّ…عماد نوير
******

ملخص رواية (أوتو) للكاتب خلدون السراي.
بعد أن بسط الله نفوذه و وصلت فتوحاته إلى كوكبنا الصغير توارى عن الوجود كل الآلهة القديمة، الآلهة التي كانت لها السّطوة و الهيمنة و الحكم و التّشريع في حضارات الأرض، تراجعت إلى عوالم سفلية سحيقة، كان ذلك بمثابة نفي بعد هزيمة في معركة لاهوتية مع الإله المقتدر ذو الصفات الذاتية التي لا تشترك معه مخلوقاته فيها، خلافا لتلك الآلهة التي تطمع كثيرا في عيش شهوات و مزاجات البشر.
و لآلاف السنين بقيت الآلهة تعيش في بحبوحة العالم السفلي بعد أن صار العالم العلوي حكرا لله و ملائكته يصولون و يجولون دون وجس أو خشية.
و تبدأ القصة عندما يزور أنسيّ من العصر الحديث اسمه حاتم العالم السّفلي، يتحدّى هذا البشري الآلهة القديمة التي سلّمت زمام الأمور إلى إله واحد و انغمست في ملذاتها الشخصية مع الزّوجة و الأولاد و المأكل و المشرب، يتحدّى إله العدالة و الحقيقة في العصور السومرية أوتو، يتحدّى الإله في أن يبسط العدل و يقهر الظّلم في أرجاء المعمورة، أو فلنقل في بلاد وادي الرافدين الحديثة على وجه الخصوص.
يشدّ أوتو رحاله نحو الأرض محاولا أن يعيد لنفسه مجد الإله، و تحقيق ما كان باستطاعته فعله و تقديمه إلى بني البشر، لكن الحال لم يكن على ماكان مرجوا أبدا، لتبوء رحلته بفشل ذريع و عجز إلهي مقيت.
تبحث الرواية في الظّلم الذي يسود العالم، و معاناة الطبقة البسيطة من عجرفة الحاكم و رجل الدّين أو الذي يبدو رجل دين، فيخوض معهم أوتو صراعا فكريا ينتهي بهزيمته مرة أخرى و تحدّي الناس لفكرة العدل الإلهي، بل يسوء الأمر لدرجة التّجاوز على الإله و التّقليل من شأنه و تهديده بالقتل إن لزم الأمر.
تعالج الرواية الوضع السياسي المأساوي في العراق، منعكسا على العالم الثّالث و ما يلحق به من حيف و جور، حيث يعرض الكاتب فكرته بميثولوجيا دينية سياسية حديثة و شيّقة.
شكرا كاتبنا الوسيم هذه الرّواية الجميلة و هذه الفكرة الرّائعة، أمنياتي لك بدوام الإبداع و التّألّق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال