الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لكيلا تموت الحكاية مرّتين في رواية العراقي أزهر جرجيس: -النوم في حقل الكرز-

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2021 / 10 / 3
الادب والفن


حيرةُ من يتزوج غريبةً عن بلده، أو العكس، تشكل مأساةً في السؤال: أين يُدفن أو تُدفن! حيث يحرص الإنسان غالباً على الإمساك بما يتبقّى له من وجود على الأرض، يتبلور في الذكرى، إذ يقرّ في النهاية بأنه لا وجود للخلود؛ ولكن، ماذا عن حيرة الذين يموتون ويُرْمَون في مقابر جماعية تبقى سراً في بئر قاتلهم؟ وماذا عن اختلاط بقايا جثثهم وتلاشيها بفعل الزمن إن اكتُشف مكانُها وفُتحتْ؟ وماذا عن حيرة ذويهم بالتعرّف على ما يخصّهم من عظامٍ، لكي يدفنونها في مقابرهم الخاصة التي تحفظ ذكراهم؟:
"ليس ما يؤكد بأنّ من في الأكياس يخصّهم، لكنّ الانتظار الذي طال سبعةً وثلاثين عاماً جعلهم مقتنعين بذلك، راضين بما تحصّلوا عليه من حفنة عظامٍ. لقد أيقنوا بأنّ آباءهم لن يعودوا إلى الحياة ثانيةً، وأنّ لا بدّ من بناء قبورٍ لهم يبكون إلى جوارها، فمِن شأن القبور، حتى وإن كانت غير مؤكّدة، الإعانةَ على ذرف الدموع والتخفيف من وجع الفراق. سألتُ شيخاً وقوراً كان يحمل واحداً من تلك الأكياس: ما السّر وراء حرصك على دفنه في قبرٍ مشيّد ومنفرد؟/ فقال بحزن وانكسار شديدين:/ عندما لا تكون لك شاهدةُ قبر فإنك تموت مرّتين، مرّة حين تفارق الحياة، ومرّة حين تُنسى ولا يتذكّرك أحد".
وحيث أن الرواياتِ مثلُ الناس! يبدع الروائي العراقي أزهر جرجيس، روايةً تنال قبرَ الذكرى، ليس بوصولها إلى القائمةِ الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن عام 2020، فحسب، بل لإيجادها قبراً في ظلال كرز ذاكرة القراء، بعنوانها الذي يتداخل ويتشابك بقوة مع موضوعها، وإن بقي مستتراً إلى الثلث الأخير من الرواية، لكي يَبرز بنصاعة أقوى ربّما، كشاهدةٍ مُثلى لروايته المتألّقة التي يضمّها بجناحيه: "النوم في حقل الكرز".
من أجل المجد لمن نام في حقل الكرز، يحدّد جرجيس بنجاحٍ، اللحظة المحورية لروايته بعام 2005، حيث يعيش العراق أسوأ كوابيسه بعد سنتين من الغزو الأمريكي، وبما يتيح له عبر تداخل الزمن قوة العرض والمقارنة بين عراق الديكتاتورية، وعراق أوهام التحرير، والنفاذ بأجنحة فن الرواية إلى واقع العراق الحاضر في ظلّ حكومات الطوائف، وتوقّع ما سوف تبقى عليه في المستقبل، والأهمّ روائياً: حال تمزّق الشخصية العراقية وتلملمها في الوطن والمنفى، بمحورة هذه الشخصية حول الأب، الذي يأتي إلى ابنه في كوابيس وأحلام يقظة وهلوسات على مدى الرواية، بصورة جثةٍ مشوّهة، ناقصة الملامح أو الأعضاء وتسأل الابن: "أين قبري"، وتوحي في ورودها المتنوع هذا بالعراق نفسه: جثةَ مشوهةً في زمن الديكتاتورية متماثلةً بوجه العراق التاريخي الممثَّل ببابل، وحدائقها المعلقة التي بناها نبوخذ نصر كأحد عجائب الدنيا السبع، وباتت مسخاً بقصور الديكتاتور؛ وورودها جثةً مفتتةً إلى بقايا عظامٍ متماثلةٍ مع حكم الميليشيات، التي لم تشوّه وجه العراق التاريخي وجعله مزبلةً فحسب، بل وبيعه قطعاً مسروقةً من متاحفه تحت سمع وبصر حاميها الأمريكي.
في نوسان لحظته المختارة، تبرز قوة موضوع جرجيس الذي يعالج تمزّق الإنسان في مسألة ضحايا المقابر الجماعية وذويهم، في صنع روايةٍ ناجحةٍ، وخطرةٍ عليها بذات الوقت، إذ يخلق بقوته تحدّي إبداع شكلٍ يستوعبه، ويتيح له رشاقة الحركة والطيران. وهو ما يتوفّق به الروائي، رغم كثرة أجزاء الرواية التي وجد لها حلاً بجعلها أرقاماً من دون عناوين، وتساعد في تسهيل تمرير الانتقال الزمني على القارئ.
في حلوله بخلق شكل رشيق لموضوعه، يخلق جرجيس بنيةً رشيقة تعتمد أسلوب الرواية داخل الرواية، وتداخلِ الزمن ذهاباً وعودةً عن اللحظة المحورية؛ فيبدأ روايته بجملة تقديم من جاك بريفير: "الحياة حبّة كرز نواتُها الموت" يليها استهلال يرويه مترجم يتحدث عن صُدفة استلامه دعوةً موجهةً إلى جاره، لحضور حفل مجلة في يوبيلها الذهبي، وتطلب منه رئيسة التحرير عندما تعرف أنه مترجم من العراق، ترجمةَ مخطوطة الكاتب النرويجي العراقي الأصل سعيد ينسين. ويلي الاستهلال تقديمٌ لرواية ينسين بجملة سركون بولص: "أعرف بأن عليّ أن أموت حيث ولدت/ لكنْ قبل ذلك، دعوني أكمل ولادتي"، ويبدو واضحاً ارتباطها بجملة بريفير وموضوع الرواية وعنوانها في الولادة والموت، بما يعكس تماسك الرواية في تفاصيلها. يلي ذلك ثلاثة وستون جزءاً بأرقام، وبطول يتراوح بين الصفحة والخمس صفحات، تشكل متن الرواية التي يختمها جرجيس بـ: تتمة، يكتبها المترجم حول مصير سعيد ينسين، ومآله تحت ظلال شجرة الكرز، حيث يُعثر عليه ميتاً داخل شقته، مع مخطوط روايةٍ على مكتبه، ورسالةٍ إلى رئيسة تحرير مجلة داغ بوستن، صديقته ــ هيلينا يورستاد، "يطلب فيها أن تنشر حكايته وهلاوس عودته إلى بغداد، وأن يُمنح شاهدةَ قبرٍ لئلا يُنسى ويُمحى ذكره، فيموت مرتين". فترتّب له دفن جثمانه بجانب العجوز ياكوب، وتقيم له مراسم دفن تحت ظلال شجرة الكرز، يحضرها زملاؤه في الصحيفة ولفيفٌ من أصدقائه ومحبّيه، وتدسّ معه البرواز الذي وضع فيه صورة عظام أبيه، وتخطّ على شاهدة قبره: "هنا ينام سعيد ينسين... المجد لمن نام في حقل الكرز".
في بنيته الرشيقة يحافظ جرجيس على شكل السّرد بصيغة المتكلّم: المترجم أولاً ثم بطل الرواية التي ترجمها، كراوٍ وحيدٍ لا يشتّتُ القارئ بأشكال السّرد. وفي هذه البنية يحافظ جرجيس على أسلوب الكوميديا السوداء الذي عرف به في مقالاته، مع تطعيمه بفانتازيا تقارب الواقعية السحرية، في فتح ثغرة بمنظومة زمنه نحو المستقبل، حيث يقفز سعيد خلال رحلته من بغداد إلى الكفل لرؤية المقبرة الجماعية، ثمانية عشر عاماً، من 2005 إلى 2023، بفعل طيران "سيارة الجيمسي" التي زوّدها الأمريكيون بغالون بنزين اخترعوه، وطارت بفعله لتخترق الزمن إلى 2023، ليرى سعيدُ بغداد متألقة مثل لاس فيغاس، ويفكّر بالاتصال بصديقه جمال سعدون، ليعتذر له عن سخريته من قوله بأن بغداد ستصبح هكذا مع "التحرير الأمريكي"، ويفيق ليخبره السائق ساخراً أنه في بغداد مقديشو.
في متن أجزاء روايته، يعرض سعيد تجربته في الهرب من بغداد أيام الديكتاتورية نتيجة نكتة تافهة سرّبها زميله المخبر في الجامعة إلى الأجهزة التي سبق لها أن غيبت أباه اليساري عن الوجود، وتجربةَ عمله وسجنه في عمّان، وارتحاله مع المهربين إلى النروج، مروراً بمعاناته على طرق دول المرور، وتجربة حياته في النروج التي لا تمرّ دون مشقة، ولكن مع الأمان والزواج من معلمة اللغة، في قصة حبّ عذبة يمرّ بها تلاقح الحضارات، وأخذه اسم عائلة زوجته تونا، وتنتهي بإصابتها بسرطان الكِلى، وموتها في فاجعة كبرياء وحرص عليه من الأسى، وتجنيبٍ له من إتعابها له بمرضها، ومن ثم عيشه عزلةَ موظف في البريد، وتلقّيه من خلال لقاء بصحفية عراقية يقيم معها علاقة حب عبر الإنترنت، طلبَ حضوره إلى بغداد للتعرف على جثة أبيه المرجّح وجودها بفتح مقبرة جماعية قام بها النظام الديكتاتوري السابق، وتمرّ بكل هذه المعاناة المتداخل عرضها زمنياً كوابيس سعيد وهلوساته حول جثّة أبيه، وحول سفره إلى بغداد الفاجع كذلك بتجربة احتجازه من المليشيات الطائفية، وتفتّت جمجمة وعظام أبيه التي يحملها في كيس خلال هذا الاحتجاز، ويكتشف أنه لا شيء تغيّر بل تطوّر إلى الأسوأ، الذي ينتهي بتفجير سيارة مفخّخة تودي بحياة حبيبته الصحفية على بعد أمتار من لقائه الأول معها، ونجاته التي لا تبدو حقيقيّة، فالشاب الذي نسيت جثته سيارة الإسعاف بجانبه يرتدي مثله قميصاً أبيض، وبنطال جينز أزرق، وعلى جبينه قطبتان من أثر احتجازه من قبل الميليشيات، وتدلان عليه هو ذاته. وخلال تجربة بحثه عن قبرٍ لا يتوفر في الشقين الزمنيين للوطن، يتذكر سعيد قول جاره العجوز ياكوب أن الإنسان وفق أسطورة قديمة: "يتحوّل بعد الموت إلى موجود آخر يتلاءم مع ما حوله، فإن دفن في الجبال تحوّل إلى صخرة، وإن دفن في البحر صار سمكةً، وإن دفن في الصحراء غدا رملةً، لذا قررتُ أن أُدفن في حقل الكرز كي أتحوّل إلى شجرة كرز.. المجد لمن نام في حقل الكرز.".
وتحت ظلال شجرة الكرز، في حقل من مزارع أوسلو، يُرقِد جرجيس بطلَ روايته سعيد ينسين الذي يعكس اسمه روعة الاندماج في الدول التي تحتضن اللاجئين، بعد أن عزّت عليه مقبرة في بلده العراق، خلال وهم تحريرها من الديكتاتورية عام 2003، كما عزّت على جثة والده الذي غيبته هذه الديكتاتورية في مقبرة جماعية، ولم يجد له قبراً كذلك بعدها في وطن استوهم الكثيرُ من أهله أن يكون لاس فيغاس الشرق على يد "المحرر الأمريكي"، ليفيق بكونه في مقديشو المآسي على ظهر دبابة "الغازي الأمريكي". وربما يفعل جرجيس ذلك بكامل الأسى، وصيةً منه "بعد عمر طويل" من الحياة والإبداع، أن يُدفن تحت ظلال شجرة الكرز في الوطن البديل الذي عوّضه الأمان المفقود في وطنه. وهو ما توحي به قوة الرواية وانسجام مكوناتها، خيالاً وواقعاً، في ظلال التفجير المستمر الذي لا يفصح عن نهاية.

أزهر جرجيس: "النوم في حقل الكرز"
دار الرافدين: بيروت 2019
224 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح