الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمثلات الاستشراق في مناظرة رينان و الافغاني

كامل داود
باحث

(رويَ اêيçï المïèçل ئ الكêçè في الïيوçنيé)

2021 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


شهدَ الربعُ الأخير من القرن التاسع عشر، انضج لحظة تاريخية من التعاطي المعرفي المثمر بين الفكر الأستشراقي الفرنسي و طليعة المشروع النهضوي العربي الاسلامي، فقد القى المستشرق الفرنسي المثير للجدل، " ارنست رينان" ، بعد لقائه بالمفكر النهضوي "جمال الدين الافغاني" ، محاضرةً في السوربون تحت عنوان " الاسلام و العلم"، ذهب فيها الى القول :
1 . بأن الذي يسمى بالعلوم العربية ليس للعرب منه سوى لغتهم .
2 . طالما وقف الاسلام ضد العلم و الفلسفة .
3 .ان الاسلام هو التوحيد الذي لا يفرق بين ما هو ديني و دنيوي
4. يشكل الاسلام اثقل قيد حملته الانسانية .
والى هذا الحد، يمكن ان يمر الامر بشكل طبيعي، فقد كان ما طرحه رينان من آراء، شائعا بين اروقة الجامعات الاوربية، ولكن الذي اذاع الموضوع حتى طبّقت شهرته الافاق، هو ان رينان نشر محاضرته هذه في اهم جريدة فرنسية علمانية ( لوديبا Jarnal des debats ) بتاريخ 19 /3/1883، بعده بقليل، نشر الافغاني مقالا باللغة العربية في جريدة البصير بتاريح 3/5/1883التي كانت تصدر في باريس، يردُّ فيه على رينان قبل ان يردَّ بمقال آخر باللغة الفرنسية في صحيفة لوديبا Jarnal des debats التي نشر رينان فيها مقالته، بعددها المنشور بتاريخ الجمعة 18/5/1883 ، اي بعد مرور قرابة الشهرين، وفي اليوم التالي نشر رينان رده على الافغاني في الصحيفة نفسها ايضا.
ان مرد الاهتمام بمحاضرة رينان هذه يرجع الى سببين، الاول هو شهرة رينان الواسعة كمفكر و عالم كبير، و السبب الثاني هو وجود الكثير من المثقفين الشاميين و المصريين الهاربين في فرنسا ، نتيجة نفيهم من مصر بعد الاحتلال البريطاني 1882 وقد تصدى عدد منهم لهذه المحاضرة قبل ان يبدأ الافغاني بالتصدي لها، و قد يكون هذا احد الاسباب التي حركّت الافغاني على الرد الذي شاع بين افراد الجالية العربية في باريس التي وصلها الافغاني بداية سنة 1883منفيا من الهند بعد ان مكث مدة قصيرة في لندن؛ ولقد جرى اللقاء بينه و بين رينان قبل المحاضرة بفترة قصيرة ويبدو انهما تجاذبا اطراف الحديث، ربما بالعربية او بالفرنسية بحضور من يجيدهما معا، وجرى حديثهما بشأن الديانة الاسلامية و علاقتها بالعلوم كما يقول رينان في رده على مقال الافغاني :
( تعرفت على الشيخ جمال الدين منذ شهرين تقريبا...) مشيدا بفكره ( الآري ) المتحرر تماما من الاحكام الاسلامية الصارمة، وان ( حرية فكره وطبعه النبيل الصريح، جعلاني اشعر اثناء ما كنت اتحدث اليه، و كأنه بعث امامي احد معارفي القدامى، ابن سينا او ابن رشد او احد هؤلاء الملحدين العظام الذين مثلوا تراث العقل الانساني خلال خمسة قرون ) و الغريب ان الافغاني لم يعترض على اتهامه بالإلحاد، و في ذلك يقول احمد امين ( ان السيد عبر تعبير غير دقيق) في رده، لذلك شبهه رينان بالملاحدة الكبار وعلى حد تعبير عبد الرحمن بدوي، ان رد الافغاني على محاضرة رينان ردا اقل ما يمكن وصفه (ايجابيا) اذ يقول ( و قد كان رد جمال الدين الافغاني على رينان شديد الترفق الى درجة انه ساير رينان في كثير من الملاحظات التي ابداها عن اضطهاد الاسلام للعلماء ) بل ان الافغاني يبدأ مقالته بكيل المديح والثناء لرينان و الاشادة بألقابه العلمية (و انه قد اوفى بشكل رائع) و قد ( انكب الفيلسوف اللامع على التدليل على ان الدين الاسلامي في جوهره ذاته معارضا لتقدم العلم، و ان الشعب العربي بطبيعته لا يحب العلوم الميتافيزيقية ولا الفلسفة ) ان رد الافغاني هذا كتبه باللغة العربية و ترجم الى الفرنسية و نشر في الجريدة المذكورة ، وان المستشرق المعروف " لويس ماسنيون" قد احتفظ بنسخة منها منشور فيها المقالة موقعا بأسم الافغاني و يبدو فيه واضحا ان الافغاني موافق على طرح رينان و لكن تساؤله فقط عن مصدر هذه (العقبات)، هل هي بنوية في المنظومة الاسلامية ام نتيجة الطريقة التي يتمثل بها المسلمون دينهم؟ (في الحقيقة فقد حاولت الديانة الاسلامية خنق العلم و ايقاف التقدم، كذلك قد نجحت في عرقلة الحركة الفكرية او الفلسفية و في تحويل العقول من البحث في الحقيقة العلمية ) ثم يلتمس الافغاني الاعذار لرينان لعدم اجابته عن هذا التساؤل، مبررا له ذلك بضيق الوقت الذي حال دونها ( الا ان الداء موجود مع ذلك و ان كان من الصعب تحديد الاسباب على نحو دقيق و بحجج غير قابلة للدحض فأنه من الصعب ايضا الاشارة الى الدواء)
و اشارة الى قول رينان في وصف المؤمن المتمسك بدينه ( و هو مشدود الى عقيدته التي استرقته كالثور الى المحراث ان يمشي ابدا في نفس الخط الذي رسمه له سلفا شراح الشريعة ) ، جاء رد الافغاني هادئا بيّن فيه ان الامم لا تنصاع الى منطق العقل بسهولة، و لا تعلم من اين تحصل على سعادتها، لذلك تضطر للبحث عن الاسباب خارج ذاتها، عندئذ يظهر "معلم" يدعوهم لأتباع صوت العقل، لكنه لا يمتلك سلطة الارغام، و كل ما يستطيع تقديمه هو جرعة من الامل في دنيا اليأس و القنوط فما يلبثوا حتى يجدوا انفسهم منقادين لأوامره بأسم الكائن الاعلى لذا يرى الافغاني ان جميع الديانات متعصبة كل على طريقته و ان المسلمين قد رسموا طريقهم في العالم ليس بالسيف وحده بل كانت لهم اعمال باهرة في العلم والفلسفة و استطاعوا ان ينقلوا علوم اوربا القديمة ، ولكن لم يسطتيعوا ان يتعايشوا معها طويلا، ساق الافغاني هذا الكلام في معرض رده على حكم رينان على العرب بانهم ليست امة علم؛ وان العلماء الذين ظهروا خلال التاريخ الاسلامي هم من الجنس الآري
ترجمة المحاضرة و ردودها
كان رينان قد القى محاضرته على جمعٍ من النخبة في السوربون، ثم نشرها في تلك الصحيفة ، بعدها توالت الردود عليها من قبل عدد من المثقفين الدارسين و المبعدين العرب في فرنسا، و من المؤكد ان الافغاني قرأ الترجمة العربية، فقد كان لا يجيد اللغة الفرنسية عكس ما يشاع عنه، حيث ورد في تقرير للشرطة الفرنسية في تموز 1883ان الافغاني ( يستعمل الفرنسية بكثير من العسر) و كذلك ما ذكر في شهادات الفرنسيين الذين عرفوا الافغاني، منهم الصحفي الفرنسي الذي حاوره، وادرج تلك المعلومات في احد كتبه، ومن المؤكد ان الفرنسيين اعرف بمن يتكلم لغتهم ( ان هذه الشهادات تدفع الى الشك في ان يكون الافغاني قد كتب بنفسه المقالات التي صدرت بأسمه باللغة الفرنسية وايضا الرسائل التي وجهها بهذه اللغة )
كما ان الافغاني نفسه لمّح الى ذلك في رده آنف الذكر على رينان اذ يقول : ( بيد اني لا املك سوى ترجمة لا ادري مقدار تطابقها مع المقال الاصلي، فلو كان قد اتيح لي قراءة المقال في نصه الفرنسي لكان بوسعي ان امسك بشكل افضل بأفكار هذا الفيلسوف الكبير)
لماذا تأخرت الترجمة العربية؟
ان محاضرة رينان و رد الافغاني عليها لم يترجما الى العربية الا بشكل محدود التداول حتى وقت قريب، و كانت ترجمة المحاضرة العربية الوحيدة المنشورة، هي ترجمة عن اللغة الالمانية نشرت عام 1923 و تمت بطلب من مصطفى عبد الرازق .
اما رد الافغاني فلم يترجم في حينه (درءا) للفتنة، و اعتمد الباحثون المتأخرون على اقتباسات مجتزأة حسب ميول و جرأة المترجم، لأنهم يرون في الرد خروج على الدين الاسلامي، وظل طي الكتمان و التغافل حتى عام 1997 و فيها ظهرت ترجمة كاملة لرد الافغاني على مقال رينان، قام بترجمته الدكتور "محمد حداد" في كتابه الموسوم ( الافغاني، صفحات مجهولة من حياته، دراسة ووثائق ) الصادر في بيروت عن دار النبوغ 1997 من دون ان يترجم محاضرة او مقالة رينان في هذا الكتاب، ثم وجدناها منشورة على الانترنيت ، بعدها جاء كتاب " مجدي عبد الحافظ " ( الاسلام و العلم، مناظرة رينان و الافغاني ) الصادر عام 2005 عن المجلس الاعلى للثقافة في مصر، ضم بين دفتيه ترجمات كاملة للمحاضرة و رد الافغاني و رد رينان عليه، وردود و محاور تحليلية مهمة، الّا ان المؤلف لم يذكر ترجمة محمد حداد لرد الافغاني و التي سبقت ترجمته بسبع سنين، و الترجمتان تكادان ان تتطابقا في المعنى لولا اختلاف في ترجمة بيت الشعر الذي ذكره الافغاني لرينان، يرتجمه مجدي عبد الحافظ على الوجه التالي:
( واخير ساقول له في هذا المقام ما قاله المتنبي، الشاعر الذي احب الفلسفة و كان قد كتب منذ بضع قرون لشخصية عظيمة محتفيا بأفعالها قائلا :
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعف القول ان لم تسعف الحال )
اما الذي جاء في ترجمة الدكتور محمد حداد فهو شئ آخر : (اخيرا اقول له بهذه المناسبة ما كتب منذ قرون المتنبي و هو شاعر كان يحب الفلسفة مادحا احد الامراء :
وذنبي تقصيري وما جئت مادحا بذنبي ولكن جئت اسأل ان تعفو)
و لا ندري سبب اختلافهما في ترجمة بيت شعر لشاعر ذائع الصيت مثل للمتنبي .
ردود الافعال
ان ما طرحه رينان في القرن الثامن عشر، لم ينطفئ اواره، وما انفك يظهر بين الفينة و الاخرى فيما يكتب من الدراسات والكتب الغربية الحديثة سواء عند المستشرقين او غيرهم من الكتاب حتى هذا الوقت، لذا فليس من الصواب الاحجام عن ترجمته و انما التعامل معه بالمنطق العلمي التاريخي للوصول الى ما ينفع البحث على وفق المناهج العلمية، و لا نرى مبررا لإحجام محمد عبدة عن الترجمة بسبب تخوفه من تعميق الخلاف و الانقسام و الفرقة بين المسلمين كما يقول، مفرطا بالقيمة النقدية ، لكن يبدو ان وقع رد الافغاني كان ثقيل الوطء على تلميذه و (مريده) محمد عبده، فعند اطلاع محمد عبده على ترجمة رد الافغاني، و حينها كان منفيا في بيروت، اخذ يتلمس الاعذار لشيخه مستغربا مما كتب فيقول في رسالته لشيخه (الافغاني) :
( ظنناها من المداعبات الدينية ..) و هو يشيد بسنّة الافغاني :( لا تقطع رأس الدين الا بسيف الدين)، مفسرا فيما بعد (سيف الدين بأنه القرآن)، و المعروف ان محمد عبده ينظر الى الافغاني نظرة اعجاب كبير وتقدير يقترب من التقديس و في ذلك يقول:
( لو قلت ما اتاه الله من قوة الذهن و سعة العقل و نفوذ البصيرة هو اقصى ما قدر لغير الانبياء لكنت غير مبالغ ) ولكن رد الافغاني ( الرقيق) على ما طرحه ارنست رينان، احرجه كثيرا و وضعه في موقف لا يحسد عليه كما يقال، يعبر عبد الرحمن بدوي عن ذلك بقوله :
( وهذا امر افزع محمد عبده، و كان في بيروت بسبيل ترجمة رد جمال الدين كيما ينشر في لبنان، لهذا امسك عن الترجمة و النشر صيانة لسمعة استاذه جمال الدين في العالم العربي و الاسلامي ) .
و ظل موضوع المحاضرة و ردودها محدود التداول حتى قدم مصطفى عبد الرازق محاضرة بتاريخ 20/3/1923في الجامعة المصرية عن الافغاني و رينان، بعد ذلك نشرها بحلقتين في جريدة " السياسة " اليومية المصرية، بانيا مادته الكتابية على ترجمة عن اللغة الالمانية، ذكر فيها ان الافغاني كان مختلفا عما عهدناه في رده على رينان.
لم تنقطع الاشارات الى محاضرة رينان، بل انها تظهر بين الحين و الاخر، سواء للمحاضرة او لموقف الافغاني منها، حتى اثارها بشكل صاخب المفكر المصري لويس عوض ، اذ نشر سلسلة مقالات تحت عنوان "الايراني الغامض في مصر" امتدت هذه المقالات على مدى ستة اشهر بمجلة التضامن الصادرة في لندن للفترة من 16/4 الى10/9/1983 و قد احدثت ردود افعال واسعة نشرتها جريدة الاهرام المصرية، التي قد استقال منها لويس عوض لأنها امتنعت عن نشر المقالات عينها، كان تحليل الدكتور لويس عوض مختلفا، قال فيه ان الافغاني قد نشأ نشأة شيعية ومنهم تعلم التقية و القول بالباطن و الظاهر، و انه تلقى تعليمه على ايدي الشيعة والبهائيين، و ان الافغاني كان ينظر الى الدين مجرد دافع محفز للجماهير الجاهلة و تجييشها للمطالبة بالاستقلال، و يبدو ان رأيه هذا اثار حفيظة الكاتب محمد عمارة ، فكان من ابرز الرادين عليه، بل اصدر في ذلك كتابه " جمال الدين الافغاني المفترى عليه " يرد فيه على لويس عوض ويبدو ان محمد عمارة لم يطلع على الدراسات الأكاديمية الجديدة التي نشرت حول الافغاني حديثا، حتى تلك الوثائق المهمة التي نشرتها جامعة طهران سنة 1963 و كان اغلبها بخط يده و منها اوراقه الرسمية .
بشكل عام، يبدو ان الافغاني كان يميل غالبا الى شخصية " الداعية " فهو ليس باحثا، ولم يشغل نفسه بالتأليف، و لم يكتب بيده غير كتابين صغيرين، يعرض آرائه بخطبه و محاضراته، فقد كان يمتلك حضورا كارزميا مؤثرا، و في هذا ينقل الدكتور علي الوردي عن جرجي زيدان ان الافغاني( كان خطيبا مصقعا لم يقم في الشرق اخطب منه ) و هذا هو اسلوب الدعاة.
ان هذه المهمة ( الدعوة للنهضة ) انعكست على نشاطه الفكري و السياسي حتى اوقعت الكثير ممن يعرفه و يتابعه في الايهام و الحيرة، يقول رشيد رضا عنه ( تخالف الناس في امره وتباعد ما بينهم من معرفة حاله و تباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه.) وهذا ما اكده الدكتور علي الوردي، الذي خصص ملحقا لفصول الجزء الثالث من كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، استنفد منه اثنين وستين صفحة تناول فيه و بالتفصيل، حياة الافغاني بكل محطات حياته و نشاطه الفكري و السياسي لكن الغريب ان الوردي لم يشر الى مناظرة الافغاني مع رينان، من بعيد او قريب وهذا مما لم نعتاد عليه في قراءتنا لكتب الوردي، لكنه يقول بهذا الخصوص: ( و الملاحظ بوجه عام ان الافغاني يعد من رجال التاريخ الذين يكتنفهم الغموض، فتفاصيل نشأته و كثير من اعماله و جولاته لا تزال تحتوي على بعض الاسرار )
و من الجلي ان هذا الغموض قد اكتنف مذهبه و طائفته و قوميته، الّا انه كان واضحا في تعاطيه مع طرح ارنست رينان من اراء حادة في الاسلام و العرب، و كان رده هادئا متزنا متفهما يعكس مقدرة عالية للحوار، مبتعدا عن التزمت المعهود عند معاصريه من الاسلاميين، و هذه خصلة عرف بها الافغاني ( كان الافغاني غير متزمت في عقيدته الدينية على نحو ما كان غير متزمت في سلوكه ) و بها الزم رينان بمراجعة احكامه العرقية السابقة، مبينا ان العرب اخذوا علوم الفرس و الاغريق والرومان، واضافوا عليها الكثير، وهذا هو التثاقف الانساني، و هنا نجح الافغاني في توجيه انظار رينان صوب مفهوم الهوية الثقافية للشعوب والامم الاسلامية التي يسجل النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي دعواتها المتصاعدة للنهضة؛ وقتها احتدم الصراع بين دعاة الحداثة و الخط الديني التقليدي، و في رده على ما ذكره رينان في مقالته من ان علة تخلف العرب و المسلمين هي علة بنيوية متجذرة في العرق و الدين، بيّن الافغاني ان التاريخ الاوربي قبل غيره، اثبت بطلانها، فهنالك امل في ان يحطم المسلمون اغلال العبودية و التخلف و الانحطاط وانهم سيبلغون المدنية مثلما وصلها المجتمع الغربي الذي لم تمنعه مسيحيته و تعصبها ( لا، لن اقبل ابدا ان يستثنى الاسلام من هذا الرجاء، اني ادافع هنا في وجه السيد رينان، لا عن قضية الدين الاسلامي و لكن عن قضية بضعة مئات من الملايين من البشر لولا هذا الامل لاضطروا ان يقبعوا ابدا في التوحش و الجهل ) و هنا يتضح ان صبغة ما عرضه الافغاني هي صبغة نهضوية سياسية يقدمها للانتجلسيا الفرنسية لكسب تأييدها لمشروعه، تحمل مبرراتها الواقعية التي اثارت استغراب اصحاب المشروع الاسلامي التقليدي
( وبما ان خطاب الافغاني كان خطابا سياسيا في الاساس فأنه كان يتكيف بحسب الجهة التي يتوجه اليها ) انه اتبع المراهنة على العلاقات السياسية بين الدول التي تمتلك السطوة آنذاك، فكان هذا (التكتيك) مدعاة لأتهامه بالعمالة، لكن هذا الاسلوب كان معروفا بين المشتغلين بموضوعة النهضة الاسلامية و التحرر من النير الاستعماري، و كان الافغاني اكثرهم جرأة و اقداما في التعامل مع روافد مختلفة جعلت آراءه بالضرورة تكون مختلفة عن السائد في احايين كثيرة مصطدمة بنزعات المحافظين في كل صوب فهو لم يبرح المضمار السياسي وعدائه للاستعمار البريطاني، الأمر الذي قاده لكتابة الرد "على الدهريين" الذي الفّه باللغة الفارسية يرد فيه على "السيد احمد خان" الذي كان يحث المسلمين على الأخذ بأسباب الحضارة و مواكبة النهضة العلمية بالانتفاع من الوجود البريطاني في الهند، و من علومه، حتى اطلق عليه خصومه (النيجرية) نسبة الى المفردة الانكليزية ( nature)اي المؤمنين بالطبيعة دون الله ، ان هذا الموقف غريب من الافغاني، فكيف له ان يدخل بخصومة مع مصلح آخر؟ و لا تفسير لذلك غير العداء لبريطانيا، اذ كان الموقف من بريطانيا هو البوصلة التي تحدد مساره السياسي في تلك الفترة، بل قاده ذلك الى السخرية من نظرية دارون بطريقة البسطاء من الناس الى الحد الذي دعاه للقول ( وعلى زعم دروين هذا، يمكن ان يكون البرغوث فيلا بمرور القرون ....) و لا يمكن ان يفسر ما كتبه الافغاني في كتابه هذا، الّإ من باب الخصومة السياسية، لأن اتباع احمد خان في الهند يؤمنون بنظرية التطور و الارتقاء التي اطلقها العالم البريطاني الاشهر
" جارلس دارون "و التي احدثت في حينها تغيرا كبيرا في التعامل مع القناعات المتوارثة.
اما موقفه من حركة المهدي في السودان ضد الاحتلال البريطاني، لم يخرج عن اطار موقفه من الانكليز، ففي الايام 8 ، 11، 17/12/1883 نشر سلسلة من ثلاث مقالات في صحيفة الانترانسجيان الفرنسية حول حركة المهدي السوداني لكنه من جانب آخر، لم يبد اهتماما يذكر بالاستعمار الفرنسي للجزائر سواء في الصحف الفرنسية او في صحيفته " العروة الوثقى" التي كان يصدرها مع محمد عبدة في باريس ، فهل كان ذلك تكتيكا براغماتيا؟
ان ما عرضه رينان من افكار لم يكن شاذا عن ثقافة عصره في اوربا كما سلف، و قد جاء رد الافغاني متساوقا مع سلسلة ردوده و خطبه كمدافع عرف ببلاغته و قوة شكيمته، و الذود عن مشروع الاستقلال و التحرر، فلم يخرج عن المعهود كما حدث في "الرد على الدهريين" بل تبنى المنطق العقلي مثلما فعل رينان، وخرجا متفقين على تخلف العالم الاسلامي، واهمية الفلسفة في التعامل مع ثوابت الديانات للوصول الى مشتركات و قناعات تؤسس للتسامح و قبول الآخر، لم يكن دفاع الافغاني عن مفاهيم دينية بل هو دفاعا عن هوية ثقافية جامعة، يعتقد انها اللبنة التي يمكن ان تكون عماد الاستقلال السياسي للعالم الاسلامي و يعرب في الوقت نفسه عن تخوف و استشراف يعتريه قلق مبرر من استحواذ المتشددين على ميول الجماهير و بالتالي وقوفهم حجر عثرة في طريق الطروحات التنويرية، كأن المستقبل يبدو امام عينيه مثل كتاب مفتوح يقرأ فيه المسار الاصولي الذي سيلتقف ما شيده التنويريون في القرن التاسع عشر متوجا ازدهاره بالحركات الاصولية المتطرفة التي اسست للإرهاب في القرن الواحد و العشرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون