الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريا: تدمير التراث النصيري العلوي

نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..

(Nedal Naisseh)

2021 / 10 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي



غصت، وأبحرت بعيداً وعميقاً جداً، وبحبشت كثيراً، ودون استعمال أي من أدوات الغوص، في تلك "الكرتونة" (الخضارة* تلفظ غضارة) التي كانت مليئة بالبرغل المسلوق، ودون أن أحظى، بالمطلق، على قطعة، أو "نتوفة" أو "فرمة" لحمة، من المفترض أن تكون، كما درج الطقس العلوي النصيري، على وجه تلك الكرتونة، (الخضارة)، كانت فتاة فقيرة، ابنة لمعلم مدرسة مهترئ ومشحر ومنتوف نتفاً من الفقر والشحتفة والتعتير، قد جلبتها لي من "الحسنة" (عمل الخبر والأضحية عند العلوية النصيرية)، التي دأب أبوها على بذلها، وارثاً إياها عن المرحوم والده، وبعد أن ناولتني إياها، قالت وهي تشعر بحرج أشبه بالألم الغامض،: " تفضل عمي أبو محمد هاي من البابا، وبيسلم علي"، فقلت لها الله يتقبل منكم يا عمي، وكل عام وأنتم بخير".
غابت "فرمة اللحمة"، وزيت الزيتون، أيضاً، وهو أحد مكونات الخضارة الرئيسية، تماماً، عن تلك "الحسنة"، وهي عماد وأصل هذا الطقس النصيري العتيق والأصيل، أي الأضحية، التي يجب أن يـُضحى بها، ويأكل الناس منها، وكأن تكون أيفاءً لنذر، ما، أو إحياءً لذكرى دينية كعيد الغدير، وسواه من الأعياد النصيرية.
وهذه الحستة، وأحياناً "العيد" أو النذر، ولكل منها تعريفها، ومناسبتها، ونحن لسنا في صدده ها هنا، وبعيداً عن بعدها الديني والروحي، هي، بالنهاية، نمط من التكافل الاجتماعي، والمساعدة، وإطعام المسكين، أو الفقير، كانت شائعة، ويعتقد العلويون النصيريون، أنها تعود عليهم بالبركات والثواب في الدنيا والآخرة.
ويتوارث العلويون النصيريون هذه الطقوس أباً عن جد، ويلتزم الأبناء بذلك، حتى لو لم يكونوا مؤمنين، ومتدينين، وذلك من باب الوفاء، للإرث العائلي، ولإيمانهم ببعدها الاجتماعي التكافلي، وإحياءً لذكرى أمواتهم، وهناك اعتقاد بأن من يترك هذه التقليد وعمل الخير هذا، ويتنكر له ويهمله، ولا يقوم به، سيتعرض لكارثة ما، (وعكة صحية، حادث أليم، أو أزمة مالية)، ويعتبر تركها إثماً و"حرام" و"خطي" (خطيئة) كبرى يجب تجنبها رغم عدم القدرة، اليوم، على القيام والإيفاء بمتطلباتها.
الآن، ومع هذا الغلاء الفاحش، والهجمة النيوليبرالية المتوحشة غير المسبوقة التي تشنها تروستات مالية نهمة في الداخل السوري، والنهب، والفقر، والقلة، والجوع، والطفر والإفلاس والعوز، فقد بات شراء مجرد دجاجة، يعتبر مخاطرة كبرى، ومغامرة غير محسوبة العواقب، إذ قد يبلغ سعر الفروج الواحد (بين 15-20 ألف ليرة سورية أحياناً)، ما يعادل ربع، أو نصف الدخل الشهري لموظف عادي، أما الخاروف، والتيس، والعجل، فقد أصبحت أسعارها فضائية، ولا يستطيع إلا كل طويل عمر التفكير بالتضحية بها. وبات الصرف على، وإعالة عائلة بسيطة، وإطعامها، وإكفاؤها يستوجب ميزانيات ليست بمتناول ومقدور حتى من هم في عداد الطبقة الوسطى والتكنوقراط أي أطباء، مهندسون، ضباط في مراكز عادية، معلمون، محامون، أكاديميون (أساتذة جامعات وسواهم).....إلخ
وكان نظام التقدم والاشتراكية (رجاء ممنوع الضحك)، قد ألغى واحداً من أعرق التقاليد والطقوس العلوية في الساحل السوري التي تعود، حقيقة، لحقب ما قبل الغزو والاحتلال العربي والإسلامي وهو الاحتفال بعيد الزهورية أو مهرجان "عيد الرابع" الشعبي، وكان يقام في صنوبر جبلة، عند مقام الشيخ مقبل، ومن جملىة أسباب منعه الأخرى، كان تحسباً، وخوفاً، ومنعاً لقيام أية تجمعات، قد تتسبب بمظاهرات أو احتجاجات ةهذا كان محظوراً، تماماً، في ظل قانون الطوارئ الفاشي الذي تم إلغاؤه مع انفجار الأوضاع في ربيع 2، حيث كان التجمع لأكثر من ثلاثة أشخاص يتطلب موافقة أمنية تمر بقنوات معقدة وتستغرق وقتاً طويلاً للحصول عليها..
منذ ما يسمى بـ"ثورة البعث العربي الاشتراكي" التي قضت على الإقطاع والبرجوازية حسب فذلكاتها وخطابها وأتت بطبقة أوليغاركية جشعة، نهبوية مقترة شديدة البخل، ترحّم الناس بعدها على البرجوازيات المدينية القديمة التي سـُلبت ممتلكاتها وتم السطو عليها بحجة التأميم الاشتراكي، لم تقم الطبقة الحاكمة الجديدة، ولحسابات خاصة، ببناء مرافق حيوية أو جمعية خيرية واحدة، أو معمل إنتاجي أو مشروع استثماري في عموم مناطق النصيرية العلوية، بل كانت تسعى لمراكمة ثرواتها وزيادتها والاستفادة من مكرمات ونعم وامتيازات السلطة الاستثنائية الممنوحة لها.
وكسائر شرائح المجتمعات والشعوب السورية، لم تعد هناك طبقة وسطى، واختفت تماماً من الوجود عند النصيرية العلوية، وهناك عائلات كانت ميسورة تم إفقارها، ودخلت لوائح وخانة الفقر والإملاق، فيما تشكلت طبقة علوية عريضة مدقعة الفقر وطبقة قليلة جداً من أثرياء السلطة وفوقهم الطبقة الأهم وهم ممثلو وواجهات مالية و"بزنس" لشخصيات كبيرة بالنظام، صار لها حظوة كبيرة واستثنائية ولا أحد يعلم بالضبط مقدار ما تملك فيما تعيش شريحة شعبية واسعة من الشعوب العلوية تحت وطأة الفقر والقلة والحرمان.
أصبح ذاك الإرث والتراث والتقليد والطقس العلوي التكافلي الجميل، تقريباً، في حكم الماضي، او في طريقه للاندثار والزوال وقد لا تبقى منه سوى القصص الجميلة والذكريات الطيبة، وأعتقد أنه سيندثر تماما، إن ما استمر الإفقار الممنهج المرعب على ما هو عليه، وقد لا يكون له أي وجود خلال عقد قادم، وسيختفي تماماً مع ازدياد معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأعمال وتراجع قطاع الزراعة وانخفاض القدرة الشرائية وانهيار قيمة العملية وتنامي سعار الاحتكار ونهم الاستحواذ وجشع التملك الجاري الآن.
وكله كوم، وأولئك الذين يتحدثون عن "نظام علوي"، و"علوية سياسية"، و"مجلس ملـّي مزعوم"، كوم آخر، هو أكثر بؤساً ووقعاً، وأشد غضاضة على النفس، وشفقة، من حال تلك الفتاة المشحـّرة، وأبيها المنتوف، (المصر على إحياء الطقس)، والتي أتتني بـ"خضارة" برغل مسلوق سادة، بدون أي "فرمة" لحم تعلوها تسد نهم وتوق وشوق متلقيها لممارسة طقس علوي تكافلي اجتماعي رومانسي قديم.
*كانت الخضارة عبارة عن وعاء فخاري يوضع فيها البرغل مع قطعة لحم تعلوه، الآن، ومع التحولات والانهيارات الكبرى استبدلت بطبق من الورق المقوى عليه ورقة سيلوفان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس