الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام من سراب...... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 10 / 5
الادب والفن


نشرت الشمس غدائرها الصباحية لتوشّح الحقول والبيوت، وبدت وجنات التلال وضاءة يلثمها النور، واستقبلت الأشجار أعراس الطيور والبراعم، وتوزع الفلاحون نساءً ورجالاً في الدروب، يُتَمتِمون بالدعاء والبركة، يتوضّؤون برائحة الزروع، كأن تعبهم صلاة في رحاب الطبيعة.
تصحو سمحة مع الشروق، تهيّء بناتها السبع، تجدل شعورهن، تزينها بملاقط ملونة، تصنع لهن عرائس خبز التنور بالزيت والزعتر، أو الجبن والنعنع، ليحملن حقائبهن متوجهات إلى المدرسة.
يخلو البيت من (نغوشة) البنات، ويبقى شخير عباس يملأ أذني سمحة، التي تمنت أن تكون واحدة من البنات الذاهبات إلى المدرسة، كان يبعث في نفسها الخشية والتقزز، فاسترجعت هيجانه وغضبه الليلة الماضية، حين طلبت منه أن يسمح لها بحضور دروس تعليم الأميين مع عدد من نساء البلدة، ووعدته أن تذهب إلى الحقل، حالما تنتهي من الدروس، رجته، توسلت إليه كي لا تفوتها فرصة التعلم.
انتعل وجهه الغضب واللؤم، وبدا كأنه مغبر في عجاجة صحراء، قذف من فمه سياط الكلام، الذي ألبسها ثوباً من الشتم والقهر والذل، هددها بجملة من الكلمات التي اعتاد لسانه تكرارها، حتى صارت لازمة يطلقها إثر كل حديث بينهما، أوصاها أن تنهي حصاد حقل العدس قبل فوات الأوان، وإلا سيتزوج امرأة تلد له الذكور، وليس مثلها لا تلد إلا الإناث.
صارت تمقت الحديث معه في أي شأن، لكي لا تسمع هذه اللازمة الكريهة، يرددها أمام الناس كل يوم، كأنه سيفتح حصون الأعداء.
تسلحت بمنجلها، لفّت ثوبها حول خصرها، وأسندت ظهرها المتعب بكفها، وركبت الدرب مشيا، ولايزال يتردد في أذنيها صوت شخير زوجها عباس، رغم ابتعادها بين حقول الشعير والعدس، التي لوحتها الشمس بسياطها اللاهبة.
ليلة البارحة، طلبت منه أن يرحم توجعها وهي في شهرها السابع من الحمل، تشعر بآلام ثقيلة في أحشائها، وحركة تتكرر داخلها منذ أيام، تنبئ عن حدوث مخاض جديد، نهرها ووبخها، مدّعيا أنها تعرض أساليب دلالها الممجوج بالنسبة له، فهو يعرف أن وقت مخاض ولادتها بعيد.
مشت بإصرار، تتعثر وتنهض، وحين يشاهدها المارون في دربها، ينصحونها بالعودة إلى بيتها لتستريح، رغم علمهم أنها مغلوبة على أمرها مع زوجها المهووس بالعزة الفارغة، وهو يسعى ليكون وجيها في البلدة، يحلم بها كما يحلم بولد ذكر، يتصور أنه وحده مركز لحل مشاكل الناس وقضاياهم، فكيف يلوث كفيه بتراب محصول العدس وشوكه؟ يرمي بأعمال البيت والحقل على زوجته، لأنه يظن أنه في مركز من المسؤولية العامة، ولا يليق بمثله أن يلطخ يديه وثيابه وهيبته بغبار العدس والشعير، يقضي ليله ساهرا، يحيط به عدد من الرجال، وهم ينفخون فيه التميز والتفرد، ويخوضون في أعراض الناس وسلوكهم، ويطلقون عبارات يظنون أنها أحكام نهائية، وعلى المجتمع في البلدة تنفيذ ما يقررون.
استيقظ من نومه منتصف النهار، كان يحيط به عدد من الأصدقاء اللاهين، يلعبون الورق، يقتلون الوقت، في حين تنهمك زوجته بجد متحاملة على أوجاعها ومخاضها لتأكل بمنجلها المحصول، ثم تجمعه كوما متباعدة، تعمل بلا استراحة، لا فرق بينها وبين دابة البيدر، التي تجر نورجا تلفّ به وتدور طيلة يومها، كانت مهدودة مقهورة، تتوزع نفسها بين بناتها وطموحها بالتعليم لتمحو أميتها مثل كثيرات من نساء البلدة، وبين الانتظار والرضى بما هي فيه، فهذه قسمتها ولا تقدر أن تحتجّ أو ترفض، لكنها مع ذلك كله تنتظر الفرج، كل يوم ينمو الأمل في نفسها، مثلما ينمو الجنين في أحشائها، ستثبت لزوجها وللناس، أنها تستطيع أن تلد له ولدأ ذكراً، وعندها سيتوقف عن ترديد كلامه الحارق لصدرها، الذي تحسه الآن يطن في أذنيها، مثلما يدوي شخيره المقرف، كأنه الصدى.
تتذكر صباها، يوم كانت أجمل بنات البلدة، يحسدنها على حسنها، ويتهافت الراغبون الزواج منها، أغلب صديقاتها يتوقعن لها حياة رغد ودلال عند رجل يحبها ويقدّرها ويهتم بها.
بدأت تغني من خلال دموع عنيدة، تسلّي نفسها بصوت خفيض، كانت الحسرة تلتهم رئتيها، وراحت الشمس تتكئ على عكازة المغيب، وهي بعيدة عن الحصادين والفلاحين، منعزلة وحدها، أحست بشيء من الإجهاد فاستراحت إلى جانب كومة عدس كبيرة تستظل بها، وشعرت بجفافٍ في حلقها، ومرارةٍ في فمها، وتيبّسٍ في شفتيها، شربت بقايا ما أحضرته معها من ماء، كانت معدتها خاوية فهاجمها دوار، ولم تعد قادرة على تثبيت رأسها أو نظرها، تقيأت لا شيء، حاولت جاهدة أن ترى الطريق البعيدة، كأنها تستجدي أي مخلوق لتستند إليه، فامتلأ المكان بصدى الشخير، يتخلله ألفاظ مُرة، التهديد والوعيد، تقيأت مرة أخرى لا شيء، تمددت، وضعت حجرا تحت رأسها، ثم أغمضت عينيها، لعلها ترتاح قليلاً، لكن آلام المخاض فاجأتها، فكبتت صرختها، وعضّت راحة كفها حتى أدمتها، جمعت أطراف ثوبها وحشته بين أسنانها، تقلّبت وتلوّت، أحست بآلة حادة تقطع كبدها، لم يرها أحد، ولم يسمع أنينها أحد.
بقيت مدة في صراع مع أوجاعها، ثم استكانت وغابت عن الوعي، وما عادت تسمع أو ترى أي شيء حولها.
عاد الناس إلى بيوتهم من حقول الحصاد يهد أجسادهم التعب، ويسعدهم العطاء القادم، وراحت الشمس تودع أصدقاءها، لتهييء نفسها لشروق يوم جديد، بينما كان عباس يصرخ في وجوه بناته، ويزعق شاتما أمهن الكسولة، حين رأى الناس جميعهم عادوا إلاّ هي، لا يشعر بما يطلقه من رصاص التوبيخ المجاني المرسل، كأنه جزء من طبيعة الوجاهة التي يسعى لنيلها.
يبدو قد تكدّس في لا وعيه خمائرُ حامضةٌ من القهر الذي عاشه في سنوات الطفولة تحت سلطة أب ظالم متخلف، فيقوم بإفراغ ما يحتشد فيه من حقد في وجه زوجته وبناته بأشد مما كان يعامله أبوه به، كأنه ينتقم لنفسه من أقرب الناس إليه، يجرب سلطته عليهن، ويجد سعادة في ظلمهن وعذابهن، وكثيرا ما يلقى تشجيعا واستحسانا من بعض المستفيدين أمثاله من أصدقائه المتخلفين اجتماعيا.
كان مساء هذا اليوم شاحبا متألماً، يتوحد في سداميات الكون فضاء من غبار بني مرعب، وتنشأ في الأفق حزم من سحاب داكن يغلف الشمس الزاحفة نحو المغيب.
تناثرت نجمات بلورية في ذهن سمحة، أبهجت مخيلتها ومضة الوداع الأخير، كأنها صحت للحظة، ثم غابت، أحست أنها تزف لعباس فرحا قادماً، تسكب فيه شهوة الغناء، ونسج الحلم، وإنبات الأمل، لكنه لا يستحقه فضاع.
صعدت الروح إلى ملكوت أيقظ جسدا من تراب وماء، كأنها تقول هذا ابنك، لقد منحتك الآن ميسما يحيل إليك فرادتي.
في هذا الوقت المسائي، يمرق بضعة أولاد، يتقافذون ويلعبون قريبا من رقدة سمحة، يسمعون صرخة وليد، يصغون باهتمام، بانتباه، يقتربون ببطء، يصرخون بخوف، ويركضون بلهفة بلا توقف حتى وصلوا البلدة، يلهثون وهم يزفّون الخبر لعباس، وأبلغوا كل من شاهدوه على الطريق او في البلدة، تجمع الناس بفرح ملأ الدروب والوادي، غنوا ورقصوا وزغردت النساء، وأحاط الصبية بعباس يطلبون مكافآتهم، فرشرش نقودا بلا حساب.
يكاد عباس يطير نشوة، تجمعوا حول سمحة، كان بين ساقيها مولود نحيل يغلفه التراب، حمله بكفيه فتدلى رأسه، وارتخت أطرافه كخرقة رطبة، قرّبه من وجهه، حدّق فيه، لم يجد أمله، كان مولودا ذكرا قد فارق الحياة منذ ودعته الشمس. حرّكوا سمحة، سقوها ماء، غسلوا وجهها، احتضنتها امها وصرخت بلوعة، بكت بناتها، وبكى ناس كثير، كانت أطرافها باردة جمُدت فيها الدماء، وتحول فرحهم وغناؤهم وزغاريدهم إلى نواح وعويل وأسى.
عمّ المساء كل الأمكنة، وأوت القبرات إلى أعشاشها، وتحولت نظرات الناس في ذهول إلى عباس، ترشقه بما تختزنه من احتقار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا