الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيد حجاب … عِشْ ألفَ عام!

فاطمة ناعوت

2021 / 10 / 6
الادب والفن


قبل عشرة أيامٍ، حلَّ عيدُ ميلاد الشاعر الذي غمسَ ريشتَه في محابِرنا ليؤرخ بها يوميات أفراحنا وأحزاننا. في دُويّ أرواحنا، كانت ريشتُه تسرقُ من مداد ضحكنا العزيز وسُهدنا الغزير وعشقنا الأبدي للوطن، ثم تكتب أغاني نهاراتنا وأشجان ليالينا. وفي دُويّ واقعنا كانت ريشتُه تجول في دروب مشاكلنا تتأمل همومنا، لتكتب مع الرفاق دستورَ بلادنا وترسم خُطى مستقبلنا. له ريشةٌ في محبرة عشقنا، وريشةٌ في محبرة فقدنا ووحدتنا. له ريشةٌ في محبرة فرحنا، وريشةٌ في محبرة حَزَننا. له في محبرة ميلادنا ريشةٌ، وحين نموت تقطرُ ريشته مدادها مع دموع الثاكلين. فكيف تغني الحناجرُ وقد صمت هذا الصوتُ الذي غرّدت العصافيرُ على حروف كلماته أوجاعَ المصريين وأحلامهم؟! للحياة مذاقٌ يغترفُ من مذاق أغنياته المشرقة بالحكايا والنغم؟!
على مقاعد الدرس، قرأنا في طفولتنا رواية "الأيام" التي كتبها "طه حسين" بدمِه ودموعه غازلاً على سطورها عذاباته واغترابه بين بشر واسعي العيون شاخصي المُقَل؛ لكنهم لا يُبصرون. بين حروفها، راح الكفيفُ المُبصِرُ يُغلق أبوابَ طفولته وصباه وشبابه: بابًا في إثر بابٍ في إثر باب. تجرّعنا الوجعَ والقنوط مع كل صفحة من صفحات الرواية . لمست أصابعُنا مع الطفل الضرير تضاريسَ السياج العُشبيّ الموحِش، وخِفنا مع الصبيّ الخائف من عواء الذئاب في القرية الساكنة، حين ظننا مثله أنها صراخُ العفاريت كما يقول الكبار. لم تنقشع غماماتُ اليأس وتُفتَح أبوابُ الرجاء واسعةً؛ إلا حين سمعنا الحكاية صادحةً بصوت الجميل الشجيّ "علي الحجار" على كلمات مايسترو الأغنية الاستثنائيّ عم "سيد حجاب". لاح أمام عيوننا شعاعُ الأمل في غدٍ أبهى حين تلألأت كلماتٌ تقول: "من عتمه الليل النهار راجع/ ومهما طال الليل بيجي نهار/ مهما تكون فيه عتمة ومواجع/ العتمة سور يجي النهار تنهار/ وضهرنا ينقام/ أيام أيام أيام...”
كيف تكوّنت تلك الموهبةُ الفريدة: "سيد حجاب"؟ تكوّنت على صوت هدير الماء وتلاطم الموج ورائحة اليود الشهية، وزرقة البحر وبياض الزبَد.
على ضفاف بحيرة المنزلة، كان والد الطفل "سيد حجاب" يجالس الصيادين في أمسيات الشتاء القارسة يتدفأون على لهيب الأخشاب ويُلقون الشعر. ومثلما كان كلُّ صيّاد يُلقي شِباكه في بحر النهار ليلتقط رزقه المقدور من رزق البحر، كان كلُّ صياد إذا جنّ المساءُ يُلقي قصيدتَه تحت عتمة الليل ليلتقط الرفاقُ من رزقه الروحي. ثم يحتكمون أيُّهم يفوقُ الجميعَ في تأليف القصيد وقراءته. وكان الطفلُ النابه يُنصِتُ في صمت، ويُدوّن في كراسته ما يجود به الصيادون من نزيف أرواحهم أغاني وقصائدَ. فإذا عاد إلى بيته واختلى بنفسه في مأمن من عيون الناس، أخرج شَبَكته/ كراسته، وألقى ما بها من رزق وفير، يحاول أن يُحاكي ما استمع إليه في الصباح. يكتبُ قصائده الصغيرة، ويُخفيها عن عيون الرقباء. حتى جاء يومٌ قرّر فيه أن يُطلع أباه على قصيدة كتبها عن شهيد غدرته غدّارةُ الغدر. فأعجب أبوه بما كتب صغيرُه وشجّعه على المضي في دنيا القصيدة. ومن يومها راح يسطر مشاعر أبناء قريته وأحلامهم وأحزانهم في أغنيات عذبه، حتى صار مع الأيام هذا الهرم الشعري الأكبر: "سيد حجاب”. أفخرُ أنني حضرتُ صالونَه يومًا، مثلما أفخرُ أنني تتلمذتُ معماريًّا على يدِ شقيقه المعماري الكبير "صلاح حجاب"، حين عملتُ، بعد تخرجي من كلية الهندسة، في مكتبه مع المهندس الكبير "حسين صبّور"؛ فتعلّمتُ كيف تكونُ العمارةُ قصيدةً، وليست بنايةً نسكنُها. وأفخرُ أنني صديقةٌ لشقيقيه الرائعين: عاشق المصريّات اللواء "جمال حجاب"، والشاعر الغنائي الكبير "شوقي حجاب".
رحل عنّا "سيد حجاب"، ولم يمت، ولن يموتَ. وهل يموتُ من قال: “تحت نفس الشمس فوق نفس التراب/ كلنا بنجري ورا نفس السراب/ كلنا من أم واحدة/ أبّ واحد/ دم واحد/ بس حاسين باغتراب/ من حنان الحب هلّ الغلّ جانا/ من مرارة الغل جلجل صوت رجانا/ نبكي من الغل اللي بيعكر حياتنا/ واللا من الحب اللي هدهدنا و شجانا/ يا زمان الغربه ليلك بيحاصرنا/ وفي ظلامه المر طوانا وعصرنا/ بس طول ما الحب بيرفرف علينا/ الجدور هنمدها ونصنع مصيرنا/ كلنا من أم واحدة/ أب واحد/ دم واحد/ بس حاسين باغتراب.”
يا عمّ "سيد حجاب"، مهما رحلتَ وأمعنتَ في الغياب فأنت حاضرٌ لا تغيب. فقد تركتَ ابتسامتك على جُدُر قلوبنا، وكلماتك في دستورنا، وأغنياتك على أحبال حناجرنا.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللهم كما علمت آدم الأسماء كلها علم طلاب الثانوية من فضلك


.. كلمة الفنان أحمد أمين للحديث عن مهرجان -نبتة لمحتوى الطفل وا




.. فيلم عن نجاحات الدورة الأولى لمهرجان العلمين الجديدة


.. نجل الفنان الراحل عزت العلايلى يتعرض لوعكة صحية.. وهذا آخر م




.. فيلم تسجيلي عن نجاحات النسخة الأولى من مهرجان العلمين الجديد