الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طفرة الخروج ... التجاوز و التجديد في قصيدة النثر المعاصرة

محمد سمير عبد السلام

2006 / 8 / 22
الادب والفن


تجسد قصيدة النثر الأداء الإبداعي في خروجه المستمر من مقولات النوع و الذات و اللغة المقبولة ذات البعد الخطابي الواحد في عملية الاتصال المعقدة ، و التي تطرح إشكالياتها في الساحة الثقافية حتى اللحظة الراهنة ، دون قبول كامل للشكل التحويلي للدلالة أثناء القراءة ، ومن ثم حل الفواصل بين الأداء النصي و أداء القارئ ، و لكن قصيدة النثر العربية المعاصرة قدمت أكبر تحد لنموذج القراءة القديم ، لأنها لم تختزل في خطاب و لم تنسب نسبة كاملة إلى تيار الحداثة و ما بعدها ، فهي منتجة لما يستبق أي طبيعة يمكن أن ترد إليها و للتحول من تلك السمات التي ميزتها في نص بعينه أو جيل إلى ما يتجاوزها إلى غيرها .
لقد أفادت قصيدة النثر من تحرر الكتابة الأوتوماتيكية اللاواعية عند بريتون و غيره ، لتجسد الاستبدال و التكثيف في عوالم الحلم ، و من ثم فقد وضعت القصد موضع الشك ، ثم تجاوزت اللاوعي ضمن إطار الذات في اتجاه أسبقية التداعيات النصية المميزة للرسالة الشعرية دون غيرها ، فارتفعت عن آليات اللغة الاتصالية التي تختزل الإنسان و العالم في مدلولات محدودة ، لقد خرج النص عن مركزية الصوت الشعري و صار الوعي المتعالي منتهكا وفق كريستيفا و بارت من داخل بحثه عن خصوصية شعرية .
و قد صار توتر الاسم و علاقة النص بالصوت موضوعا لكثير من قصائد رفعت سلام في ( إلى النهار الماضي ) و ( هواء قديم ) لمحمد سليمان و غيرهما .
و قد نلاحظ أن الخروج من الشعرية الذي بدأ بانتهاك الوعي التعالي يستبدل إطاره الفلسفي و ينتج كتابة لعبية ملتبسة بالوجود الواقعي / السيري بوصفه إكمالا للنص و الأسطورة على حد سواء ، و انتشار الأطياف التي تجمع بين الوجود و الغياب معا ، ثم التأويل الأنثربولوجي للإنسان خارج نطاق خطاباته الأولى ، و الإعلاء من تفتيت المركز و الكشف عن ألعابه المحتملة في تجسدات الأشياء الصغيرة خارج سطوة المنظور و النزعة الإنسانية برمتها ، فلهذه الأشياء طاقة تكوينية خاصة تؤثر في قراءة المشهد و تعيد إنتاجه ضمن تفاعلها المتجدد بالعناصر التراثية و الإنسانية دون مركز ، و الكشف المتجدد عن نوازع التدمير الغريزية عند فرويد أو الديونيسيوسية لدى نيتشة ثم الاستبدال اللامتناهي عند دريدا في الكتابة الأولى ، و الشك في الآخر المخبر عنه في النص ، و في مركزية الوعي الراصد الذي صار قارئا في بعض النصوص لا منتجا مثل نصوص ذاكرة الوعل لفريد أبو سعدة ، و القارئ / المبدع وفق هذا التصور يجمع بين الأسطورة و الواقع و ما فوق الواقع و النصوص الثقافية المجهولة و المعلومة خارج أي سياق معرفي ، و لكنه سياق تأويلي متغير يناظر إشارات هيدجر و جادامر و بول ريكور ، و عند هذه النقطة من الممارسات النصية المتجاوزة للمدلول و الواقع و المنطق الإنساني المركزي في التفكير تتحول قصيدة النثر من الحداثة و الحداثة العليا إلى ما بعد الحداثة و ما بعدها ضمن صيرورة الخروج و التجاوز التي بدأت منها .
و بهذا الصدد أتفق مع الدتورة ماري كلاجيز Mary klages في أن ما بعد الحداثة لا تأسف من أفكار التجزؤ و تفكيك المركز ؛ ذات أو نص ، خلافا للحداثة Modernity التي تقرن انعدام التوافق الذاتي بالأسى (1) .
هكذا يكون التناقض و الانتشار الخارج عن المدلول الأول مقبولا و يؤسس لقارئ منتج جديد ، أو مؤول لا يبحث بالدرجة الأولى عن ما يدور في مخيلة المؤلف ، بل يشارك فيما يسميه هارولد بلوم بالقراءة الضالة المبدعة ضمن صيرورة الدال .
و قد لاحظت ثلاث ممارسات ذات أهمية كبيرة في رصد صيرورة الخروج في قصيدة النثر العربية و المصرية ، هي الغياب ، و اللعب ، و امتزاج الثقافات عند ثلاثة شعراء ؛ هم محمد سليمان و علاء عبد الهادي و محمد فريد أبو سعدة .
أولا : الغياب في سرد الآخر :
تبدو لذة الغياب واضحة عند محمد سليمان في ديوان ( أعشاب صالحة للمضغ ) من خلال التشكيك في الذات الإنسانية الفاعلة ، تلك التي تملك ذاكرة للحضور السيري دون حضور ، إنه الغياب الذي يملك الإغواء بالتدمير ، و استباق الوجود في بديله الشبحي المغاير ، الذي يؤدي السرد باسم الذات الأولى المقتولة في فاعلية الشبح البديلة ، و المتحولة في ظلالها الممتدة في النص، و الواقع و المادة الكونية / الماء :
" في الصباحات / حين تقوم البحور إلى غاية / سوف يصحو ... / يرمي إلى شاطئ جثثا / و ظلاما له ملمس الوحل / ثم يغوص / يظل يغوص / يفتش بين السماوات و الموج عن شبح " (2) .
لقد استبق الصوت الحضور بغياب الصوت من الجثث ، فتلاشى الحضور من داخل حركة الغياب و طاقته التأثيرية ، و من ثم تولد الشبح من طاقة الغياب المجردة من فاعلية الفاعل ، من تناقضات التكوين البشري حين يواجه أطيافة في الآخر / البحر ، ففي ذاكرة البحر المخيلة يكمن البطل ( إحاب ) فيما فوق البحر في طاقته المغيبة لوجوده الظاهر :
" ربما مثل آخاب يبحث عن سيد / سابح في الوقار / له الريح و البحر / و الصمت و النور / حوتا يسد شبابيكه / لن يصيد / .. يسمع عزفا على الماء يبكيه / يستله من مدار / و يحشوه / سوف يطارد / يصطاد ظلا " (3) .
إحاب يمثل دورا جديدا في سياق الغياب الشبحي للصوت ، يتحول فيه الحسد الملازم للطوطم ، إلى أداء للصيد دون غاية سوي البحث عن سيادة الشبح / الغياب ، ففاعلية إحاب الجديدة مجردة من القوة ، تنفك ذاتيا من الغياب الكامن في تكوينه ، في الإصابات القديمة بجسده الذي يغيب هنا ليستبدل حسد التجسد المطلق لموبي ديك / الحوت الأبيض في رواية ملفل ، أما البحر فقد غاب في النص و التراث المؤول مثلما غاب النص في البحر ؛ فأفقد الفاعل فاعليته ، و لكن بقي السرد كتفاعل للطاقات الطيفية الأدائية .
ثانيا : اللعب و الانتشار الدلالي :
يكشف علاء عبد الهادي في ديوان ( معجم الغين ) عن لعب اللغة و لعب العالم معا في تكوينات حرفية / فوق تصويرية ، تستبدل العلامة بطاقة الدال / المختلف و الخارج دوما عن حده الصوتي ، أو الميتافيزيقي ، فمعجم الغين مرح للغين ، و لعب بالسرديات الصغيرة في حركتها التفاعلية المدهشة ، إننا أمام مواجهة مع الكون في انعدام وضوحه الأول ، خارج التأصيل لحقيقته المتوارثة ، و قد كتب بودريار حول هذا الملمح المعاصر في الفكر و ميزه بخروج الأشياء من خطاب الحقيقة ، و من حدود إدراكها المعرفية في اتجاه طلب للتشبيه و مواجهة جديدة يختلط فيها الواقع بتخييله في آن . و طبقا لبودريار، فدائما ما تشير الحقائق إلى عدم ، و خسارة كامنة في المعاني الظاهرة (4) .
من هنا كان الاختفاء في معجم الغين أقرب إلى اللعب الخفي لوجود الأشياء الآخر ، في نص الغابر يقول :
" الباب يدق / فمن سيفتح ساعته للفراغ / في وهن الهواء / ستسلم الحجرة حيطانها لضيوف يتركون عليها ظلالا حميمة " (5) .
الظل تأويل لاختفاء الوجود الكامن في الوجود الواقعي نفسه ، فالظل / الأثر يلعب في فضاء الحيطان الفارغة من منظورها المجرد من الإدراك بوصفه معرفة ، و لكنه رصد التشبيه كوجود متحول خارج مدلوله الإنساني .
و قد يبدو الاختفاء تأجيلا للوجود برمته رغم أنه أتى كتأويل له في النص السابق ، ففي نص الغارة يقول :
" الليل يخاف / لذا الليل أسود / يستتر خلف الأشياء دون مسمى / و حين يسميها النور / يموت " (6) .
كيف يطلب الاختفاء اختفاءه ؟ الليل يخاف و هو مصدر للخوف عند من يطلبون حقائق النهار . هل كان استبدالا لنهار يطلب اكتشافا آخر للاسم ؟ أم أن الليل اختفاء خلف الاختفاء الكامن في الظاهر، و هو الأشياء حين تفقد مدلولها، و تشبه الليل الذي يحاكي الاختفاء ؟
ما الموت ؟ هل هو المعرفة ؟ الاسم ؟ المدلول ؟ إن الوجود هنا لعب بالاختفاء المضاعف لليل و الأشياء ، يقاوم حدود النور بالموت كأداء مؤقت في لعبة الاختفاء التي يصير فيها منظور الفاعل خلفية مهملة تطلب تفاعلا حرا للتجسد خارج الحدود .
و قد تلتحم الأشياء الصغيرة في معجم الغين بلعب الكتابة الأولى عند دريدا Derrida ، فتختلط دلالاتها بالآثار الأخرى المؤجلة لمدلولها التكويني ، فيصير الأثر هو البديل عن المركز رغم أنه يسمى باسمه ، فالمكنسة تؤسس لما يناهض المكنسة من داخلها ؛ و هو عضو الذكور ، و سجادة الصلاة تنتقل في بساط أسطوري طائر .
يقول : " الزعنفة تئن في الطبق منذ يوم / الموقد يخشى النار / المكنسة تخاتل الهواء / سجادة الصلاة تفر / الثلاجة تصب البياض على الحاضرين " (7) .
إن سرد الأشياء الصغيرة يحتل فضاء المنظور احتلالا مؤقتا؛ ليكشف أنه مجرد موقع أو فراغ مستبدل بالبياض الهاذي ،أو طاقة الهواء ، أو صراخ الزعنفة الحامل لتاريخ العبث .
ثالثا : امتزاج الثقافات :
يجمع فريد أبو سعدة في ( ذاكرة الوعل ) تصورات ثقافية ، و نصية متباينة خارج نطاقها الخطابي الأول ، بحيث يصير المقتطف مؤولا لخطابه لا تابعا له ، و عند هذه النقطة من التداخل بين المركزي و الهامشي ، و المحلي و العالمي يصير النص قراءة مفتوحة لبنيته الانشطارية الحوارية في آن ، فهي انشطارية / ما بعد حداثية ؛ لأنها تحتفي بالجمع بين الطرز المختلفة في تجزؤها و لعبها ؛ و حوارية بمعنى يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها . و يطلق عليه إيهاب حسن beyond postmodernism و يميزها بالتداخل المذكور آنفا .
و تبدو الثقافات المختلفة هنا متحررة من الوعي في حركتها فوق المعرفية في اتجاه تفاعل مفتوح ، و لننظر إلى هذه الفقرة من الديوان التي تجمع بين الميدوزا الإغريقية التي تحول ما يقع عليه بصرها إلى حجر و نص ثقافي مجهول و النزوع النيتشوي لجمال التدمير الديونيزي، و انفجار الصمت كبديل للموت في تكوين ثقافي واحد :
" في مخطوط قديم وصف جواب آفاق عينا سقطت من السماء و ظلت تتحرك ، فكل ما وقعت عليه صار حجرا ثم تحولت هي بعد ذلك إلى حجر كريم " (8) .
لقد أتى السرد كفاعلية لغياب العين في حالة التحجر المناهضة للطاقة التدميرية الفائقة .
الهوامش :
راجع /
Mary klages - postmodernism on:
http://www.colorado.edu/English/ENGL2012Klages/pomo.html

راجع / محمد سليمان / أعشاب صالحة للمضغ / الهيئة العامة للكتاب 1997 ص 83 و 84 .
راجع / السابق ص 84 و 85 .
راجع /
Jean baudrillard - radical thought on:
http://www.uta.edu/english/apt/collab/baudweb.html
5 - راجع / علاء عبد الهادي / معجم الغين / هيئة الكتاب / 2002 ص 8
6- راجع / السابق / ص 87
7 - راجع / السابق / 89 و 90 .
8 - راجع / فريد أبو سعدة / ذاكرة الوعل / هيئة الكتاب 1997 ص 95 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع