الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كابوس ثقيل جدا...قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 10 / 9
الادب والفن


ما هذه المدينة التي أنا فيها؟ كأنها مدينة عربية، بعض صفات تميزها تدل عليها، ومن هذه المرأة التي ترافقني؟ إنها تشبه زوجتي، لكني لم أتذكّر أني اصطحبتها
معي.
كنت أمشي في شارع طويل، تحف به أشجار الزينة، ولم أشعر بمن حولي، وعند بداية شارع فرعي، التقيت صديقي عبد الله السليم وزوجته، ترافقنا بفرحة جعلتني
أطمئن.
الحياة في المدينة تسودها موجات من الصخب والزحام، نشاهد أفواجا من الناس يصعدون في زقاق ضيقة مرصوفة بحجر روماني، ثم يتجه نحو مرتفع يقلّ فيه البناء، وتكثر المروج، مروج خضراء تحف بها مياه آسنة وحفر كثيرة.
وصلنا القمة، لم أعد أرى زوجة عبد الله، فتنبهت للأمر وخفت، بقينا ثلاثة، صار المكان يبعث في نفسي ريبة، وتولّد لدي إحساس بأن شيئا ما يحدث فيه، لكن يبدو لي أنه مشروع ومباح، فأنا لا أعلم بوجوده من قبل، وهذه أول مرة أرافق زوجتي إلى هذه الساحات. مال عبد الله برأسه نحوي وأسرّ لي عن وجود بيوت للعهر على بعد قليل، ليس في نيتي ارتياد هذه الأماكن، لكني وافقت عبد الله لإثبات أني قادر على التحرك، وعمل ما يحلو لي، أو لعلّي أجد ما يخلّصني من قيدي، وأحقق ما يدغدغ مخيلتي باستمرار، رغم وجود زوجتي التي أبقيتها مع نساء تناثرن مجموعات فوق المرج. فجأة، صرت أرى عبد الله السليم رجلا آخر لم أره من قبل، تابعنا طريقنا رغم شعوري بالخشية من مجهول ينتظرني مع رجل غريب لا أعرفه، نظرت في وجهه وهيئته، بدا وسيما، يلبس جلابية فضية، وفوقها عباءة سوداء مذهبة من أطرافها ووسطها، وأحيانا أراه يرتدي بدلة غالية الثمن، كُحليّة مخططة، وربطة عنق يمسّدها بكفه كل لحظة، كيف يحدث هذا...؟ لم أعد أدري ما يدور حولي، كنت أغبطه، وكنت في حالة نفسية جعلتني أثق فيما يقول أو يفعل دون أن أفكّر بشيء، مرة أراه طويلا سامقا، أُجهد رقبتي لأرى وجهه، وأراه مرة قصيرا بلا رقبة، مشوها وقميئا.
وصلنا باب الوكر، الذي يبدأ من سطح الأرض بميل يقترب من العمودي، جدرانه من تراب، ودرجاته عتيقة مفتتة، معتم إلى حدٍ لا يستطيع المرء تحديد الاتجاه، إلا إذا اصطدمت جبهته بجدار، ولا يستطيع معرفة شخص ما لو كان صاحبه، كأنه قناة فقدت الأكسجين، تساءلت في نفسي:
( ما الذي يجيء بهذا الرجل إلى هذا المكان؟).
ازداد خوفي، لكن فضولي لمعرفة ما يجري، جعلني أتابع وأستمر حتى النهاية.
بدأت تتضح معالم الدهليز، هناك إضاءة خافتة، وتنبعث رائحة مقرفة، وفي النهاية ممر ضيّق جدا، له باب خشبي عتيق، مهترئ، يشبه في شكله العام دورات المياه في الأماكن العامة.
وقفت في المفترق مجموعة من النساء، يغطين رؤوسهن وهن شبه عاريات، تنفرد واحدة بجانب كوة معتمة، يتم فيها تسليم النقود المطلوبة، سعر البطاقة فيها رخيص، وهناك كوة أخرى سعرها أعلى.
قدّمنا النقود، أخذ كل منا بطاقة حمراء مستطيلة، لفّتها امرأة على إصبعينا ولصقتها من طرفيها، مشينا نحو الغرف، وقفت في طريقنا بعضهن، مرحّبات ومداعبات، أسندت ظهري لجدار ولم أقترب من صاحبي، كنت أراقب من بعيد، أبدو مسالما بسيطا وطيبا، في مكان للعهر والعاهرات، صار الموقف الذي وضعت فيه زوجتي يلحُّ علي كل برهة، فهي لا تعرف ما يدور حولها، وأنا أيضا، يلفني غموض وجهل وضعف، ولو أردت مغادرة هذا النتن لما قدرت، لأني نسيت الطريق المؤدية إلى قلب المدينة، فبقيت لا إرادة لي أتابع ما جرّتني إليه قدماي ورفيق السوء هذا، إلا أني أجد نفسي ما أزال رجلاً لو تم لي ما أريد.
جاءت إلي واحدة منهن وجرّتني نحوهن، لم أعترض، كنت مجاملا، ضعيفا، تحلّقت حولنا العاهرات، بأشكال مختلفة، لا يستر عوراتهن سوى مزق من خرق بالية، متسخة.
كانت الزعيمة طاعنة في السن، لكنها منتصبة القوام، نحيفة، بيضاء، ظهرت تجاعيد وجهها كمجارٍ جفت مياهها، وشكّلت في الوجه ظلالاً كالحة، لها رقبة مثل رقبة سلحفاة هرمة، بدت فيها عروق نافرة، وأعصاب مشدودة من طرفيها، حتى تشكّلت فوقها خيمة من جلد رقيق يكاد يتمزق.
أراد صاحبي أن يريهن نفسه في موقع اجتماعي مرموق، وأن يلفت نظرهن إليه، مد يده إلى جيبه، أسقط منها خلسة ورقة نقدية كبيرة، بحركة رشيقة، لم ينتبه لها أحد إلا أنا والزعيمة، ثم غمز بعينه لإحداهن، هو يعرفهن من قبل، بنى علاقة قديمة مع هذا المكان، انتظر قليلا كي تنحني لتناوله الورقة النقدية، أو تأخذها لها، لأنها أعجبت به، ولأنه لا يهمه أن يرمي نقوده هنا وهناك.
انحنت نحو الورقة، لكزتها الزعيمة فاستقامت، أحس أنه إن طال المشهد على هذا الحال، سيضيع منه مبلغ بلا فائدة يجنيها، نظر إليها أومأ براسه لها نحو الورقة، فلم تتحرك، بل رفعن رؤوسهن منتصبات كأعمدة بلا إحساس بوجوده.
انحنى إلى الورقة النقدية، التقطها وغاب عني، بقيت وحدي، بعد أن تسربلن خلف بعضهن، ثم توزعن كل واحدة باتجاه غرفة من الغرف المنتنة.
بقيت شاردا ساهما، أسند الجدار إلى ظهري، فتناثرت حبات من الرمل العالق بالجدار الهش على رأسي وفي رقبتي، مستسلما لمصير كريه ينتظرني.
فجأة مرق من جانبي الرجل كأنه محتال، يعدو مثل ثعلب اقتنص دجاجة، صعد الدرج الروماني، رغم العتمة بخفة ومهارة، صحوت متنبها، دفعت بجذعي إلى الأمام، أمسكت الجدار براحتيّ خشية أن ينهار، وببطء شديد سحبت يدي، نفضتهما ببعضهما ومشيت خطوات وئيدة حذرة، صعدت الدرجات بهدوء الخائف، مرّ من جانبي ثلاثة شبان، لهم أجسام صلبة تتدفق منها الحيوية والقوة، يرتدون لباسا موحدا وغريبا، وفي أيديهم مُدى طويلة.
ركضت بعض النسوة يولولن ويزعقن بلا خجل:
ــ امسكوه.. امسكوه.. لا تتركوه.. إنه محتال.. الحقوا به.
تساءلت الزعيمة بصرامة وثقة، فردّت عليها واحدة:
ــ دخل غرف الدرجة الأولى.
صرخت الزعيمة:
ــ كنت أحس انه محتال.. اقبضوا عليه.. لا تتركوه يهرب.
انتهيت إلى فوهة الدهليز الثانية، مررت بجانب الزعيمة، فحدجتني بنظرة وهزت رأسها فأرعبتني.
خرجت من الدهليز، إلى شارع يمتد على يميني مسافة طويلة، شاهدت الرجل يعدو ويتلفت خلفه ويقهقه، والحراس والسماسرة يلحقون به ولا يصلون إليه، يبدو منتصرا عليهم، وهم يعدون بسرعة أكبر، لكنهم لا يستطيعون الوصول إليه، والعاهرات تصرخ وتولول.
توقف الرجل واستدار نحوهم، وأخرج من تحت عباءته المقصبة سلاحا ناريا وراح يرش رصاصه في كل اتجاه بلا حذر، وفي لحظة اختبأ الجميع وغابوا.
ازداد الصراخ والعويل، وساد الشارع فوضى، ارتعدت مفاصلي، حين سقط بائع ذرة فوق عربته نازفا ما فيه من دماء، وتدحرج طفلان على الإسفلت والحفر، وطارت حقيبتاهما، وسال دم كثير.
كنت ساعتها أتشبث بجذع شجرة ضخمة وعتيقة على الرصيف، لمحت الرجل يخفي سلاحه تحت عباءته ويمضي بهدوء الواثق، وهو ينزل في درجات المنحدر ويضحك ساخرا، لكني شاهدت لحية سوداء طويلة تغطي أسفل وجهه ورقبته، ولف وجهه ورأسه بلثام.
سرتُ ببطء وكل أعضائي ترتعد، ولمتُ نفسي لأني تركت زوجتي في مكان غير آمن، كثير الفحش، وهي تخاف من ظلها، ولا تطمئن إلا لوجودي معها.
اجتمع الشبان الثلاثة مع النسوة، شاهدتهم يتحاورون ويشيرون نحوي، لم يكن في الشارع العريض سواي، أمشي بإصرار وهدوء.
أشارت إحداهن إليّ فلم ألتفت، لحقوا بي، أرخيت رأسي على صدري لأداري وجودي، وللحظات أحسست أني نعامة، لكني ما التفتّ، كنت أوحي لهم أني لست مسؤولاً عما حصل، وليس لي علاقة بالرجل، أخاف أن يعرضوا علي معاملة ما، أو أن أقوم بأداء سلوك لا أرضاه، أو يحتجزوني في ذلك المكان المخيف، الذي تنشقت هواء الحياة حين خرجت منه، أدفع ما يطلبون، لكني لا أعود إلى حيث يعيشون مرة أخرى، وليحدث ما يحدث.
اقتربوا مني، صاروا بجانبي، أحدهم أمسك بكتفي، هزني بقوة، كنت منهاراً لا أملك أية مقاومة، قال:
ــ أنت رفيقه وصاحبه.. تعال معنا هيا..
لم أردّ، تابعت سيري، وهم حولي، ونساؤهم ورائي، فزعق بي وشدّني :
ــ توقف يا جبان..
قلت وأنا أتابع سيري:
ــ ليس لي علاقة به.. صحيح هو كان معي .. لكني لا أعرفه.
فقال:
ــ لا تكثر الكلام.. أنت صاحبه.. تعال معنا.
قلت وأنا ما زلت أسير بخطواتي البطيئة الثابتة الرتيبة:
ــ صدقوني لا أعرفه.. انظروا إليّ.. هو له لحية كبيرة وطويلة وعريضة.. ويحمل سلاحا قاتلاً أما أنا أحلق ذقني كل يوم.. ولا أحمل سلاحا أبدا.. وأحب الحياة لي ولغيري.. الحياة الحرة الجميلة الكريمة.
فقال:
أنت كاذب.. نحن لانقبل الحياة لأحد.. إلا الذي يشبهنا.. وكانت حياته كحياتنا.. هيا ارجع.. ارجع.. توقف.. توقف.
الرهبة ترعدني رهبة سلاح المجرم القاتل.. ورهبة أسلحة هؤلاء العصابات وأوكارهم المرعبة، ومع رهبتي ورعبي كنت بإصرار أتابع مشيي، أنتظر مرور أحد الناس من جانبي لألوذ به بنظرة استعطاف، أو كلمة رجاء، ربما يساعدني لأتخلص من موقفي الخانق، ومما يزيد خوفي، مشهد القتلى في الشارع دون أن يمد أحد يده إليهم، ولم أجد أحداً يمكنني الاعتماد عليه، حتى الدكاكين، كانت خالية، وربما لو جاء عشرة رجال، سيبقى كل شيء كما هو، البائعون المتجولون أيضا، لم يكترثوا بما يحدث، كأن الناس اعتادوا على ما يجري، وانسجم سكان الحي مع تلك الحالات المتكررة، حتى صارت جزءاً من وجودهم وغدت عادية طبيعية.
قد تجد من يدافع عن حالة أو موقف يرفضه آخرون، فكيف الخلاص؟.
مددت خطواتي، أسرعت أكثر، وما يزال الشبان الثلاثة والنساء يتحلقون حولي.
اندفعت واحدة وشدّتني من يدي خطفاً، فانفتلت نحوها قسراً وقالت لي:
ــ ارجع.. لن تفلت من الحساب.. حسابك معي أنا فقط..
لكني استدرت وتابعت سيري بلامبالاة.. قلت لها:
ــ وما علاقتي أنا؟.. حاسبوه هو إن استطعتم.. أنا أخذت بطاقة ولم أفعل شيئا.. أليس أفضل لكم كبشر أن تهتموا أولا بجثث الناس في الشارع؟.
بكيت، فضحكوا وقهقهوا، صرت وسط هرج وزعيق وجعير يأتيني من كل اتجاه، أصوات لاتشبه أصوات الناس، تصورت نفسي خروفاً وديعاً وسط ذئاب ضارية جائعة، تريد نهشي، وها هي تمد أيديها التي نفرت مخالبها المسنونة، أحسست باقتراب نهايتي، لكني ظللت أمشي حتى اقتربتُ من نهاية الشارع.
وصل إلى أسماعنا أصوات منتظمة لجوقة تؤدي نشيدا، وظهرت بعض رؤوس النسوة والأطفال فوق المرج، كثر الصياح ونداء الباعة، هؤلاء الباعة أشرف من أولئك.
انبعث بصيص أمل في نفسي، مما أعاد لي شيئا من الشجاعة، ورحت أقفز، فتوقفت المومسات من حولي، ثم توقف شاب، وآخر، وتوقف الأخير، هذه حدود وكرهم المرعب، لكنهم يخططون لضم تلك الحدائق إلى ملكهم أيضا. كأنهم يتضايقون من وجود حركة وحياة عادية في هذه الأماكن، يفكرون في تغيير عاداتها وطبيعتها.
انشرح صدري غبطة، فرحي ليس له حدود، أحسست بنشوة النصر، وبلعت غصة البكاء الواقفة في حلقي، وقفزت بضع قفزات مديدة، ولو كنت مع زوجتي رغم عدم اقتناعي بها كشريكة لي مدى الحياة، أو لو كنت الآن في مكان آمن برفقتها المملة، لكان بإمكاني أن أتخيل أو أحلم أو أقرر ما أريد.
الرجل الذي كان يرافقني، يدّعي صداقته لي، لكنه متلون وكاذب ومحتال، ومتقلّب، لا يهمه سوى مصلحته، تركني وحيداً وفر دون ان يكلمني أو يحذرني منهم كي أحتاط وأتصرف، لم أستطع تحديد هذا الصديق، ولم ألتق به من قبل، إني لا أرغب في مصاحبة أمثاله، أين عبدالله السليم؟. كان في البداية عبد الله، وكنت أطمئن إليه، من أين جاء هذا المحتال بسلاحه الناري؟ وبدل أن يقتل أصحاب الوكر، قتل بائع الذرة المسكين والطفلين البريئين.
لماذا لا يتعاون الناس جميعا ليهدموا الوكر على أصحابه؟.. ولكن أين الناس؟.. أين الأمن والأمان؟.. لابد من حل يخلص الناس من شرور الوكر.. إنه بقعة فساد ستسري إلى كل البلاد وليتخلّصوا أيضا من الرجل المحتال ومن سلاحه ولحيته.. كأني أحسست بعلاقة تربطه مع سكان الوكر.. هو جاء بي إليه.. يريد توريطي ولا يهمه ضياعي.
وصلت المرج، صرت بين الناس، تجمعات من النسوة يقعدن على العشب، نظرت إلى يساري شاهدت عبد الله السليم، الذي كان قبل قليل رجلا آخر لا أعرفه، هرعت إليه وصرخت بلهفة:
ــ عبد الله .. أين ذهبت؟.. كيف تركتني ؟.. كاد رأسي ينفجر يا عبد الله.. ثق أني ما خفت على نفسي بقدر خوفي على الناس والأطفال.. وعلى زوجتي.
قال بشيء من البرود والأسف:
ــ زوجتك ليست هما.. ضاعت.
فوجئت وصدمت وصرخت:
ــ ليست هنا؟!!.. هذه كارثة.. أين هي إذن؟.
رغم سروري بخلاصي، بقي شيء يقلقني، وما يزال التأثير السابق يعلق بي، عدت أصرخ:
ــ عبد الله.. المكان غير آمن.. المكان خطير.. وزوجتي أمية.. ولا تعرف كيف تتصرف.
قفزتُ نحو مجموعة من النسوة، وغصًة بكاء عادت تخنقني، ضاقت بي الدنيا، وضاعت زوجتي، سألتهن:
ــ هل رأيتن زوجتي؟.. تركتها هنا.. معها صرة ثياب.. !!
صَغُرتُ أمامهن وأمام نفسي، حين نظرن إليّ باحتقار، تهامسن، ثم قالت واحدة:
ــ إنها هناك خلف النهر.
بلهفة، تلفظت بكلمات ترافقت بتأتأة، ولم أذكر إلا بعض الكلمات الصحيحة
ــ وهل اعتدى عليها أحد؟.. حدث لها شيء؟.
قالت وهي تشيح بوجهها عني:
ــ لم يعتدِ عليها أحد غيرك.. مضت من هنا وهي تبكي.
أسرعتُ نحو النهر الذي يفصل بينها وبين النسوة، نهر عميق جدا، مظلم من شدة عمقه، تخرج منه رائحة قاذورات متخمرة، كرائحة بئر غرقت فيها ألف فأر، لكنها أعطر من رائحة وكر المومسات.
حاولت القفز إلى الضفة الثانية، تعجبتُ كيف استطاعت زوجتي القفز، هو ليس كالنهر، أقرب إلى خندق لا يزيد عرضه عن مترين، ويمكن القفز لمن يضطر، قفزت إلى الجانب الآخر، وقفز رائي عبد الله، شاهدت منخفضا معشبا تنام فيه زوجتي، ثيابها تحت رأسها، دهشت وصرخت:
ــ يا إلهي ما هذا؟.. ماذا أصابك؟..
لم ترد، كانت ترتجف غيظاً، تهتز كنابض يضغط عليه ثقل وينزاح، أحسست بوجود بقايا حياة فيها، وقد تكوّرت رجلاها نحو رأسها، وامتدت يداها أمامها، وانشدّت أصابع كفيها وقدميها، توتّرت، أصبحت قاسية، فقدتْ ليونتها كامرأة، لاتشبه أي كائن فيه حياة، تحوّل جسمها إلى قطعة جافة، انفتحت عيناها حتى التصقت أهدابها بجلد خدّيها وحاجبيها، تثبتت حدقتاها في أسفل عينيها، بدت جثة تكاد تلفظ انفاسها.
أخذتها بين يدي ورجوتها أن تهدأ، فانفرجت شفتاها الجافتين عن أسنان مضغوطة بقوة، وهبّت كلها قطعة واحدة، خفيفة الوزن، كأنها جلد أرنب قدّدته الشمس، تجعّدت وضمرت.
ناديتها باسمها، وهذه أول مرة أناديها به، فخشخشت من شدة سرورها، وعضّتني في بطني وهي تضغط بأسنانها حتى انغرزت بالجلد والشحم، وسال دمي على وجهها، وابتلت ثيابي، ثم جرى على الأرض، حفر أخدودا أنيقا بين الحشائش الناعمة، وانهمر في سفح جوانب النهر الآسن، نظرت إلى وجه عبد الله، وماتزال زوجتي تضغط بأسنانها، ارتعش عبد الله وتراجع منزعجا متحسراً، كان ممتعضا محتقن الوجه، سيصرخ ليستنجد بأحد، ولم يستطع أن يمد يده ليفعل شيئا، بينما كنت أبتسم له لأعبر عن سعادتي بعضّ زوجتي لي ، إذ لم يؤلمني عضها لبطني، مع إحساسي بأن استمرار تدفق دمي على هذه الحال سينهي بالتالي حياتي.
ارتفعت أصوات رتيبة ومنتظمة، تنشد نشيدا مؤثرا، نظرت خلفي رأيت الجوقة، جميع عناصرها فتيات جميلات نضرات، يلبسن لباسا ملونا، مزهرا، مطرّزا بالحرير، كانت أنشودة الفتيات مبهجة، وراح بعض الناس يرقصون على إيقاعاتها الشعبية.
انبعثت رائحة زكية عطّرتِ المكان كله، أسرعت النسوة إلى ضفة النهر، وتقدّمت الجوقة بانتظام صفاً واحداً، وترتفع أصوات بعض النسوة بدهشة:
ــ انظروا.. صار لون الماء أحمراً..
ــ إنه دم..
ــ الدم يأتي من هناك..
ــ تنظر النسوة والجوقة نحونا:
ــ هذا الرجل الذي أضاع زوجته..
ــ ماذا حدث لهما؟..
ــ انظروا.. انظروا .. هذه ليست كالمرأة..
ــ ولكنها زوجته..
عند ذلك، أنظر إليها، ينتفض جلدي، وأتساءل:
( هل هذه امرأة؟.. كيف سأعيش كل حياتي مع هذه الجثة؟.. بقائي وحيدا أفضل من عذابي الدائم).
أقارنها بتلك الفتيات الرشيقات، دبيب يأس سيغزو نفسي، تُجمّد البرودة أطرافي وأعصابي، أفقد أي سبب لاستمرار حياتي، فأقذف بها إلى النهر، أفتح ذراعي للهواء والدفء، وأوجه قلبي باتجاه ما تبقى لي من حياة، أشعر بشيء من الراحة، وفجأة يملأ المكانً زعيقُ وصراخ زوجتي، يردد صداه الوادي، غدت عملاقا تقذف حبالا لتلفها حولي وتشدني نحوها
تنبهت مفزوعا، حين كانت زوجتي تنخزني نخزا في جنبي وهي تنعر نعيرا مقززاً.
ـ استيقظ يا رجل.. لقد تأخرت.. ماذا أصابك؟.. تتكلم وأنت نائم.. استيقظ.
نظرت إليها، ولوهلة، أحسست براحة نفسية عابرة، لكني في حيرة ما زلت، لأني لم أستطع التمييز بين الكابوس والواقع في كل شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا