الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطنة بين التأسيس والبناء (الجزء الثالث)

حسن سمر
باحث في الفلسفة السياسية

(Hassan Soumer)

2021 / 10 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


يعد مفهوم المواطنة من أهم المفاهيم السياسية الحديثة التي تعرف تطورا وتغييرا متواصلا ومستمرا في مضمونها وشكلها، فالمواطنة هي أبرز أعمدة الديمقراطية الحديثة لهذا من الصعب تحيد تعريف واحد ووحيد لها وهذا راجع لحمولة المفهوم وطابعه التجريدي وارتباطه بمفاهيم مجاورة له، كما أن تحديده الفعلي في الواقع يصعب في ظل تنوع تمظهراتها فالمواطنة كما ظهرت مع اليونان ليست هي نفسها المواطنة الحديثة والطابع الفردي للمواطنة الفرنسية يختلف عن المواطنة الجماعية الإنجليزية. لذلك ارتبطت المواطنة بمفهوم القانون بالنظر إليه كتوافق يخضع له الجميع طواعية وبذلك يضبط مبادئ المواطنة ينتقل بها من الطابع التجريدي إلى الواقع المعاش وذلك من خلال المؤسسات العمومية التي تنظم الحياة العامة للناس. واستفحال مطلب المواطنة في العالم بدأ الحديث عن المواطنة الكونية التي لا تأخذ في عين الاعتبار الحدود الجغرافية والسياسية للبلدان كما أنها تتجاوز التقاليد والثقافات الخاصة. حولت خطابها إلى كل إنسان في الكون. هكذا تخلصت المواطنة من إرث التقليد اليوناني القديم المنحصر في أثينا ورفضت تلك الترابية الإقصائية للديمقراطية وغياب مقوم الحداثة السياسية وهو مفهوم الفرد. فالمواطن اليوناني هو الخاضع لقانون الجماعة. وظهر مفهوم الانتخاب تعزيزا للفرد المواطن الذي بموجبه يتدخل بذاتيته في الحكم وإقرار مصير الدولة ويساهم في تسيير الشأن العام. هذا الحق يمثل تصورا جديدا للمواطنة وممارسة فعلية لها داخل جماعات حقيقية واقعية اساس تشكلها المساواة، والانتخاب هنا الذي بموجبه يتولد مفهوم الديمقراطية الحديثة المرتبط بالتمثيلية مخول للجميع كحق لا تنازل عليه وتطور تدريجيا إلى أن شمل جميع المواطنين الراشدين نساءا ورجالا، عكس ما كان في السياسة اليونانية حيث هناك تراتبية اجتماعية طبيعية تفرض نتائجها على السياسة تلقائيا فهي ديمقراطية اقصائية جزئية، لكن رغم ذلك فهي بداية تشكل الفكر السياسي العالمي الذي بطبعه يخضع لسيرورة مستمرة فيتطور بالتدريج إلى أن يصل مبتغاه رغم أن الطموحات لا تتوقف وتتجدد باستمرار. فمبدأ الانتخاب إذن أساسه المساواة، كما أنه يمثل الطابع الصوري والشكلي للمواطنة الفردية وما يحتسب له هو تجاوزه الاختلافات والتنوع الذي يتميز به الإنسان وذلك باسم القيم الحديثة التي لا تعترف بحدود، فهي تتجاوز كل ما هو تاريخي واجتماعي وبيلوجي وتتجه نحو ما هو إنساني في الإنسان، فجميع الأفراد مخول لهم أن يصبحوا مواطنين لأن المواطن وحده الذي يستفيد من جميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وطرحت مسألة الأجانب فخولت لهم الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية من منطلق حديث مفاده أن هناك بعض الحقوق يتمتع بها الإنسان فقط لكونه انسان وهي سايقة عن وجود المجتمع السياسي فكل البشر متساوون في الإنسانية وليس هناك مستويات فيها، ووجود حقوق المواطنين مرتبط بتواجد حقوق الإنسان. ويسعى مؤيدي المواطنة الكونية إلى المطالبة بحق التصويت حتى للأطفال والمرضى العقليين بل حتى الحيوانات والنباتات بحيث ان الجميع يخضع للقرارات السياسية. والتصويت خاضع لمبدأ القانون الذي هو نتيجة توافق وبذلك يتم مناقشة الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل مؤسسات عمومية مشتركة تعطي الحق لجميع المواطنين باللجوء إليها. "ترتكز التشريعات المقررة بالمساواة في الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية على الفكرة الأساسية والكونية القائلة بأنه قبل وبعد حقوق المواطن الناشئة عن مشاركته في تنظيم سياسي بعينه هناك حقوق الإنسان بوصفه انسان. وبالتالي يصعب حرمان الأجنبي منها فهو ليس على المستوى الإنساني بأقل مرتبة من رعايا الدولة. من هنا فإن احترام حقوق الاجنبي بوصفه إنسانا يعد بطريقة ما إعادة تأكيد على القيم التي تمحورت حولها الديمقراطيات الحديثة، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تخاطر دوما بمخالفة هذه القيم التي تدعى الانبثاق عنها وحتى إن كانت كثيرا ما تفعل ذلك. " وتعددت مؤسسات المجتمع الحديث ومن أبرزها المدرسة التي تمثل أداة سياسية لنشر المواطنة والتشبت بالقيم وأهم مبدأ قامت عليها هو المساواة وإتاحة الفرصة للجميع لمحاربة الجهل والبؤس وترسيخ المشترك والوعي بالمطالبة بالحقوق والالتزام بالواجبات داخل المجتمعات، فهي صورة المجتمع السياسي ويتعدد شكل حضوره بين ماهو رمزي ومادي داخل وسطها، وتلعب دور تسهيل ولوج الطفل واندماجه داخل المجتمع الذي ينتمي إليه وحمله ثقافته لضمان استمراريتها ونقلها من جيل إلى آخر. هناك مؤسسات أخرى ذات الطابع السياسي المحض تلعب دور تجسيد العلاقات بين السلطة السياسية والشعب كالبرلمان والحكومة. لقد اختلفت موارد السياسة الحديثة وتعقدت ملابسات وظروف تشكل المواطنة فببزوغ مفهوم تعزز أخرى متعددة، هكذا تولد مفهوم الانتخاب والتصويت أو التمثيل وإشكالية الأغلبية الأقلية والعلاقة بينهم، ويتدخل في هذا مجموعة من العوامل والمؤثرات كوسائل الإعلام ودورها في التأثير على الاقتراع والحياة الجماعية، وكذلك المؤسسات الرسمية العمومية كالمدرسة والمؤسسات السياسية كالبرلمان والحكومة،. وكيف تحولت الديمقراطية إلى ديمقراطية الجمهور.
تطورت الديمقراطية من خلال مفاهيم حديثة شكلت أساسها الفكري وأهم هذه المفاهيم الأمة والمواطنة فثمة علاقة ترابطية بين هذه المفاهيم. ومع تطور المواطنة وانتشارها عبر العالم أصبحت المطالبة بالثورة ضد المستعمر باسم هذه القيم، وقد تميز العالم الأوربي بالتعددية الثقافية والحقوق المرتبطة بهذا التعدد. فبعدما طالب الفرد بالحقوق المدنية والسياسية وتوفر له ذلك وعملت الدولة الحامية على توفير الحقوق الاقتصادية والمساواة المادية بين المواطنين لم يتبقى سوى الحقوق الثقافية كمطلب أساسي للمواطنة الحديثة، وفي هذا السياق برز مجموعة من الفلاسفة والمفكرون يدعون إلى هذه الحقوق وأبرزهم شارل تايلور ومايكل ساندل وغيرهم. فالمواطنة هي كذلك توفير الحقوق الثقافية التي تشمل حرية الميول والدين وجميع الحريات العامة، وهذا ما سمي لدى الجمهوريون بفرنسا بالتمييز بين العام والخاص وكذلك في الليبرالية الإنجليزية.
فالمطالبة بالمساواة يشترط فيه احترام الانتماءات التاريخية والدينية لكل فرد أو أمة. "علينا هنا أن نضيف ايضاحا فحواه أن النقاش لا يدور حول الحقوق الثقافية بالمعنى الفكري للمصطلح (الحق في القراءة وفي المعرفة العلمية وممارسة الفنون والحق في تأمل الأعمال الفنية) وإنما بمعنى حق الفرد في أن تكون له حياة ثقافية خاصة وأن ينميها عند الاقتضاء بالمشاركة مع أخرين في داخل مجموعة واضحة القيم والتقاليد المتقاسمة بينهم، وهذا يعني هوية ثقافية يتيسر تمييزها عن هويات الأفراد الآخرين والجماعات الأخرى هنا تثور المشكلة، إذ كيف يتم التوفيق بين الحرية والمساواة الفردية الخاصتين بجميع المواطنين _وهو المبدأ الذي لم يعد أحد يتشكك فيه أو يعاود تناوله بالنقاش _والاعتراف العلني بخصائصهم الثقافية لم تعد جماعية؟ ". ينتقد المفكرون الجماعانيون التصور القديم إذن لمفهوم المواطنة لأن الديمقراطية الحقيقية لا تستوعب المواطنة بطريقتها القديمة فالمواطن الحديث ينظر إليه باعتباره حاملا للتاريخ والثقافة والخصوصية، ويجب أن تخضع المواطنة اليوم إلى الاعتراف بتنوع الانتماءات والثقافات لكي تستطيع فهم المجتمع المعاصر كما يدعوا إلى ذلك تشارل تيلور. هكذا تم نقد التصور القديم للمواطنة بحجية انه لم يعد قادرا على استيعاب الطابع الكوني للمواطنة. لكن هذه الجماعانية نفسها تحمل مخاطر متعددة أهمها تناقضها مع حرية الأفراد والتداخل أو الاندماج الاجتماعي لأن الاعتراف بالمجموعات الخاصة قد يؤدي إلى ترسيخ الذاتية والمصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة ويصعب معها ضمان المساواة بين أفراد والجماعات المختلفة. ولتأسيس المواطنة المختلفة والمميزة كما يسميها ويل كيمليكا Will Kymlicka يدعو إلى احترام مجموعة من الشروط منها أن لا يخضع الأفراد لضغوط من أجل الانضمام لجماعة معينة والاعتراف فقط بالتقاليد التي تتوافق مع قيم الديمقراطية، ويقول المدافعون عن التعددية الثقافية المعتدلة انه باحترام هذا التعدد يتم إرساء جمهورية متسامحة تتوافق مع المجتمع الديمقراطي الحديث وما يميز الحقوق من هذا النوع هو كونها غير ملموسة بعكس تلك التي أدت إلى ظهور الدولة الحامية وهي الحقوق الاقتصادية.
لقد تطور مفهوم المواطنة إذن وأصبحنا اليوم نتكلم عن إمكانية وجود مواطنة مبنية على القومية كالمواطنة الأوربية التي توسعت وأصبحت توزع المواطنة على المقيمين بها رغم انهم يحملون ثقافة مغايرة للثقافة الأوربية ويتم هذا لأن حتى الأجانب يساهمون فعليا في المجتمع،ولذلك فهم يستحقون التساوي بالمواطن الأصل الأوروبي. وهذا راجع كذلك إلى أن المجتمع المبني على الديمقراطية والمواطنة هو مشروع مدني له ميل شمولي عام، كما تحدث يورغن هابرماس عن المواطنة مابعد القومية بحيث اقترح ضرورة بقاء المواطنة محافظة على معناها السياسي وقال مفهوم الوطنية الدستورية أي فصل الفكرة القومية عن تطبيق المواطنة في أوربا.
لقد استطاع كل من دومينيك شنابر وكريستيان باشولييه في هذا الكتاب "ما المواطنة؟" الإلمام بإشكالية المواطنة من كل جانب ومنذ البدايات الأولى لهذا المفهوم. وتبين مدى صعوبة تحديد المواطنة خصوصا أن في جانبها الأكبر تعد مجموعة من الحقوق تتزايد وتتغير وتتطور مع الزمن. ان المواطنة شأنها شأن الديمقراطية هي مفاهيم نامية تتعزز بكل متغيرات التاريخ وتعاقب أحداثه، فقد بدأت المواطنة منغلقة تكره الانفتاح وتعزز الإغلاق على الذات ثم بعدها بدأت المواطنة في انفتاح خطير حينما أصبحت تنتشر بشكل مخيف بدريعة تحقيق حقوق الفرد. لقد كانت المواطنة في البداية ذات نزعة اقصائية ثم تمردت عن هذا الماضي وارتبطت بالمؤسسات التي بدورها ستنهار بعد توسع الديمقراطية الفردية. وعموما فإن المواطنة تشكل أهم مفاهيم الفكر السياسي قديما وحديثا بل يمكن القول أن الفكر السياسي أساسه المواطنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م