الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جوهرانية ال ميركافا

صبحي حديدي

2006 / 8 / 22
القضية الفلسطينية


بعد يومين من مشاركته في توجيه نداء يحثّ الحكومة الإسرائيلية على وقف إطلاق النار، وقبل يوم واحد من القرار الإسرائيلي ـ الأمريكي بـ "وقف الأعمال العدائية"، قُرع جرس باب بيت الروائي والكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان، في الساعة الثالثة فجراً. ولم يكن الرجل بحاجة إلى معرفة هوية الطارق لكي يفتح الباب، لأنه أدرك على الفور سبب الزيارة: في واحدة من آخر المعارك مع المقاومة اللبنانية، قُتل ابنه أوري غروسمان، ، 20 سنة، الضابط في سلاح المدرعات.
صحيح أنّ هذه المفارقة بالغة القسوة بالنسبة إلى داعية سلام مخضرم (هو، للتذكير، صاحب الكتاب الشهير "الريح الصفراء" الذي يظلّ العمل الإسرائيلي الأبكر الأشجع في تسليط الضوء على حياة الفلسطينيين في الضفة العربية والقطاع، تحت الاحتلال)، إلا أنّ مفارقات أخرى اكتنفت هذه الواقعة على نحو يقلب الكثير من ميزانها الإنساني البسيط. بين هذه المفارقات أنّ غروسمان كان في البدء مؤيداً للعدوان الإسرائيلي البربري (بذريعة بائسة مفادها أنّ الحرب ليست ضدّ لبنان، بل ضدّ "حزب الله" حصراً)، وأنه لم يبدّل موقفه فيطالب بإنهاء الحرب إلا بعد أن طالت أكثر ممّا ينبغي. مفارقة أخرى أنه امتنع تماماً عن الإدلاء بأيّ تعليق يخصّ مآل العدوان الإسرائيلي، واكتفى بهذه العبارة الغائمة: "لن أقول الآن أيّ شيء عن هذه الحرب التي قتلت ولدي. نحن، في عائلتنا، خسرنا هذه الحرب لتوّنا".
غير أنّ المفارقة الكبرى، بعد مأساة الأب المسالم الذي فقد ابنه المحارب، تمثّلت في أنّ غروسمان لم ير في أوري صفة الغازي الذي يقود دبابة غازية، بل "الفتى الإسرائيلي تماماً، الذي كان إسرائيلياً جداً وعبرانياً جدّاً حتى في اسمه"! وفي كلمة الرثاء التي ألقاها على قبر ولده، أضاف غروسمان: "لقد كان أوري يمثّل جوهر الصفة الإسرائيلية (في الترجمة الإنكليزية: Israeli-ness) كما أودّ لها أن تكون. صفة إسرائيلية يكاد يطويها النسيان، حتى صارت أمراً مثيراً للفضول. وكان إسرائيلياً طافحاً بالقِيَم، وهي كلمة تآكلت فباتت مضحكة في السنوات الأخيرة. ففي عالمنا المجنون العابث القاسي، ليس رائجاً أن تكون حامل قِيَم، أو إنسانيّ النزعة، أو متحسساً بحقّ لمعاناة الآخر، حتى إذا كان ذلك الآخر هو عدوّك في ساحة القتال".
وبالطبع، يصعب على المرء للوهلة الأولى أن يستوعب طبيعة "القِيَم" التي جاء أوري غروسمان يبشّر بها في مارون الراس وعيترون وبنت جبيل وعيتا الشعب، من على ظهر دبابة الـ "ميركافا". واستطراداً، إذا كان الفتى يمثّل تلك الجوهرانية الإسرائيلية التي يحلم بها داعية السلام دافيد غروسمان، فما الذي منعه من العصيان ورفض التجنّد في جيش غازٍ أو محتلّ، كما فعل العشرات من الإسرائيليين الرافضين للخدمة الإلزامية، أو الخدمة في الضفة والقطاع على الأقلّ؟
الحال أنّ غروسمان، الذي يُعدّ أحد أفضل النماذج المتقدّمة في ما يُسمّى "معسكر السلام" الإسرائيلي، يظلّ مع ذلك إسرائيلياً معيارياً في المقام الأوّل، وربما في المقام الثاني والمقام الثالث أيضاً. تلك المعيارية، التي قد تكون بعض مقدّمات ما يحلم به من جوهرانية إسرائيلية، ترتقي بأمن الدولة العبرية إلى مصافّ مقدّسة ميتافيزيقية مطلقة، ليست سوى الوجهة الأخرى للمعنى الشعبوي الذي يعتبر أنّ أمن إسرائيل في يهودا والسامرة والجغرافيا التوراتية بأسرها ليس معركة بقاء أو فناء فحسب، بل هو مسألة وجود أو عدم الهوية اليهودية، ديانة أو كناية أو كياناً.
ليست هذه هي المرّة الأولى التي تشهد اصطفاف غروسمان خلف هذه المعيارية، بل يمكن القول إنّ مناسبات الماضي لم تكن البتة تقدّم له ذرائع إنسانية صرفة للاستبسال في مديح جوهرانية إسرائيل، كما هي حاله اليوم إذْ يفقد ولده في سياقات لا تبدو وكأنها تكرّم أية قيمة أخلاقية وإنسانية كونية. ولعلّ أبرز أمثلة الماضي كان موقف غروسمان من قرار ليا رابين، أرملة إسحق رابين، مغادرة "إسرائيل، هذا البلد المجنون" صبيحة تقدّم بنيامين نتنياهو على شمعون بيريس في انتخابات 1996. ولقد تساءل آنذاك: «سوف تمكث ليا، وسنمكث جميعاً، إذ ليس لنا من وطن آخر، ولأنّ اسرائيل بحاجة إلينا في هذا الزمن".
ورغم أنه أقرّ بواحد من أسوأ التوصيفات التي يمكن أن تصدر عن مواطن إسرائيلي بحقّ الدولة العبرية، إذ اعتبرها "دولة وحشية ضاجة صاخبة، أكثر نزوعاً نحو التديّن والأصولية والطائفية والعنصرية"، فقد امتدح في الآن ذاته شمعون بيريس الذي لم يكن آنذاك قد غسل يديه من دماء ضحايا مذبحة قانا ـ 1: "حاول رابين وبيريس أن يقترحا علينا درب حياة جديداً، ومفهوماً جديداً عن العالم. وأَمِلا أنهما، في حال النجاح، سوف يخلّصان مواطنيهما من بضعة فخاخ تراجيدية تستولي على تاريخهم".
فخاخ تراجيدية؟ أليس في القلب من تلك الفخاخ ما ينخرط فيه غروسمان اليوم عن سابق قصد وتصميم، حين ينأى بالمحارب الإسرائيلي (اليافع بصفة خاصة، "الإسرائيلي جداً" و"العبراني جداً") عن أرض الحكم والسياسة والأحزاب والقتل والتدمير والبربرية، ليقفز به إلى علياء ميتافيزيقية مطلقة طهرانية حيث الجوهرانية الإسرائيلية منبع القِيَم وروح الشرائع؟ وما الفارق حقاً، بمعيار امتطاء الـ "ميركافا"، بين الضابط الفتى أوري غروسمان ورئيس الأركان دان حالوتس؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: الرئيس يجري تعديلا وزاريا مفاجئا ويقيل وزيري الداخلية


.. ما إجمالي حجم خسائر إسرائيل منذ بداية الحرب على قطاع غزة؟




.. بعد فشله بتحرير المحتجزين.. هل يصر نتيناهو على استمرار الحرب


.. وائل الدحدوح من منتدى الجزيرة: إسرائيل ليست واحة للديمقراطية




.. وول ستريت جورنال: أسبوع مليء بالضربات تلقتها مكانة إسرائيل ا