الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صيف عراقي لشتاء الاعزل

علي شبيب ورد

2006 / 8 / 22
الادب والفن


بجنوب مصاب بصيف رئوي حاد ، أذيب تضاريس الثلج لأبدد هالات البرد عن جلالة الشتاء . وأنكش رعونة القَرَسِ بهجير الظهيرات ، وأطرد رطانة القشعريرة بخبل هبوب السموم .
لعلّي بذلك كله ، أفتح سدود العزلة ، ليندلق نهر الأعزل منساباً رادعاً ضفتيه بأمواج الشعر الراقصة ألقاً بنشوة الإنعتاق من أصفاد شتاءات النفي ومواسم الخرس وغياهب الإقصاء .
ولعلّي بشباك المودة ، وربما بسنّارات الإغاضة ، أنتف زغب الخجل ، أو بعض قتامات الانزواء ، عن حقول عامرة بالخصب ، عبقها جديرٌ بالشهيق ، وبريقها أحق بالانتباه ، وثمارها آيلة للقطف . وعلى قدر ما أتحلّى به من جنون التّلَذّذِ بشهوة الاكتشاف بين ركامات البوح المهولة ، وفي غمرة هوسي في التنقيب تحت أطلال الهذيان المعرفي ، وبعد تجوال مضنٍ ، لوّحَ لي الشعر مبحراً يمخر عباب العتمة ، بمرادي الاجتهاد وهي تجلد مشاحيف الانصراف صوب آفاق المطلق ، توقاً لما هو حلمي وأخّاذٍ ومدهش . تأملت كثيراً قبل أن أدع الحاسوب يفضح انبهاري باشتغال الشاعر ( الأعزل ) وهو يشج برؤاه ، رأس الكارثة التي حلت به منذ فراره من حروب بلاده التي أذكاها الفرّانُ وهرب إلى حفرة ، أنهت طغيانه . وتأخرت كثيرا قبل أن أدحرج أول حرف على بياض الصفحة ، لأن مخيّلتي الموقرة وبعد لأيٍ ملحوظ صفعتها بمفردة ( جنوب ) والذي أتصور بسخونته المرعبة وبأفرانه الجحيمية التي تشوي جسدي الآن ، سأتمكن من تفتيت جبروت ( شتاء الأعزل ) للشاعر شعلان شريف ، والصادر في كتاب غجر 1 ، ضمن سلسلة شعرية تصدر عن مجلة غجر – هولندا - 2005
يبتدئ الكتاب بـ ( النهار ) وينتهي بـ ( الليل وهوامشه ) فارشاً تجربة منفاه القسري بدءاً ببغداد وانتهاءً بهولندا . يسأل عن معنى النهار الذي يتربص للإطاحة بأحلامه وتوقه لعيشٍ بلا وجع . غير أنه يرى النهار ( آلةً ) تمعن في التأثير على حيوات الشاعر :
آلةٌ .. تملأ القوارير بذكريات العشاق وأحلامهم . آلةٌ .. تجمع صرخات الغرقى وتدفنها في الضباب . آلةٌ .. ترسم في الهواء خارطةً للغائبين ، لشحوبهم .. لصمتهم .. لأجسادهم التي تكتظّ بجثث العصافير ...
وداخل أقفاص الأسر في رفحاء يتعالى ( الرنين .. لتزيين الذكرى ) حيث عالماً من الألم نتيجة الاحتباس المثير للقنوط المفضي للحنق على سوء المعاملة التي تعرض لها هناك هو ومن معه من الأسرى ، والتي فضحها كتاب لصديقنا الشاعر طارق حربي . في دهاليز الحيف تلك تخترق الذكريات جدران الزمكان ، لتسيل أو تنثال أو تتمطى طفولته وصبابته وفتوته التي سلخته أمانيها عن ذويه لترمي به في أتون دكتاتورية رفحاء .
فبل عدة جدران استعدَّ للرحيل : تخلّص أولاً من عينيه ، رمى يديه خلف السياج ، وبصعوبة بالغة ، استلّ شرايينه واحداً واحدا ، وتركها تنبض على الرّف ، ثم فكّر : لابدّ أنّ اللصوص سيكملون المهمة ! . أن سياقاً كهذا يشير إلى أنه شاعر يكتب متنا شعريا ذا منظومة بث ٍ تعمل بكفاءة لاستدراج القراءة على الغور بعيداً في بنياتها ذوات البعد العمودي مرجعيا ، وهذا ما يمنحها سحر الإغراء لقراءتها بتأنٍّ وتفرّس شديدين ، بوصفها نتاج مخيلة ذات فطنة في تمثل مرجعياتها الحياتية والمعرفية ، لينأى المتن بعيدا عن البوح ذي البعد الأفقي مرجعيا والذي يوقعه في السطحية . وفي ( نسياني الأبيض .. تعاويذي السوداء ) وعبر كوة الذكرى راحت تتسلل بانوراما حياته الفائته ، وربما ينسلّ هو إليها ، ليثمل خاشعاً لحيثياتها المهيمنة على عارضات ذاكرته أينما حل : ولن أصل إلى الدمية النائمة قرب طفولتي ، لن أتلمّس بهاء الجنة المحاورة لأحلامي .. دائماً هناك ما يتساقط على سطح المنزل ، هناك ما يذبل في كف القابلة ، هناك ما ينحني لفتنة القتيل . وفي ( انعتاق الأخطاء من سلطة اليد ) يستثمر ثيمة الشك الفلسفية لفتح ملفٍ سريٍّ عن أخطائه المتناسلة على سيناريو حياته ، وذلك عبر مشهد متخيل تنفتح صوره على بعضها في سردية تمددت على متوالية سطور تنتهي بأسئلة : ....ألتفت إلى المنعطف القادم ، حيث تنتظرني حواسي نائمةً في صندوق بأقفال بيضاء ، أفتحه لأجد كلّ ما سقط سهواً أسفل الطريق : كذبة الجسد ، أنثى ، نظرات مبللة كأنها ثلج يحوك مؤامرة ( ثلجٌ يرمّم بالأخطاء أنوثة المعنى ) ... كيف أغلق ثقوب هشاشتي ؟ نائمُ في الغواية ( أو غوايةٌ نائمة ) ، أيّتها اللغة أيّ فحولة ترتجينها في هذه المساحة العزلاء ؟ ما جدوى البياض ؟ وفي محاولته للإشتغال مع الأسطورة في ( صحراء آدم ) يحاكي شخصية آدم في تحولاته الاستكشافية لمعرفة كنه وجوده منذ خطيئة قظم تفاحة المعرفة وطرده من جنة السعادة ، إلى صحراء العذاب الأبدي ، وتيه اللهاث اليومي المقيت : أنا الذي جعل المرآة تنزف ، وعلّق الفأس في عنق غيمة نائمة ، فمن يرشدني إلى الطوفان / الطوفان لأغرق ، أو إلى الساقية / الساقية لأغفو ؟ من يحمل الجرّة إلى آدمَ ، قبل أن يغلق صحراءه ، وينام ... ؟ ( الغيابة العظمى ) نص يجوس منحاً وجوديا في تقصّيه لكنه ميتافيزيقيا الوجود ، وذلك من خلال تصور متخيّل ليوم الفناء الآدمي ، وافتراض حوار تساؤلي واخز مع << عنقود أسراره >> القاطن في الأقاصي : الآن أيقنت أنك أنت أعدائي ، قلت لعلّكَ الأعلى .. فتسلّقت صوتي ، وكانت المآذن تغرق في حشرجاتها ،
قلت لعلك الأسفل .. فرأيت في جمجمتي نفقاً يعوي ، وعظامي شوارع في الصحراء ، ليس الأعلى والأسفل سوى أوثانٍ تنهش لحم الفراغ ! ل شيء فوقي سوى جثة تفتش عن غراب ، ( هل يكفي هذا لتصبح الأرض مساحةً لضجيجنا ؟ ) ويعمد في متون ( الوافد : مصائد ومخارج ) و ( 3 لوحات ) و ( الليل وهوامشه ) إلى الإفادة من الطاقات التعبيرية للقصيدة ذات المقاطع القصيرة ، في سيميائيتها اللغوية الموجزة والمحملة بالتشفيرات التأويليه والدلالية والرمزية والتخمينية والحضارية والداعمة لمعاني القصيدة . فتراه حينا يعتني برسم الصورة : ينزلق من عري إلى آخر ، ممسكاً بلهاثهِ خشية السقوط ، مأخوذاً بإيقاعات الهدم . أو يلجأ إلى التدوير الشعري : أسوار .. تفصلني عن الصحراء ، التي تفصلني عن المدن ، التي تفصلني عن البحر ، الذي يفصلني عن ... أو يدعم المقطع بهامش ، وهي محاولة لإعادة كتابته ، لفتح قنوات جديدة لولوج المعنى . هامش4 : مطمئناً أخرج إليك أيها الليل ، فقد تركت جسدي نائماً ، ألقيت عليه أغطيةً ثقيلة وأوصيته أن يحتفظ لي ببعض الأحلام .
بعد هذا الإيغال العجول في المتون ، نستنتج ، أن لا رادع للشعر حين ينثال من المخيلة . ولا رادَّ له في ترحاله عبر اللا مأهول ، ولا وصايا أو محددات أو مصدات لكيفيات مثوله أمام التلقي ، هو جريانٌ حثيث ومتواصل ينضح من منابع شتى ، في جدلية انبثاقٍ دائمة الحراك .
بيد أن الشعر الجاد والأبدي الحضور ، من يتمتع بمنظومة اتصال عالية الكفاءة في البث المعرفي ، والتي تمكنه من الصمود أمام نزوعية وتمترس منظومة التلقي في كل حين ، ويبدو أن فكرة موت المؤلف البنيوية ، فيها شيء من الإنصاف لماهية الإبداع ، وذلك لانصراف هذه الفكرة التام إلى النص دون سواه ، للتعرف على آليات حسن إنتاجه وحسب ، دون الانشغال باعتبارات أخرى لا علاقة لها بالعمل الإبداعي ، وحسبي وفقت في وقوفي على كتاب الشاعر الأعزل ، الذي لم ألتقِ به أبدا إلاّ من خلال كتابه الشعري هذا ، والمرسل لي عن طريق الصديق عدنان الفضلي ، والذي نَمَّ عن مخيلة مجبولة على تقصي تضاريس الشعر الأكثر وعورة ومغامرة ، وهو أعزل فعلاً ، إلاّ من مرجعيات ثقافية خصبة ، مكّنته من دحض متاريس الذائقة الخام والكسلى الباحثة بطبيعتها عن السهل اللا ممتنع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب


.. كلمة أخيرة - صدقي صخر: أول مرة وقفت قدام كاميرا سنة 2002 مع




.. كلمة أخيرة - مسلسل ريفو كان نقلة كبيرة في حياة صدقي صخر.. ال


.. تفاعلكم | الفنان محمد عبده يكشف طبيعة مرضه ورحلته العلاجية




.. تفاعلكم | الحوثي يخطف ويعتقل فنانين شعبيين والتهمة: الغناء!