الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدعوة إلي السفر شعراً ونثراً للشاعر شارل بودليراً

محمد الإحسايني

2006 / 8 / 22
الادب والفن


حلم توّاق إلى" أرض النعيم" ومواجهة الوعي الذاتي للمتعدد

نشر بودلير، "الدعوة إلى السفر"، ثلاث مرات (1857، 1861، 1862). أدخلت على القصيدة، رتوشات بينة. وثمة فرق بين صوت القصيدة نثريا وبين صوتها شعريا. حيث إن القطعة النثرية مفعمة بالتهكم. رفض بودلير أن يقلد أثر غيره، أو حتى أن يعارضه أدبيا، فأصر على أن يكون هو ذاته. يعني ذلك، أن شاعر "أزهار الشر" فطن مبكرا- بالرغم من ظروف النشر الصعبة- إلى ضرورة البحث عن لغة جديدة، فتراه ينطلق نحو الغير متوجسا تملؤه الرغبة في المعرفة والإحاطة بأكثر مما هو معروف ومحدد. وعندما يكتب أنه لن يكون سوى ذاته، كان قد حدد خوفه من الذوبان في "الغير"، وفطن إلى الــعــــــــــــــــددي
في الفرد. وهنا أيضا يتعدد خوفه من الهاوية، ومن الدوامة، ودوار اللانهائي في اللامحدودية، اللانهائي في نفسه. وإزاء غياب العمل، والرغبة والحلم، وحتى الكلمة أحيانا : هل وجد بودلير وسيلة تهدئة الأمواج المضطربة ؟ هل استطاع أن يصنع حلما غائبا داخل فتور النفس، وتضعضعها، إلى حد استحالة الوجود ؟ وهل وجد في هذا "التجاوز" عزاء وصحوا للوعي ؟ إنها أسئلة تتحدد في مفهومه للفن، والرغبة التي تتجاذبه نحو "الغير" في الاتجاهين : موجب / سالب وهو ما نلمسه في مدى وعيه باللجة، وما يتولد منها بين الوعي بالذات، ولا محدودية العدد، والتهديد الناجم عن الـ تكاثر. "الدعوة إلى السفر"، إنما هي هذا الحلم التواق، إلى "أرض النعيم"، أو جنة عدن من نوع آخر. هناك بعض أ
غاني الأوبرا، يمتح منها الخيال البودليري، ببارودية وسخرية واضحة، تلك الرغبة في الذهاب إلى "يوتوبيا" مزعومة من هذا النوع الذي يستبطن سخرية ما، سرعان ما حوله الشاعر بمهارة فائقة في "القارورة"، إلى مرثية جنائزية : حيث يتحول الطيب إلى نتانة، وذخائر "الشرق" – يقصد هولندا ومستخلصات مستعمراتها في إندونيسيا – إلى رائحة حادة لأزمنة منصرمة .ومع ذللك؛ يظل الميناءمكاناً لتوحيد العالم:

ظلت تنام،
ألف بنات أفكار
في خدر حزين
ترتعش بهدوء
في الظلمات الكثيفة
التي تنفض جناحها وتنطلق
مموهة باللازورد،
مصقولة بالورد،
مزركشة بالذهب
ها هي الذكرى النشوى التي تختلج
في الهواء المضطرب؛ تنغلق عيناي؛
يأخذ الدوار نفسي المنهزمة ويدفعها بيدين اثنتين
عبر هوة مظلمة من الأبخرة الإنسانية العفنة،

كذلك عندما أصبح تائها في الذاكرة
عندما ُأرى مرميا في زاوية مرآة مشؤومة،
هناك رجال، أيتها القارورة الشائخة المحزونة،
الفانية المغبرة، القذرة، الخسيسة، اللزجة، المشقوقة

سأصبح نعشك أيتها النتانة الودود
شاهد قوتك وشدتك
عزيزي السم الذي يضنيني، يا حياة وموت قلبي !
(القارورة) "أزهار الشر"
تستمد "الدعوة إلى السفر" مرجعيتها من اللوحات الهولندية في القرن 17. لوحات Pieter de Hooch أولى وأخص من لوحات Verneer ، المغمور في ذلك العصر.
وبغير هذا ؛ فإن رعب الهوة محسوس يتجلى في وضع علاقة مع الاستحواذ العددي. بعد هذا، هل يصدر عنده الحب عن فكرة نبيلة ؟ فكرة التعدد بعموميتها وعدم فردانيتها تنفي ذلك، بل تهبط بفكرة الحب إلى الخسة والدناءة.
وعندما يقارن الشاعر بين سمطرة التي تشكل الأرخبيل في جزر السند في ذلك العصر؛ فإنما ليؤكد التشابه بين بلد الأحلام هذا، وهولندا التي تؤمن تجارتها انتعاشا ويسرا للناس، والتي اشتهرت ببستنتها. لا يخفى هنا تأثره بـ "ألان إدغاربو" في المفروشات، قدر تأثره بالعمارة والمفروشات وأواني المطبخ الهولاندية. بيد أن العديد من الكتابات البودليرية تعبر عن هذا الرفض " للطبيعي"، وعن رفض تبرير البحوث الأكثر سفسطائية. ومع ذلك، قد لا يتوقع الإنسان النظر إلى هذه البحوث مشتركة في وداعة، أو في أواني المطبخ (التي تظهر بانتظام في التصاوير الهولاندية)، يحصل نفس التباين بمزيد من التباعد بين "مزاولي الكيمياء القديمة" وبين البستنة كحرفة وديعة جدا. وعندما يذكر الشاعر العملة الهولندية "فلورين" فإنما ليلمح إلى المبالغ المدهشة المقدمة في القرن 17 بواسطة الهواة الهولنديين، إلى الذين يزودونهم بالأزهار، ذات ألوان يتعذر الحصول عليها.
ومن ثم، نراه يسرد أنواعا من الزهور، كالداليا والأقحوان –مرجريت- في حين نجد "الداليا الزرقاء"، ما هي إلا عنوان لأنشودة "لبياردوبون" ظهرت في ديوان قدم له بودلير. وتمثل الزهرتان "تيوليب الزنبقية" السوداء، و"الداليا الزرقاء" حلما مستحيلا.
يمتلك الشاعر مقدرة فائقة في تحويل البحث عن مثال ما، في عودة إلى حياة سالفة. فـ"الدعوة إلى السفر" كشعر موزون، عبرت عن نفس المقدرة يقينيا بالعثور على جنة سالفة :

كل شيء هناك سوف يتحدث
إلى النفس سرا
لغة مسقط رأسه العذبة

ويرجع الشاعر إلى نظريات الرمزيين الشهيرة في العصر الرومانطيقي، ومفادها أن كل شيء، وكل كائن، يندرج في شبكة من العلاقات، ومن التماثلات التي تربطه بالكون أجمع (انظر هذه المرجعية في Swedenborg ص 144- هامش 1 بيد أن هذه "الثيمة" هي "ثيمة" القصيدة الشهيرة Correspondances – "أزهار الشر"، إذ تتخذ عند بودلير، دلالة إستطيقية : فالخيال يتيح للفنان، أن يقدم هذا العالم الذي تتجاوب فيه العطور، والألوان والأصوات"،في وحددة متجانسة.
الظاهرة الشعرية الأخرى التي نتعرف عليها في "الدعوة إلى السفر"، أن بودلير في غالب الأحيان، وبالخصوص، في هذه القصيدة الآنفة الذكر، بكونها موزونة، يوجد صورة الميناء – بكل إيحاءاته الممكنة – وإن لم تشترك لا في الذهاب، ولا في الإياب، لكن في الحركة الملتمة من كل ثروات العالم، نحو من ينتظرها، جالبة إليه أداة التغريد (كذا)، وتمام الإقتدار وهوما لا يتنافى ايضاًمع الحيز الوحدوي للعالم الذي يمثله الميناء.
من هنا نرى أن "الدعوة إلى السفر" نثرا، أو شعرا، تستحق أكثر من هذا التحليل، نظرا لكثافتها الشعرية وثيماتها ومرجعياتها.

انـظـر
(Baudelaire, le Spleen de Paris, Edition établie, présentée et commentée par Yves Florenne.
Notes complémentaires de Marie-France Azéma).



الدعـوة إلـى السـفـر


نـص شـعـري
ولدي، أختي،
أحلمْ بطريقة لطيفة
أحلْم بأن نذهب إلى هناك،لنعيش جميعاً
ارغب في الراحة
أحب ومْت،
في البلد الذي يشبهك !
شموُسه المبللة
من هذي السماوات الملبدة
من أجل روحي لها المفاتنُ
المكتنفة كثيرا بالأسرار
مفاتن عينيك الخائنتين،
تلمعان عبر دموعهما
هناك ... كل شيء ليس إلا نظاما وجمالا،
فخامة، هدوءا، واشتهاء حسيا.

سوف يزين غرفتنا،
أثاث متوهج،
صقلته السنون؛
الزهور النادرة جدا
تمتزج أرائجها
بروائح العنبر الملتبسة
] وإذا لقيت، هناك، لقيت [ السقوف الباذخة
والمرايا العميقة،
والتألق الشرقي،
كل شيء سوف يتحدث هناك.
إلى النفس سرا
لغة مسقط رأسه العذبة.

هناك ... كل شيء ليس إلا نظاما وجمالا،
فخامة، هدوءا واشتهاء حسيا.
أطلي على هذه القنوات
حيث تنام هذه البوارج
مزاجها شارد؛
ومهما تبحر من أقصى العالم
فلكي تشبع أقل رغبتك
- الشموس الراقدة
تكسو الحقول،
والقنوات، والمدينة كاملة،
بالياقوت الأحمر وبالذهب؛
وينام العالم
في ضوء ساخن
هناك ... كل شيء ليس إلا نظاما وجمالا،
فخامة، هدوءا واشتهاء حسيا.

Baudelaire les Fleurs du Mal. Spleen de Paris et Idéal
(l’Invitation au voyage) p.p 136, 138


الدعـوة إلـى السـفـر
نـص نـثـري

يقال إنه بلد بديع، "بلد النعيم"، البلد الذي احلم بزيارته مع صديقة عزيزة. بلد فريد، غارق في ضباب شمالنا، وقد يمكننا تسميته "الشرق" في بلاد "الغرب"، و"الصين" في "أوربا". وبقدر ما أتيح فيه الخيال، بقدر ما صور من الخيال بأناة وإصرار، علماءه ونباتاته الطرية.
إنه بلد حقيقي لـ "النعيم"، كل شيء فيه جميل، غني، هادئ، وفاضل، يحلو فيه للفخامة، أن ترى نفسها مجلوة في نظام؛ الحياة فيه، ثرة ناعمة للتوق إليها؛ من حيث الفوضى؛ فإن الشغب وغير المتوقع، قد استبعدا؛ السعادة فيه، مقترنة بالهدوء، والمطبخ بالذات شاعري، دسم، ومثير في آن؛ الكل فيه يشبهكم ملاكي العزيز.
أتعرفين هذه الحمى التي تتسلط علينا عند الشدائد القاسية، وهذه النوستالجية للبلد الذي نجهله، وهذا التضايق من حب الاستطلاع ؟ توجد بقعة تشبهك، كل شيء فيها جميل، غني، هادئ وفاضل، الخيال فيها شيد وزخرف "صينا" غربية، الحياة فيها ثرة ناعمة للتوق إليها، والسعادة فيها مقترنة بالهدوء. هناك ينبغي شد الرحال إليها للعيش، وهناك ينبغي الذهاب للموت فيه !
أجل، هناك ينبغي أن نصبو، وأن نحلم، ونمدد الساعات من خلال اللانهائي للمشاعر، كتب موسيقار لحنا لـ "الدعوة بالفالس ". فمن ذا الذي سيلحن "الدعوة إلى السفر" التي يمكننا تقديمها إلى المرأة التي نحب، والأخت التي وقع عليها الاختيار ؟
أجل، في هذه البيئة سيطيب العيش – هناك الساعة فيها أبطأ، تتضمن مزيدا من الأفكار، وآلة الساعة فيها ترن سعادة بأبهة اعمق وأكثر دلالة.
فوق دعامات خشبية مضيئة، أو فوق جلود مذهبة ومن نفائس داكنة اللون، تحيا ببساطة، لوحات تشكيلية وديعة، هادئة ومتأصلة، مثل نفوس الفنانين الذين أبدعوها.
الشموس الراقدة التي تلون قاعة الأكل تلوينا بمثل هذه الأبهة، أو الصالون، متسللة من خلال القماشات الرائعة أو من خلال هذه النوافذ العالية المتقنة الصنع بمهارة، التي يقسمها الترصيص إلى أجزاء متعددة. الأثاث وافر، طريف وعجيب، مسلح بالمغالق وبخزائن الأسرار، مثل نفوس مرهفة. تعزف المرايا والمعادن والقماشات والصباغة والخزفيات، هناك للعيون سينفونية صامتة ومليئة بالأسرار؛ ومن كل الأشياء، وكل الزوايا، وشقوق الأدراج، وثنايا القماشات، يتسرب عطر فريد، "عودة معهودة " من سمطرة، عطر مثل روح الشقة.
أقول لك إنه بلد حقيقي لـ " النعيم "، كل شيء فيه غني، نظيف، ومتوهج، مثل ضمير صاح، ومثل أواني المطبخ، وحلي متألقة، وجواهر مبرقشة ! تتدفق هناك كنوز العالم، مثلما الحال في بيت رجل مجد، ومن له الفضل في العالم أجمع. إنه بلد فريد، أفضل من البلدان الأخرى، مثلما "الفن" الشرقي أفضل من "الطبيعة" حيث أعاد الحلم صياغة هذه الطبيعة وحيث إنها صححت، وأعيد انصهارها.
لو انهم يبحثون، ولو أنهم مازالوا يبحثون، ولو أنهم دفعوا وراء بدون توقف الحدود لسعادتهم، هؤلاء الكيماويون القدامى للبستنة ! لو أنهم يقترحون أسعارا من ستين ومن مائة ألف " فلورين" لمن سيحقق رغباتهم الجامحة !
أنا وجدت "زنبقتي السوداء" و " دهلياي الزرقاء " !
إنها زهرة لا مثيل لها ، عثر عليها ثانية، هي داهليا رمزية، إنها هناك، أليس كذلك، في هذا البلد الرائع، الهادئ والحالم بهذا القدر، والذي ينبغي الذهاب للعيش فيه والازدهار ؟
ألا تصبحين مؤطرة في تشابهك، أولا تستطيعين أن تري نفسك، من أجل أن تتحدثي مثل الرمزيين في " تجاوبك" الخاص ؟
أحلام ! دائما أحلام ! فضلا عن ذلك؛ فإن النفس طموح ورهيفة، وأكثر من ذلك، تبعدها الأحلام عن الإمكان. إن كل امرئ يحمل في نفسه كمية خفيفة ومتجددة من الأفيون الطبيعي باستمرار، وكم نحسب من الساعات المليئة بالاستماع الإيجابي، خلال العمل الناجح والحاسم، من الولادة إلى الممات ؟
إن هذه الكنوز وهذه الزهور المدهشة، لهي أنت، إنها لا تزال أنت، هذه الأنهار العظيمة وهذه القنوات الهادئة. إن هذه السفن الهائلة التي تجر منقولها ، المحملة تماما بالثروات، والتي تتصاعد منها الأغاني الرتيبة لعمال الباخرة، لهي أفكاري التي تنام أو التي تتقلب على شيئك. إنك تقودينها بهدوء، عبر البحر الذي هو اللانهائي، متفكرة كل التفكر في أعماق السماء داخل صفاء النفس الرائعة – السفن متعبة بالتماوج، ومكتظة بنتاجات "الشرق"، وعندما تدخل الميناء مسقط الرأس، فهي أيضا أفكاري الغنية التي جاءت نحوي من اللانهائي.

ترجمة وإعداد محمد الإحسايني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد عز يقترب من انتهاء تصوير فيلم -فرقة الموت- ويدخل غرف ال


.. كلمة أخيرة - الروايات التاريخية هل لازم تعرض التاريخ بدقة؟..




.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حوار مع الكاتب السعودي أسامة المسلم و


.. تفاعلكم | الناقد طارق الشناوي يرد على القضية المرفوعة ضده من




.. ياسمين سمير: كواليس دواعى السفر كلها لطيفة.. وأمير عيد فنان