الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عباس الكردي والثورة والسلطة والأخلاق

نهاد ابو غوش
(Nihad Abughosh)

2021 / 10 / 11
أوراق كتبت في وعن السجن


نهاد أبو غوش
مع انتشار أخبار التجاوزات التي ترقى إلى مستوى الفساد والتعدي على المال العام في ملف "وقفة عز"، وما نشر عن ملف "القدس عاصمة الثقافة العربية"، يقفز السؤال مباشرة: هل الخلل يكمن في أخلاق الناس التي خربت حتى بات كثيرون منهم يحسون أن كل ما هو موجود في متناول أيديهم متاح لهم استخدامه واستنزافه أو سرقته، أو أخذه بكل بساطة وبكل وقاحة، وينطبق عليهم قول أمير الشعراء أحمد شوقي
وإذا أُصـيـب القـــوم في أخـلاقـهــــم فـأقـــمْ عـلـيـهـــم مـأتـمـــاً وعــويــلا

مع أن المأتم والعويل يجدر أن يقام على الحالة العامة وليس على الأشخاص الذين اصيبوا في أخلاقهم، أم أن الخلل إداري نتيجة غياب أو اختلال منظومات الرقابة والشفافية والنزاهة؟ أم أن الأمر متداخل ومترابط، فالسياسي يقود إلى القانوني والإداري والاجتماعي والأخلاقي، ومن الصعب أن نفصل بين هذه الحلقات المتداخلة؟
ملفا الفساد المتصلين بصندوق "وقفة عز" و"القدس عاصمة الثقافة" ملفان محددان وموصوفان، ولكننا نعلم عن عشرات ملفات الفساد التي كانت تجري منذ قيام السلطة الفلسطينية، بشكل علني وشبه علني أو مسكوت عنه، وكان ذلك يتم في دوائر حساسة وخطيرة بدءا من هيئة البترول لوزارة المالية لحقائب الرواتب، ويستمر حتى الآن استغلال مواقع النفوذ والسلطة للتربح وتحقيق مكاسب شخصية بما في ذلك تعيين الأبناء والأقارب والمحاسيب في وظائف مرموقة على حساب المال العام، وعلى حساب معايير الكفاءة والجدارة والتنافس وتكافؤ الفرص بين الناس، ويشمل ذلك الاستفادة من الإعفاءات الجمركية، والاستفادة من التحويلات الطبية، والمنح الدراسية. هذا بخلاف الامتيازات الكثيرة وغير المبررة التي يحظى بها المسؤولون بحسب ارتفاع مستوى مسؤولياتهم، والتي تشمل ما يسمى "النثرية" والموازنات الخاصة التي لا تخضع لأي حساب أو مراقبة، ومستلزمات الوظيفة من سيارة ووقودها وصيانتها وتأمينها، وهواتف بسقوف فواتير عالية جدا، وقدرات على استصدار قرارات مكلفة لفرش وتأثيث المكاتب، وصولا حتى للمصاريف الشخصية مثل أجرة البيت وفواتير المنزل من كهرباء وماء وانترنت وحتى أن البعض يستصدر فواتير رسمية لكل مصروف ممكن ولا يخطر على البال، بما في ذلك تكاليف التردد على المطاعم الفاخرة ومصاريف المصابغ والتنظيف الجاف والكوي، وهي كلها مصاريف تدل على الشراهة واستباحة المال العام، مع أن المسؤولين الذين يفعلون ذلك يتمتعون برواتب مجزية وليسوا بحاجة ابدا للتعدي على المال العام، ما لم يكونوا يحسون في قرارة انفسهم بأن كل ما يفعلون هو حق لهم لأنهم فلتات زمانهم، ومن النعم والأعطيات التي منّ الله بها على شعبهم المغلوب على أمره.
كل هذه التجاوزات حصلت نتيجة افتقاد الثورة الفلسطينية وقواها الرئيسية لضوابط ومعايير أخلاقية كان يمكن تنميتها وتربيتها من خلال التدريب والتثقيف والتربية الحركية والحزبية، وطرق اختيار الكادر، وتقديم النماذج "القدوة" من قبل القادة للعناصر، بدلا من أن ترث الثورة وتعيد اجترار كل آفات المجتمع الإقطاعي الأبوي، والبرجوازي المشوّه، الذي ساهمت الطفرة النفطية وتدفق المال الخليجي والتدخلات السلطوية العربية في تفاقمه واستشرائه.
خلال تداول هذه الملفات والاطلاع عليها تذكرت مناضلا عايَشَنا لفترة حوالي عامين في سجن المحطة في عمان الأردن قبل 40 عاما، ولا أعرف عنه شيئا الآن، اسمه عباس زادة وهو على الأغلب اسم حركي وليس حقيقيا، عباس هذا هو مناضل كردي من أكراد تركيا وهو من مدينة اورفة (الرها القديمة أو سانلي أورفا كما تسمى حاليا، مدينة على الفرات وقريبة من الحدود السورية) . كان عباس ينتمي لحزب العمال الكردستاني PKK بزعامة عبد الله أوجلان، قاده حظه إلى الأردن وكانت معه بالصدفة هوية للجبهة الديمقراطية ووثائق مزورة تظهر أنه إيراني مع أنه لم يكن يعرف كلمة فارسية واحدة، وقد حبسته السلطات الأردنية بعد أن عجزت عن تحصيل اي معلومة منه ، وكان معه زميل له كردي سوري من مدينة عامودا، وبصرف النظر عن مواقف الحزب وأساليبه التي يمكن لأي يساري أن يتفق معها أو يختلف، فقد كان عباس ثوريا حقيقيا بأخلاق ثورية، لم يكن يعرف العربية ولا الانجليزية ولكنه كان قادرا على التواصل مع الآخرين والحوار معهم في أدق المواضيع واكثرها صعوبة سياسية كانت أو علمية او اجتماعية، كان في أواخر العشرينات وعاش مع رفاق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في السجن، فكان نظام الحياة الرفاقية يقضي بصرف مبلغ دينار اردني واحد لكل رفيق في الأسبوع من اجل مصاريفه الشخصية التي يمكن للسجين أن يشتريها (خلاف الطعام واللوازم العامة) ، فإذا انقضى الأسبوع ومع عباس نصف دينار أو اي مبلغ آخر، كان يرفض أن يأخذ أكثر من الاستكمال حتى يصبح ما معه مثل الآخرين، يرفض أن يأخذ أكثر من حاجته، وكان يحدد حاجته بأقل قدر ممكن من الضرورات. وغير ذلك كان عباس مثالا في التسامح والمبادرة واللطف والتهذيب والخدمة الرفاقية والزهد والإيثار، حين كان يأتي دوره كان يتفانى في خدمة الآخرين بحب وإخلاص ويحرص على تقديم افضل ما عنده، وقد عكس صورة مشرقة ورائعة للمناضل الثوري ولشعبه الكردي لدى كل من عرفه، وما زلت أحتفظ باعتزاز، ببطاقة معايدة أرسلها لي من سوريا بعد الافراج عنه.
الأخلاق ركن ضروري لأي ثورة ولأي حزب ولكل مجتمع سواء كان المجتمع الواسع العام او مجتمعا جزئيا مناطقيا أو قطاعيا أو مهنيا، بدون الأخلاق تسود شريعة الغاب، وإذا عجزت قيم المجتمع وضوابطه الأخلاقية عن ضبط سلوك الأفراد وفق معايير تنسجم والصالح العام، فإن على القوانين والانظمة والتعليمات، وادوات الرقابة والمحاسبة والردع والجزاء والعقاب ان تفعل فعلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:


.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي




.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل


.. طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيش حالة رعب ا?ثناء قصف الاحتل




.. النمسا تقرر الإفراج عن أموال -الأونروا- التي تم تعليقها سابق