الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين إريك زيمور وقيس سعيد

راتب شعبو

2021 / 10 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


ليس قليلاً ما يجمع بين صعود قيس سعيد في تونس وصعود إريك زيمور في فرنسا، كلاهما قادم من خارج الأحزاب والوسط السياسي، وكلاهما حاز على حضور عام من خلال برامج التلفزيون الحوارية. الأول أستاذ في القانون حتى وقت إدخاله إلى السياسة من الباب الواسع، وهو معاد أو كاره للأحزاب السياسية، والثاني صحفي وكاتب ذو أفق سياسي محدود بأفكار من طبيعة عنصرية، تطوعت فئة من الشباب الفرنسيين وبنوك ووسائل إعلام، للنشاط من أجله والترويج له ودفعه إلى الترشح الرئاسي، على الطريقة نفسها التي تطوعت فيها فئة من التونسيين الشباب لدعم ترشيح وتمويل وإيصال قيس سعيد إلى الرئاسة. وكما أظهر سعيد "تعففاً" وزهداً بالمنصب، يبدو زيمور وكأن المنصب يسعى إليه وينتظر منه إعلان الترشح، وهو ما لم يفعله حتى الآن. على أن ثمة ما يفرق بين "الظاهرتين" من الناحية الشخصية، ففي حين يبدو سعيد شخصية أخلاقية أو "شريفة" (هذه ليست صفة ضامنة في السياسة على كل حال) ولا تهوى الجدال ومن طينة قريبة للناس ومتعاطفة معهم، يبدو زيمور شخصية مناقضة، مع ملاحظة أنهما يجتمعان على تقسيم الناس إلى أشرار وخيرين، كل حسب معاييره الخاصة. إذا كان محدد الشر عند سعيد سياسي يتعلق بالولاء، فإن محدد الشر عند زيمور ثقافي يتعلق بمفهوم "مغلق" عن الحضارة الفرنسية.
لهذا التشابه حدود يفرضها ثبات النظام الديموقراطي في فرنسا وضعفه في تونس. إذا كان النظام السياسي الحديث العهد في تونس قد سمح بوصول مرشح غير واضح المعالم السياسية، إلى الرئاسة، أملاً بمخلّص فرد، وسمح لهذا المخلّص بالانقلاب على السياق الديموقراطي، فالراجح أن طريق زيمور إلى قصر الإليزيه ليس سالكاً، غير أنه، مع ذلك، استطاع بصعوده اللافت (استطلاعات الرأي تعطيه 17% متجاوزاً الجميع باستثناء الرئيس الحالي 23%) أن يحرف المشهد السياسي الفرنسي إلى اليمين. بات القلق والمخاوف المرضية التي يثيرها ويجادل فيها ويجذب جمهوراً محبطاً، مثل موضوع "الاستبدال الكبير" الذي يقول إن هناك شعوباً أخرى (مسلمة غالباً) سوف تحل، مع الوقت، محل الشعب الفرنسي "الأصلي"، وموضوع الهجرة واللاجئين، من المواضيع المفضلة للصحفيين وللجمهور في البرامج والمقابلات.
ما يكمن في أساس تراجع الأحزاب التقليدية أو بروز ظاهرة صعود شخص بأفكار ضحلة في فرنسا، هو وصول النظام الديموقراطي إلى حدود تجعله قليل القدرة على معالجة مشاكل عموم المحكومين الذين باتوا يشعرون أن نفوذية هذه الديموقراطية لا تمرر تأثيرهم إلى المستويات العليا. هناك بالتالي يأس من الطبقة السياسية ونزوع إلى نسف التوافقات وإلى التأثر بغواية الأفكار الصادمة. يتلاقى هذا الميل الشعبي مع ميل نخبوي للهروب من مشاكل البلاد الفعلية نحو لغة وتحليلات هوياتية زائفة لمشاكل فعلية، ما يؤدي إلى بروز الظاهرة المذكورة. أما في تونس فإن سبب بروز سعيد هو تحول الديموقراطية الناشئة، باعتبارها حديثة العهد في بلد محقون سياسياً، إلى مسرح للصراع الحزبي وعجزها عن ملاقاة توقعات الشارع العريضة بالحرية والرخاء.
في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، اخترق الطبقة السياسية رجل اسمه ايمانويل ماكرون وكان قد شكل حوله تياراً سياسياً (إلى الأمام) قبل سنة واحدة من الانتخابات، ونما هذا التيار بسرعة على حساب اليمين واليسار الفرنسي، فهذا التيار ينظر إلى نفسه على أنه يتجاوز اليمين واليسار أو يجمعهما، والحق أن الفارق السياسي بين اليمين واليسار التقليديين في فرنسا ضبابي. جدة ماكرون على المشهد السياسي (كان وزير الاقتصاد في رئاسة الاشتراكي فرانسوا أولاند لأقل من عامين ولم يسبق له أن انتُخب لأي منصب) لم تكن عقبة في طريقه، العكس أصح، فعلى خلفية ركود وتكرار الطبقة السياسية بين يسار اشتراكي ويمين جمهوري، ساعدت حداثة الرجل (حداثته على المشهد وحداثة عمره) وتوجهه الهجين الاشتراكي الليبرالي، في توجه أنظار الناخبين إليه، فانحصر خيار الفرنسيين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين الوسط (ماكرون) واليمين المتطرف (مارين لوبين).
اللافت في هذا المشهد هو أن صعود ماكرون ترافق بتراجع الحزبين التقليديين في فرنسا، فقد تراجع الحزب الجمهوري وخسر مرشحه إلى الرئاسة (فرانسوا فيون) من الدورة الأولى، وقد ساهم في خسارته بلا شك وقوعه تحت ضغط فضيحة فساد فجرتها الصحافة الفرنسية في وجهه حينها. كما تراجع، أو قل انهار، الحزب الاشتراكي الذي عانى من تفكك ونزيف في الكوادر، لصالح حركة (إلى الأمام)، واضطر، تحت ضغط أزمة اقتصادية وسياسية، إلى بيع مقره في باريس. وقد حصل مرشحه الرئاسي (بنوا آمون) على 6% فقط من الأصوات في الدورة الأولى، وخسر حتى مقعده في البرلمان بعد ذلك، ما دفعه إلى تأسيس حركة مستقلة عن الحزب الاشتراكي باسم (أجيال)، تكاد لا تذكر اليوم. في موازاة ذلك ارتفعت أسهم ما يصنف على أنه يسار متطرف، ممثلاً في (France Insoumise) "فرنسا العصية"، وأسهم اليمين المتطرف ممثلاً في "الجبهة الوطنية" التي أصبحت "التجمع الوطني" لاحقاً.
غير أن الحكم الوسطي لماكرون كان فترة خصبة للاحتجاجات والاضرابات التي اندلعت بسبب تجرؤ هذا "الوسط" على مهاجمة مكتسبات تاريخية للشعب الفرنسي، مثل القدرة الشرائية وقانون العمل وسن التقاعد. في 2018، برزت احتجاجات السترات الصفراء التي كشفت أن هناك فئات واسعة من الشعب الفرنسي تعاني من مشاكل معيشية، وأن الصراعات الحزبية كانت غالباً بعيدة عن هذه الهموم، ما جعل السترات الصفراء تتحرك ضد الطبقة السياسية بالكامل. قدمت حينها الاحتجاجات مطالب شعبية واضحة ومحددة تم الاستجابة لقسم قليل منها، ثم تفتت الحركة بتأثير الزمن وتصعيد القمع والجائحة الفيروسية، وأيضاً لأن بعض شخوصها البارزين انساقوا وراء طموحات سياسية.
يقال إن المسيح قد انتصر لأن سبارتاكوس كان قد هزم، بالقياس يمكن القول إن بروز شخصية مثل إريك زيمور صار ممكناً أكثر لأن حركة السترات الصفراء تراجعت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار