الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشهد آخر من رواية (موطن الخيبات) فاضل العتابي

العتابي فاضل

2021 / 10 / 15
الادب والفن


مشهد من أحد فصول رواية (موطن الخيبات)
فاضل العتابي

ذات ظهيرة قائضة في (بار جوزيف) مقابل (Radisson Blue Hotel) في مقاطعة (أنتويربن) البلجيكية،
جلس الكلب تحت ظل شجرة وارفة وهو يمد لسانه وينظر ببلاهة لذلك الرجل المسن وهو يحرك مؤخرته ذات اليمين وذات الشمال بحركة سريعة على إيقاع النغم المغاربي المنبعث من جهاز التسجيل الذي يعلقه على رقبته مع الكثير من الأشياء وهي تتدلى فوق صدره.
كرع ما تبقى بقاع الكأس وشرع بمغادرة يومه ليطعم ذاته الخيبة والتعاسة الملازمتين له وهو الغريب في أرض جديدة مليئة بالوجوه المشرقة، دائمة الضحكة وهو الذي لم يعرف ذلك قطّ، هو جاء من بلاد القهر والحروب، بلاد الزنازين المقفلة والسياط الملتهبة وهي تلامس أجساداً أدمنت الألم، ولدت تحت ركامه وتنبعث من بقايا رماده.
تحرك الكلب متوجها نحوه وهو يهز ذيله وراح يقترب أكثر حتى لامست رقبة الكلب ساقه وصار يحتك بها وكأن هناك ألفة وصداقة قديمة، شعر براحة تامة وانتابه شعور افتقده منذ زمن، شعور الركون إلى كائن صادق.
قرفص بقرب الكلب وراح يداعب رقبته بحنو! داهمه فجأة شعور الألفة بالمكان.
لا يعلم لماذا تذكر وجه أمه، شعر أن ذاكرته شاخت وهرمت، تذكر كرهه لأبيه ووجهه الذي تغيب عنه ملامحه، وكثيرا ما كان يراه مشوها ومسخاً.
انتبه إلى يد حطت على كتفه من الخلف، رفع رأسه ليواجه أنثى فارعة الطول تبتسم له والكلب فرح وهو يهز ذيله بحركة سريعة ويتقافز من حولها،
صحا من شروده على صوت تلك الأنثى بلغة لا يفهمها.
وهي تدعوه إلى مشاركتها طاولتها القريبة، كلمها بالإنكليزية لأنه لا يفهم لغتها.
سبقته وهي تتمايل في مشيتها مثل خيط البخور ودخان سيجارتها يتبعها مثل ذلك الخادم الغيور
وقف مندهشا أمام ما يحدث وهو يتذكر وقوفه في ذلك الطابور الطويل أمام بوابة تختلف عن تلك التي كانت تغلق وتفتح هناك، كان يقف مثل متسول بانتظار حساء الصباح منذ أيام...
والآن في حضرة أنثى تدعوه أن يشاركها طاولتها، دعته إلى الجلوس ونادت نادل البار وسألته عما يود شربه، وقبل أن يرد بالاعتذار أخبرت النادل أن يحضر كأسين من النبيذ الأحمر، وقالت: لا بد أنه يعجبك، رأيتك وأنت تحتسيه بمرارة من قبل.
قدمت له سيجارة وقبل أن يتناولها أشعلتها ووضعتها بين شفتيه.
بادرته بالسؤال: هل أنت أسبانيولي أَم لاتيني أَو، دعني أحزر أنت أسبانيولي؟ هز رأسه بالنفي بأنه لا ينتمي إلى أي من الذين ذكرتهم .
قال لها: أنا من بلاد القهر والفجيعة والزنازين وعويل الأمهات وبكائهن كل مساء وهن ينتبذن ركن الهوان ليستذكرن موتاهن بعذوبة الحزن.
قطبت حاجبيها وهي مستغربة!
سألته:
من أي قهر وفجيعة أنت قادم؟
أجابها: أنا من بلاد الحرف ومسلة القوانين، من بلاد الجنائن المعلقة من بلاد الزقورة المدورة،
أنا سومري من بلاد الحضارات التي أبهرت الكون، من بلاد الدكتاتوريات الحاضرة، من بلاد الزنازين والمعتقلات، بلاد المغيبين، بلاد النفط المهدور، بلاد الحرف والقصيد
هل عرفتِ من أين أنا؟
أجابت بطريقة شعرية
أنت من بلاد المشاحيف
من بلاد الذهب
من بلاد الأهوار والقصب والبردي
أنت سومري الملامح
أنت فارس الحضارات
أنت كلكامش
أنت الذي تبحث عن عشبة الخلود في ذاكرة البلاد،
سحب نفسا عميقا من سيجارته ونفثه في سماء الطاولة المشتركة، راحت تحلق حلقات الدخان فوق رأسها وفوق أنفها وفمها وهي تشهقها بلذة.
أخبرها بعد أن شرب كأسه حتى القاع علي أن أغادر الآن، وتمتم يشكرها على دعوتها.
سألته الى أين؟
إلى مكان يأوينا، نحن مشردي الديار، مدمني المنافي.
ظلت مندهشة تحلق في وجهه، قالت: أين هذا المكان؟ أجابها: منذ أسبوع وأنا أقيم فيه، قريب من هنا بأطراف المدينة.
ولأنني جديد ولا أعرف القوانين يجب علي أن أكون هناك قبل حلول المساء.
عرضت عليه أن تقله بسيارتها.
أجابها: كلا علي أن أعرف الطريق ليتسنى لي الرواح والمجيء ومعرفة الأماكن بلا دليل كما تعودت من قبل في كل محطاتي.
رجته أن يتريث قليلا لمواصلة تبادل الحديث.
شكرها على الدعوة اللطيفة.
قالت: لا بد أن تعود إلى هنا، أو أعطني رقم هاتفك لكي أتصل بك وأطمئنّ عليك.
أخبرها بأنه لا يملك هاتفا.
-إذن، أعطني العنوان كي أزورك وأتفقدك قالت له.
أخرج لها الأوراق كي تدون العنوان.
بان الفرح على محياها وهي تقرأ العنوان، قالت: إنه لا يبعد عن هنا كثيرا، هز رأسه بالإيجاب.
ودّعته وهي تشد على يده بحنان وملامحها حزينة لمغادرته السريعة.
أدار ظهره دون أن يلتفت إليها.
استقلّ الباص المتوقف بالقرب من البار، وهي تقف على حافة الرصيف، تحرك الباص والكلب يركض خلف الباص الذي أقله، شعر أنه يفقد شيئاً من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته