الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبلة يهوذا

سمر يزبك

2006 / 8 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


القبلة الأخيرة، القبلة الخائنة، المأجورة. قبلة يهوذا الاسخريوطي؛ المجاز الأبلغ لاقتراف الغدر. القبلة التي كانت أبشع الخيانات التاريخية المتلاحقة، تبدو في النص الروائي الذي يحمل اسمها "قبلة يهوذا" للروائي "أوبير برولونجو" في رؤية مختلفة ومغايرة عن كل ما تقدمه النصوص المقدسة والتاريخية عن حقيقة هذه الخيانة التي قام بها يهوذا، التلميذ الأكثر قرباً من يسوع، والذي تبعه منذ بداية دعوته، وكان من أهم المؤتمنين على تصريف المال وتفريقه على الجياع. لماذا يتهمه التاريخ أن الرومان دفعوا له مبلغ ثلاثين ديناراً ليدلهم على مكان المسيح، في حين أن هناك فرقاً تعتبر أن يهوذا هو من أكثر المخلصين للمسيح؛ فالغنوصيين مثلاً، يرون أنه سمح بخلاص البشرية جمعاء عبر خيانته، وذلك لأنه سمح بموت المسيح وقيامته بعد ذلك، على نفس المبدأ الخلاصي المتجلية في جملة الإمام علي بن أبي طالب: قاتلي في الجنة.
يبدأ أوبير برولونجو الحديث عن يهوذا، بوصفه البطل رقم واحد في الرواية، محولاً المعلومات التاريخية، والوثائق إلى حياة واقعية ملموسة عن بني إسرائيل، وعن خارطة فلسطين في تلك المرحلة، مرحلة ولادة المسيح، في رؤية تحليلية عميقة، بعيدة عن الإبهار الديني، عبر لغة حوارية وتوصيفية، بالغة البساطة، لكنها تصنع، بفسيفساء بسيطة، مشهدية عالية الدقة والواقعية المقنعة لذلك التاريخ، فيبدأ روايته بوصف أكثر المشاهد دمويةً وعنفاً وهو يصور حالة شعب بني اسرائيل، يذبحون، ويصلبون على الأشجار من قبل الجنود الرومان، مؤرخاً بذلك بدء حركة عصيان مسلح قام بها بعض اليهود، عندما رفضوا دفع المزيد من الضرائب للجيش الروماني، لأنهم لا يملكون ثمن طعامهم، فيثور غضب روما عليهم، ويصلب العشرات من الرجال حتى الموت، ويكون والد الصبي "يهوذا" أحد المصلوبين الذين تركوا في العراء ينزفون حتى الموت أمام ذويهم. ضمن هذا الجو من القتل، والاغتصاب والفقر، ينشأ يهوذا، وحقده مبالغ على الرومان، وتمسكه بدينه اليهودي، يجعله لا يحلم إلاّ بإعادة دولة بني اسرائيل، فيلتحق وهو ما يزال غراً، بحركة عصيان مسلح، بزعامة باراباس، ويتحول إلى ثائر على حكم روما، وعندما تقمع الامبرطورية الرومانية العصيان المسلح، يذهب إلى اروشليم، ليتزوج، وينجب طفلين، تٌحرق زوجته وطفليه على أيدي الجنود الرومان، فيعود ثانية الى جماعة بارباس الثائرة، ويلتقي بالمسيح في بداية دعوته، ويصبح واحداً من أهم أصدقائه،ً وتلاميذه الاثني عشر، ولكنه لا ينفصل عن جماعته المسلحة. كان يهوذا يحلم بمحاربة الرومان، وإقامة دولة يهودية، ويتبع المسيح من أجل ذلك، لكن المسيح كان يحلم بعالم أخر، وله تعاليمه المختلفة، يخبر يهوذا المسيح بأنه سيجعله كبش فداء من أجل بارباس، المعتقل عند الرومان، وأن هذه فرصته ليتحول إلى ملك على اليهود، ويقود ثورة ضد روما. المسيح يرفض التحول إلى ملك وعندما يزوره يهوذا للمرة الأخيرة في سجنه،بعد أن يكون قد وشى به، في خطوة استراتيجية كما كان يخطط، لتنصيبه ملكاً، يرفض المسيح، ويختار خلاصه الأخير بالصلب، فينتحر يهوذا بعد أن خسر صديقه يسوع، وثورته التي حلم بها. تلك نفس الحكاية التي حفظناها عن ظهر قلب، ولكنها في الآن ذاته لا تمت إلى الحكاية نفسها بصلة، إلاّ في النتيجة، ومغَايرة حكاية "اويير برولونجو" لا تنبع من نفي الطبيعية الألوهية للمسيح، أو حتى التشكيك فيما حدث قبل الصلب، كما تفعل العديد من النصوص كما في رواية دان بروان "شيفرة دافنشي" واعتراض الفاتيكان على الفيلم الذي صور هذه الرواية، الأمر أكثر عمقا وجدية من عدة تأويلات، لأن برولونجو لا يكتفي بأنسنة المسيح، والحديث عن أمه وأخوته، وخلافهم العائلي كما يحدث في أي عائلة، وكيف خذلوه عندما راح للتبشير في الناصرة، بل يعمد إلى إحالة ما بدأ به يسوع في تبشيره، إلى يوحنا المعمدان، ابن خالته، ويصور أن ولادة المسيحية، هي جزء من حراك شعبي، ومجتمعي في وجه الامبراطورية الرومانية، ويصور الشعب اليهودي، كجزء من آلة القتل نفسها، فالقتل كان جزءاً من حياة اليهود اليومية، ويحّول الحوادث التاريخية إلى وقائع ملموسة تجعل من الصعب علينا، أن نصدق أن مريم المجدلية نفسها والتي صٌورت في رواية "شيفرة دافنشي" بأنها نفسها، الرجل الجالس إلى جانب المسيح في العشاء الأخير، هي فعلاً المرأة الوحيدة المقربة ليسوع، والتي جاءت إليه عن طريق يهوذا، بعد أن التقاها في أحد مواخير اورشليم، وكانت بشكل أو بأخر تصاحبه دائماً، كل هذا التغيير لكثير من الحوادث التي جاءت بها النصوص المقدسة يبدو مألوفاً، لأنها كانت مثار خلاف وجدل، لكن العلاقة الملتبسة بين يهوذا، والمسيح، ظهرت في هذا النص الروائي في أعمق تجلياتها واضطرابها، وعنفوانها ومصداقيتها البشرية، بدا يسوع ويهوذا شخصيتين شكسبيريتين بامتياز، وحواراتهما قبل بدء الشقاق بينهما، وأثناءه كانت في قمة التراجيديا الانسانية، والصراعات بين قيم الخير، والشر، بين رؤيا براغماتية، وأخرى ميكافيليية، حتى حوارات يهوذا والمسيح، لا تبدو حوارات بين نبي وتلميذ، كما صور لنا التاريخ دوماً، بل حوار بين ذات واحدة تريد التغلب على ما في داخلها من نواقص، وتبحث عبر الكمال المطلق عن خلاصها، إنه الحوار المزمن، بين الثنائية الدائمة الاختلاف:
"أنت تقودنا إلى الكارثة بهذه السلبية، القوة هي الحجة الوحيدة التي ينحني أمامها كل شيء.
المحبة سترسي أسس عالم أفضل، لا تظن أن الانتصارات الوحيدة هي على هذه الأرض" ص353.
لقد كان يهوذا رفيق نضال دائم الى جانب المسيح، ودافع عنه وأحبه، وحدث تماماً كما يحدث حالياً في زماننا الحالي، أن اختلف رفاق النضال والقضية فيما بينهم، وذهب كل منهم في اتجاه، في الوقت الذي أراد يهوذا، ثورة وعصياناً مسلحاً، أراد يسوع السلام والصلاة، والالتحاق بالله والتعويض عن عالم البشر الظالم، بوعدهم بعالم سماوي، أكثر عدالة وأماناً، ولعل ما كتبه مسيحيو روما الأوائل، وما فعلوه بالإنجيل، بعد أن تحول الدين المسيحي إلى دين الامبراطورية الرومانية، هو من فرغ المحتوى الحقيقي لعلاقة يهوذا الرفاقية والنضالية بيسوع، ومن ألبسه قبعة الخيانة، على هذا النحو الفظ، لٌيعلق عليها كل ما جرى من خطايا. إن القبلة بين يهوذا والمسيح، والتي يصورها التاريخ على أنها مرادف مجازي لغوي للخيانة، هي _كما اعتقد على الأقل_ هي من أكثر القبلات والحوادث، غموضا والتباساً وتناقضاً وحباً أيضاً، لأنها معجونة بكل ما تمت إليه النفس البشرية، من مشاعر نبيلة وآثمة معاً، وإحساس عالٍ بالانتماء إلى قضية. قد تحتمل كل المعاني، لكن المعنى الوحيد الذي تخالفه، هو الكذب، لأن يهوذا اعتقد أنه يقدم حياة رفيقه قرباناً لقضيته، كانت صادقة وخائنة ومتطرفة في انتمائها، إلى الدرجة التي دفعت يهوذا إلى أقرب خشب زيتون في أرض فلسطين، ليلف حول رقبته حبل خلاصه، ويقول للعالم المأفون الذي لم يقدم له سوى روائح الكراهية والقتل: وداعاً.
لقد حمل يهوذا صليبه بطريقته الأكثر عذاباً وألماً. بعد يأسه من خلاص قضيته، وبعد أن قدم حياة صديقه الأغلى، قرباناً لها. ربما تكون هذه المغالطة التاريخية من مغالطات تاريخية كثيرة يجب إعادة النظر فيها، من أجل قراءة أكثر موضوعية للتاريخ، بعيداً عن تحريف الامبراطوريات والسلطات الرسمية، التي كانت تجيّر كل شيء لصالحها، وتفرغ كل حركات الثورة ضدها، من محتواها، لتصب في ذاتها وحدها، وربما نحن ميالون لتصديق خيانته، وتجريده من صفاته الإنسانية الأخرى، لأننا نريد دائماً من نعلق عليه الأخطاء والبشاعات، والآثام، لنقول: نحن الأفضل! تماما كما كان يفعلون في عهود المسيحية الأولى، وأمام عيني يهوذا، عندما صلب المئات على أغصان الأشجار بأيدي الجنود الرومان، حيث كانت البقية الباقية، تهمهم وتتلمس أجسادها، وتتنفس الصعداء: ما زلنا أحياء، وهذا المهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام