الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احتساء الشعر و رمزية الجمال في (احتسي الشعر) لوليد حسين

داود السلمان

2021 / 10 / 18
الادب والفن


اختيار العنوان لقصيدة ما أو قصة وكذلك لمقالة ليس بالعملية السهلة، بل هو بمثابة عملية قيصرية؛ بل ثمة معاناة، حتى وأن كان مبدع النص يمتلك حسّا ذوقياً، وجمالية معرفية، تفيض بمشاعر الإحساس وتدفق المعاني.
ثمّة مبدعون، يحسنون اختيار العنوان من الوهلة الاولى من كتابة النص، ولا يعاود تبديل ذلك العنوان الذي وقع عليه الاختيار.
وهذا ما أجده عند الشاعر وليد حسين متحققا، في كلّ قصيدة، وليس في هذا النص فحسب، فالنص الذي وقع عليه الاختيار، من قبل الشاعر قد جاء على حين غرّة، كما أرى، ومن خلال معظم قصائد الشاعر ونصوصه، فـ "أحتسي الشعر" عنوان جاء باختيار موفق، مما يجعل القارئ مشدوداً لإكمال النص والسير معه الى شاطئ النهاية.
يقول الشاعر:
"كحصان جامحٍ
تطاردني الشيخوخةُ
فأحتسي الشعر
من دنانٍ معتقةٍ
أُرتّق الوقتَ
بحثاً عن الأخطاء النحويّة
في منشورات (الفيس بوك)
لأُقوّمَ ما اعوج منّي
دون الولوجِ لمنتصف الفكرةِ"
الشاعر يبدأ نصه هذا بجملة وصفية؛ حيث "الشيخوخة" بحصان جامح، لأن الحصان الجامح، هو ليس كالحصان المروّض، الذي لا تخشى عاقبته، وكانت العرب تعتني بالحصان أيّما اعتناء، كونه واسطة النقل الوحيدة التي يتنقل بها الناس من قرية الى اخرى، حيث يقطعوا مسافات طويلة لكي يصلوا مبتغاهم، والشيخوخة هنا يرمز لها الشاعر بالمعاناة، أو بالشدائد التي تطرأ على الانسان، وخصوصًا في زماننا هذا؛ او ربما يعني بها مشاكل الحياة برمتها، الحياة التي وصفها العديد من الفلاسفة بأنها لا جدوى منها، أو كما أرجّح أنا، يعني مدّعي الشعر من الذين يتعكزون على هذا اللون من الأبداع المشوب بالعاطفة والاحساس، فيجعلون من أنفسهم مبدعين قابضين على ناصية الشعر، وهم بالأحرى كشرة في مهب الريح، لا يصمدون امام المبدعين الحقيقيين.
فالشاعر، لكي يقتل ضجر هذه المعاناة (اذا قبلنا بالمفهوم الاول لمعنى الشيخوخة) طفق يحتسي الشعر، فالشعر الدواء الناجع للقضاء على داء المعاناة والضجر وضجيج الحياة المتعبة، فلا يمكن لأي مبدع أن يكتب نصه الابداعي من دون أسىً ومعاناةٍ وأحزانٍ تترا على فؤاده كغيوم داكنة محملة بزوابع رعدية ورياح عاتية. ومثال على ما نقول: كان الكاتب الكبير دوستويفسكي يذهب الى اماكن القمار فيلعب حتى يخسر كل ما يمتلكه، فيعود حزينا منكسر الخاطر؛ ثم يلوذ بعد ذلك الحزن والغم بالكتابة والأبداع، بل ويكتب وهو في غمرة المعاناة والصراع النفسي فنجده في رواية "المقامر" يؤكد على ذلك حتى هجر القمار أخيرًا وعاد الى رشده.
يقول دوستويفسكي: "ربّ خاطرٍ هو أقرب الى الخواطر منها الى الجنون، وأدناها الى الاستحالة، يبلغ من قوة رسوخه في الفكر أن المرء يخاله ممكن التحقيق، حتى إذا كان هذا الخاطر مرتبطا برغبة قوية ملتهبة جامحة فيعتقد المرء في النهاية، أنه أمر حتمي، ضروري، فرضه القدر منذ الازل، امر لا يمكن الا أن يكون، ولا يمكن الا أن يحدث! وربّما كان هنا شيء اكثر من ذلك: ربما كان هاهنا مزيج من نبوءات يسنّها المرء، من جهد خارق تبذله الإرادة، ومن خيال سمم المرء به نفسه بنفسه، ومن أشياء أخرى".
مع ذلك، يعود الشاعر لترتيب الوقت، وسط تلك المعاناة، وكل تلك الاشجان التي تكالبت عليه، لأنه في خضم هدفٍ سامٍ يروم البوح به، وهذا الهدف هو: " بحثاً عن الأخطاء النحويّة في منشورات (الفيس بوك). إذن هذه هي قضية الشاعر، القضية التي شاخ من جرائها وشاب مفرقه، ويريد أن يفصح عنها، ولا يتصور متصور بأن هذه القضية هي سهلة بمكان، بل هي قضية معقدة؛ وتعقيد هذه القضية يكمن في أن هناك كما هائلا من الأخطاء التي يرتكبها أصحابها، وبالخصوص من مدّعي الشعر، لأن عالم (الفيس بوك) هذا الكائن المترامي الاطراف، جعل كل من هب ودب يكتب ما يحلو له من مفردات، سطحية وساذجة، وهي مفككة على أنها شعر وأبداع حقيقي، وهم كثر.
"حقيقة الامرِ
تبدو مدهشةً
لكنّني أفتشُ عن طرائدَ هائمةٍ
في دياجير الغرفةِ
ثمّةَ أناشيدٌ
في الليلِ
تختزل الماضي بملامحَ شاحبةٍ
ترسم وجهاً مأزوماً"
ولا يقف الشاعر عند ذاك الحد الذي رسم ملامحه، وبات يبثه كشكوى لمن يريد أن يسمع الشكوى، شكوى مُبتلى بكم هائل من الخطوب كادت أن تقضّ عليه مضجعه، وهذا ما يصرّح به بالفعل، الامر الذي جعله أن يغدو ويروح في دياجير غرفته، حائرًا مفكرًا، غير مستوعب للأمر وما يجري خلف عالمنا هذا من ضجيج ومن اصوات نشاز تجبره الظروف أن يسمعها وعلى مضض؛ حتى أنه يجدها كأناشيد حينما يقبل عليه الليل (وعند الليل تتكالب الهموم). وكأن الشاعر بهذا يريد الهروب من هذا المجتمع، ليعيش العزلة كالعزلة التي عاشها ابطال رواية "مائة عام من العزلة" للروائي غابريل غارسيا ماركيز؛ فالرواية برغم من تعقيدها وغموضها وأحداثها المتداخلة، الا أنها رواية مأساوية تعكس حياة المؤلف وعزلته عن مجتمع لا يجد فيه موطئ قدم، وربما معاناته المالية كذلك، والازمات النفسية التي كانت تترادف على حياته. فلعل القارئ حينما يقرأ هذا النص للشاعر وليد حسين سيتذكر تلك الرواية بشخوصها ماثلة أمامه.
مع ذلك، وعلاوة على ما جرى، الشاعر لا يلقى بالاً لما يحدث، أو أنه يتظاهر بذلك درءًا لوقوع مزيدٍ من المعاناة التي لا تقف عند حدّ، ولن تقف طالما الامور تجري بهذا الاطار الذي اشار اليه الشاعر في بداية نصه هذا، "فلتكن.." اذ يجد الغربة هي الامان والملاذ، والغربة، بطبيعة الحال، غربتان: الغربة عن الوطن، وغربة الروح أو النفس، والاثنان عذاب لا يطاق.
"فلتكن..
الغربةُ حافلةً بمواعيدَ مؤجلةٍ
فصلاة الصبح في بغداد
تستنطقُ الصمتَ
تستبقُ مآذن بلاد الشامِ
ببعض الوقت
تدعوني لإطالة أمد اللهفةِ
قليلاً
فالفجر الصادق يعلنُ عن بوابات
مشرعةٍ
تستقبلُ نفحاتِ المدينة
لتطلقَ الأزاهيرَ وزقزقات العصافير
صوب طلوع الشمسِ"
وبحسب علمي، أن الشاعر كتب هذا النص الجميل وهو في سوريا، هذه البلاد العريقة التي لا تبعد عن العراق الا مسافة ليست بالبعيدة جدًا، قياسًا الى البلدان الاخرى النائية، ومع ذلك يشعر بالغربة والحنين الى احضان الوطن، ذلك الحضن الدافئ، ولعل هذا النص استوحاه الشاعر من غربته تلك، وكما قلنا هما: غربة الوطن وغربة الروح.
يقول أحد الأدباء في هذا الاطار، أعني الغربة ونيرانها المستعرة: "لستُ أنسى بلدًا نائيًا حللت فيه يومًا منذ سنين، وكان آخر ما أتصوره هو أن ألتقي في ذلك المكان القصيِّ، بمن تربطني به الصلات من قريبٍ أو بعيد، لكني ما كدت أستقر في غرفتي من الفندق ساعة، حتى جاءني شابان عربيان، كانا قد سمعا بمقدمي، أحدهما من فلسطين والثاني من لبنان، وكان لأحدهما سيارة، فعرضا أن يدورا بي في السيارة دورة، يُطلعانني فيها على معالم الإقليم، ويجدان خلالها فرصةً لتبادل الحديث، وكانا فيما يبدوان كأنهما ممتلئان بالأسئلة عن الوطن العربي، ويريدان عنها الجواب؛ فالصحف في ذلك المكان النائي إقليمية، لا تكاد تذكر للقراء شيئًا ذا بال، عما يدور خارج حدود الإقليم من تجارةٍ، وأحداثٍ يومية تجري بها حياة الناس".
"من يدري ..؟
والطفل القابعُ في صدري
يسترعي انتباه العالم
بوشوشات خافتةٍ
كأنّها همساتُ عشقٍ صوفيّة
فالمناجاة
والأصوات المتداخلة
يردّدها دون لحاظٍ
لعلَّ الأمنيات شاخت بازدياد الرغبةِ
وتقاطع المدنِ
وسوء توزيع الطاقة
ومازوت التفاهماتِ القاحلةِ
بالعجزِ المنصوص عليه
يتأرجحُ في مواقف منقوصةٍ
غيرِ مجديةٍ
وأنا وأنتِ..
ننتشلُ الضحكة من أنيابٍ مُسنّةٍ
منذُ مدٍ يوميٍّ..
وجزرٍ ثابت".
ويستمر الشاعر، وهو يتفلسف من خلال هذا البوح الموجع، بوصف كل ما يطرأ على باله من ايقاعات شجن يصبها في قوالب لحنية، تناغم أصوات ناي مبحوح بشجى الواقع الذي يمر به جسدًا وروحًا، والذي هو مرادف لتجليات الكثير من الناس، وبالخصوص الشعراء والمبدعين من كتاب ومفكرين وفلاسفة، لأن هذه الفئة، على وجه الخصوص، هم اكثر الناس الملتزمة بإحساس الكلمة وبالمفردات التي تختارها، وتريد منها أن تصف الحالة التي تمر بها من غربتين: وطنية (من البُعد عن الوطن)، وروحية المتمثلة بالروح التي هي داخل الجسد تتنفس الاحساس الصادق تجاه من تحب، إذ لعل ذلك يشعرها بالاطمئنان، فتعود الى رشدها تعالج نفثات الشجن المحبوس داخل هذا الروح المتعطشة للوصال. وهذه النفثات يوصفها الشاعر وليد حسين: "كأنّها همساتُ عشقٍ صوفيّة" وكلنا على دراية بأن للعشق الصوفي طلاوته لا توزن بطلاوة العشق المتعلق بالحبيبة التي هي من دم ولحم، بينما العشق الصوفي ما يتعلق بالفيوضات الربانية تجاه الموجد الاول، الذي ابدع (الروح) وصورها كطيف ندي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_