الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الأمّة الإسلامية- فكرة مُتخيّلة، ومفهوم فضفاض.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2021 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


تأجيل تصحيح مفهوم "الأمة الاسلامية" الفضفاض، كمشكل فكري وسياسي، جعله يتحوّل إلى معضلة أمنية تهدد كيان الدولة، منذ أن استقطبت دول محورية مُعيّنة شباباً عربياً ليعمل ضمن أجندتها ومصالحها، بعد أن أقنعتهم بأنها تمثل "الأمة الإسلامية" أو"تسعى لتشييدها". هكذا وجد الشباب أنفسهم في مواجهة الموت في ساحات الحرائق والحروب المُفتعلة. أو أمام هذا التمزق الفكري، بين ولائه للدولة التي يحمل جنسيتها، وبين ولائه للأمة الإسلامية المُتَخَيّلة. فإن اختار أن يكون مسلما مُطيعا لربّه ب(المنظور الإسلامي المُتطرّف)، انتهى خائنا لوطنه ولدولته التي يعتبرها دولة الطاغوت. وإن اختار وطنه ودولته انتهى كافرا لدى جماعات اللامعقول الديني.
لقد تمت الاستهانة بهذه المشكلة رغم تجذّرها، ورغم آثارها وتبعاتها. ولعل أحد مظاهر الاستهانة هي الاقتصار على المعالجة الأمنية. وهذا يساوي قطع رأس جبل الجليد كلّما طفح وترك الجذر والقاعدة ليعود الرأس للنمو من جديد.

واحدة من أتباع التيّار المتطرّف، تتحدّث بفخر وزهو عن "راية الأمة الاسلامية المرفوعة". أجبتها بأنّ "الأمّة الاسلامية" شيء موجود في عقول الدّواعش فقط. فأجابتني بقوله تعالى: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس..."

طبعًا، سبق وتجادلت مع هذه السيّدة المحترمة، وليس لي أمل في أنّها ستستفيد من النقاش، لشدّة تعصُّبها، ودفاعها عن مجرمين ضالعين في قتل توانسة أبرياء. للأسف الشديد، إلى يوم الناس هذا، وبعد كلّ الذي حدث، مازالت تُدافع عن القَتَلَة واللّصوص بشكل علني وصوت مرتفع، دون قطرة عَرَق على الجبين، ولا احمرار في الوجه، ولا غُصّة في القلب. مع ذلك سأُحاول مناقشة الموضوع على نحو واضح يفهمه الشباب.

نعم مفهوم الأمة التقليدي يتحدد بجماعة موحّدة بواسطة خيار ديني واحد يعتصمون به. وأحيانا يتحدّد بالنّسب والعرق. وفي أحيان أخرى عبارة الأمة تعني القبيلة أو القوم. وتقول الآية الكريمة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"؛ وفي آية أخرى: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". وفي آية أخرى: "ولتكن منكم أمّة يدعون للخير..."
وبالرغم من أنه يصعب أن نعثر على مفهوم خِلافي وحوله تأويلات وتحديدات لا تكاد تُحصى، مثل مفهوم "الأمة"، يبقى التّصوّر الإسلامي التقليدي للأمّة، بصفة عامة قائما على وحدة الإيمان التي تشمل جميع المسلمين على امتداد مجال الامبراطورية الممتد من المغرب الإسلامي إلى حدود الهند. صحيح أن هذا التصوّر نجده في مختلف الكتابات الدّينيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة، معبّرا على هذه العلاقة الرّوحية بين المسلمين. ولكن هذا نقاش فقهي قديم، كان له معنى في عهد الإمبراطوربات. أما في زماننا فلا علاقة له بواقع الدولة الحديثة ذات الحدود الوطنية، وذات السيادة على قطعة محدودة من الأرض، يسكنها عدد محدود من الناس، تجمع بينهم روابط اللّغة والثّقافة والمصالح والتّعاقد الاجتماعي، وليس الدّين فقط.
ولأن الدّولة الحديثة تُشكّل الخليّة الأساسيّة للمجتمع الدّولي، فإن المعنى التقليدي للأمة أصبح في قطيعة مع القانون الدولي أيضا، ومع المواثيق التي تنظم العلاقات بين الدول. فلا يمكن على سبيل المثال اعتبار مصر وتركيا أمّة واحدة. أو القول بأن إيران والجزائر أمّة واحدة. أو أن تونس والباكستان أمة واحدة. فهذا كلام، في الحقيقة، يدعو للسخرية في عصرنا الراهن..

هذا من الناحية التاريخية الواقعية. أما من ناحية تطور المجتمعات الإنسانيّة، وتطوّر المنظومة الكونيّة لحقوق الانسان، وتغيّر مكانة الفرد في الحياة المعاصرة، فإن المفهوم القديم للأمة صار ممنوعًا بحكم القانون، ومرفوضا أخلاقيا بحكم المعايير الحديثة للحقوق والحريات الفردية، لأنه مفهوم يُذوِّب الفرد في الجماعة. ويحوّله من فرد حُرّ يختار قيمه ونمط حياته بنفسه، إلى عضو مُطيع في قطيع الأمة، يُردّد ما يُقال له. ويقعد إذا ما القطيع قعد. وإذا قام القطيع يقوم. فلا يجوز له اختبار طريقته الخاصة في التديّن أو في اللّباس بمعزل عن نمط حياة الجماعة.
ومن الواضح أن ذوبان الفرد في الأمة هو استمرار لتقاليد القبيلة في الجاهلية، التي كانت تصادر حرّية كل فرد، لحساب روح الجماعة، حتى يموت من أجلها في حروبها الحمقاء، كأخذ الثأر أحيانا من أجل بعير أعمى؛ وإذا حدث وتمرد أحدهم، سمّوه "خليعاً"؛ وهذا يعني أن القبيلة خلعته وتبرأت منه ورفعت عنه حمايتها، فبات دمه مهدورا . محكوم عليه بفصل رأسه عن جسده، كما فصل هو رأيه عن رأي القبيلة. ورأسه عن رأسها الجمعي.

بهذا المعنى مفهوم الأمة الذي تمارسه اليوم مدرسة اللامعقول الديني، هو تحويل المواطنين والشباب على وجه الخصوص إلى مجرد كائنات عقولهم مُزوّرة، لا يعترفون بحدود بلدانهم. ولا معنى عندهم للوطن والوطنية. ولا للقانون ولا للدولة. ذلك أن جماعات الاسلام السياسي المتطرفة خلقت لهم بديلا عن الوطن هو "أمة الإسلام". وبديلاً عن الدولة الوطنية هو "الخلافة". وبديلا عن قوانين البلاد ودستورها هو "الشريعة". وبديلا عن المواطنة هو "الأخوّة الدّينيّة والملّة". وهكذا صار هؤلاء الشباب بعد تعرّضهم لعمليات غسل دماغ وحشيّة، مستعدّين للقتل أو الانتحار لحساب تلك الجماعات التكفيرية.

كما ذكرت في بداية هذا الجواب، مفهوم الأمة التقليدي يتحدد بجماعة يّوحّدها الخيار الدّيني وحسب. ولكن الفكر السياسي الإسلامي تطور مبكّرا جدّا بعد التقاء الاسلام بحضارات أخرى. بحيث وُلدت رؤية جديدة أوسع، لها مقوّمات فكر سياسي عقلاني لا يأخذ بعين الاعتبار العامل الديني فقط، بل أيضا معطيات اجتماعية دنيوية وإنسانية. ويُعد الفارابي من أوّل الفلاسفة الذين أعطوا بعدا دنيويا لهذا المفهوم. فكما هو معلوم كان للمدينة موقع محوري في نظرية الفارابي الاجتماعيّة/السياسية، على حساب القبلية. وما يستحق الانتباه هنا، هو أن تحرير الفكر السياسي والإيتيقي من السّلطة الدّينية تمّ بشكل حاسم بعد ولادة الدولة الحديثة في المهد الأروبي أواسط القرن السابع عشر. ولكن البدايات كانت مع الفارابي. إذ لم يعد الدّين معه، وحده معيارَ توحّد الأمّة وعروتها التّي بها يعتصم المسلمون، بل الإقليم والتاريخ واللغة والثقافة ومصالح الناس وتعاقدهم... كلّها أصبحت محددات جوهريّة في تحديد مفهوم الأمة. فالفارابي يضبط معاييرها ب"المصلحة المشتركة والخوف والنّسب والإيمان والتّعاقد ووحدة المنزل والطّبائع وتماثل الطبيعة واللغة". وهذا أدى إلى عقلنة مفهوم الأمّة، وتغيير مشروعية النظام السياسي من خلال التأكيد على أساسه الدنيوي وتحديده بالتعاهد والتعاقد بين الناس. وقد هذا الانقلاب العميق الذي أقدم عايه الفارابي هو ما وجّه تفكير البيروني لاحِقًا، مثلا في عرضه لتاريخ الهند. ووجّه تفكير غيره من المؤرّخين مثل المسعودي ومسكويه وابن خلدون.

بكل الأحوال، هنالك أهمية بالغة لهذه الثورة المضمونية على مفهوم الأمة، من جهة كونها ترمي إلى وضع حدٍّ -ولو بصفة متدرّجة- لهيمنة الأحادية الدينية على تنظيم حياة الجماعة المسلمة. هذا لا يعني أنّ المعنى الدّيني للأمّة لم يعد فعّالا، بل سيظلّ حيّا، فعّالا، ومؤثّرًا لدى الكثير من الفقهاء والمؤرّخين مثل الماوردي والبغدادي. إلا أن الاتجاه العام للدراسات التاريخية والاجتماعية اللاحقة، هدَفَ للتخلص من التعريف الضّعيف للأمّة بوصفها رابطة دينية وحسب.

نصل الآن إلى بعض الملاحظات الختامية:
أوّلا، عقلنة مفهوم الأمّة، وتخليصه من وحدانيّة البعد الديني، هو مسار معرفي وُجد وتطور في حضارتنا قبل أن تأتينا من الغرب. وفي ذلك دليل قاطع على إمكانية ولادة نظام سياسي مدني عقلاني متأصل في أوطاننا.

ثانيا، عقلنة مفهوم الأمّة أنتج مقاربة دنيوية وإنسانية لشكل السّلطة. حيث باتت تقوم على التعاقد بين الأفراد. وعلى مراجعة بعض المسلّمات الجامدة، ووضعها تحت مجهر الاجتهاد.

ثالثا، هذا التحول في مفهوم الأمة شجّع بشكل حاسم على تكوين مفهوم المواطنة، والتخلّي عن الدّولة الربّانيّة، لِبناء مؤسسة دولة بشرية، متحررة من سلطان الغيبي الماورائي. وهذا هو الأساس والتربة التي تُنبٍت فردا مسلما حرّا، جاهزا للتعرّف على قوانين المدينة التي يعيش فيها. وقادر بشكل كافي على المشاركة في صياغة تلك القوانبن، وممارسة السلطة من خلالها، عكس ما تروّجه أبواق العنصرية المعادية للمسلمين، من نمط عجزنا التّكويني عن الانخراط في العصر لأسباب دينيّة.

وأخيرا لا يجب أن نخاف من عقلنة مفهوم الأمّة وتنسيبه. لأن ذلك لا يتناقض مع مقاصد الشّرع. ولا هو بديل عن مُدركاتنا الشّرعية. ولا ينفي الدّور الذي يقوم به الدّين في بناء وحدة المجتمعات. فقط ينبغي على الإسلام الحديث النيّر، أن يأخذ بعين الاعتبار كلّ العوامل الموضوعية التي دفعت لعقلنة مفهوم الأمّة، حتى لا يدخل في صدام مع الحرية. وبلغة أبسط وأوصح، ينبغي عليه أن يوازن بين الأبعاد الرّوحية للجماعة المسلمة، وبين المتطلبات الاجتماعية الدنيوية المبنية بالأساس على استقلالية الفرد بوصفه مواطنا له حريات وحقوق مكفولة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا