الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد اليسار في تونس/جائحة النّقد المنفلت من عقاله

الطايع الهراغي

2021 / 10 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


"من ينقد عليّ كمن يؤلّف معي"
(الشّيخ عبد الله العلايلي)
"من العدل أن يأتي الرّجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه".
(ابن رشد / 1126-1198)
"إذا نطق السّفيه فلا تجبه ** فخير من إجابته السّكوت
فـإن كلّمته فرّجـت عنـه ** وإن خلّيتـــه كمَــدًا يموت"
(الإمام الشّافعي / 767- 820 )

1/رهــاب النّقــد
التّبرّم بالنّقد هو إحدى العاهات التي تطبع سلوك اليسار في تونس. بديل النّقد هو التّناحر الإقصائي [لا علاقة له بالصّراع] بين مكوّناته وتبادل التّهم وأحيانا الإدانة والقذف وبشكل متهوّر وجزميّ حول مسائل عرضيّة تحكمها ملابسات اللحظة ،انعكاساته قاتلة ومخلّفاته مميتة لأنّها تقيم حاجزا اسمنتيّا مسلّحا يعزّز الانكماش والنّزوع الذاتيّ الأنويّ،ويحول دون أيّة إمكانيّة لبناء مشترك (الهدف الذي يصرّ كلّ مكوّن من مكوّنات اليسار على أنّه هدفه النّهائيّ). وهو أمر مخالف لهويّة اليسار وطبيعة نشأته وتشكّله والأسس التي قام عليها .فاليسار عموما ولِـد على أنقاض الانهيار السّياسيّ والشّعبيّ لأنظمة وأحزاب رجعيّة فقدت اعتبارها بنظر من جاءت إلى السّلطة من وراء ظهورهم. اقتلع هيبته ومكانته بالنّقد والتّباين والتّشريح والقطيعة مع ما هو سائد. تجذّر في خضمّ السّجالات والمناظرات الرّفاقيّة .نقد البناء وليس نقد الإقصاء. النّقد المسؤول والهادف وليس النّقد المدمّر المنفلت من عقاله. نقد الارتقاء إلى مستوى تحدّيّات المرحلة وليس نقد قاضي تحقيق همّه اقتلاع موجبات الإدانة وليس فقط إثباتها. نقد قِبلته البحث عن المشترك وليس ردمه وتحريفه، نقد يقطع مع عقلية الاستئثار ومرض إشباع الذات وتقزيم بقيّة الذوّات.المثال السّاطع على ذلك اندثار الجبهة الشّعبيّة.فعوض البحث عن مواطن الخلل وأسبابها في نقد ذاتيّ تقييميّ عمد -إن لم يكن تعمّد - كلّ مكوّن من مكوّناتها البحث عن براءة ذمّة وشهادة طهوريّة تمكّنه من التّنصّل من أيّة مسؤوليّة وتحميل الآخر كلّ المسؤوليّة.

2/ الأخطــاء القاتلــة
المرض الطّفوليّ لليسار تجسّد في خطأين قاتلين:
** استنساخ النّصوص المتعلّقة أساسا بالتّجربتين الرّوسيّة والصّينيّة وإلى حدّ ما التّجربة الألبانيّة كما يسوّقها" زعماء" هذه التّجارب (ستالين/ ماو/ أنور خوجا )حيث يُشهَـر النّصّ حجّة لإفحام الخصوم ويُعلى البيان والخطاب -الدّعائيّ التّسويقيّ بالضّرورة - إلى مستوى المصادر التّاسيسيّة التّأصيليّة. استنطاق النّصوص(وأحيانا حواشي النّصوص وشروحها) وإشهارها سلاحا في وجه "الخصوم" دون استنطاق التّجارب يجعل من الإرث الفكريّ والعمليّ[الإنسانيّة المفكّرة والإنسانيّة المتألّمة] لعنة وسوط عذاب يحوّل الإنسان(مفردا وجمعا)من كائن ذي تراث إلى كائن تراثيّ .
**التّباري في إدانة جماعات الإسلام السّياسيّ بالتّورّط في تزكيّة سياسات بن علي التّصفويّة الاستئصاليّة للإسلاميّين باعتماد حلول أمنيّة خدمت المنظومة وأركانها وأنعشت النّهضة التي أتقنت التّدثّر بعباءة المظلوميّة ومقاومة الاستبداد وهمّشت اليسار وأفقدته خصوصيّته وهويّته المستقلّة.
بعد14 جانفي 2011 انساقت كلّ أطراف اليسار تقريبا بلا استثناء في معارك عديمة الجدوى ونتائجها محسومة سلفا: الصّراع الهوويّ ونمط المجتمع .وهو الحقل المحبّذ لكلّ الحركات ذات المرجعيّة الدّينيّة.وليس الاصطفاف مع الباجي في التّجربة الانتخابيّة للنّداء والاتّحاد من أجل تونس قبل انتخابات 2014 غير وجه من وجوه مرض رهاب النّهضة .وكذلك الأمر بالنّسبة للاصطفاف القطيعيّ مع قيس سعيّد. فقد حكمه معطى أساسيّ جوهريّ حاسم ومحدّد: فوبيا الإسلام السّياسيّ مجسّدا في تعبيرته الرّسميّة، حركة النّهضة.
زكّى اليسار بن علي في حربه مع الإسلاميّين، ترجمَتُها تفويض بن علي لتحجيم دور النّهضة .مبايعة الباجي ترجمتها توكيل طيف واسع من الدّيمقراطيّين واليساريّين النّداء لينوبها في مقارعة النّهضة وتحجيم وزنها.الاصطفاف اللاّمشروط لجحافل من كلّ صوب وحدب في مبايعة قيس سعيد محكوم في بعض من أبعاده بالرّغبة في الإنهاء مع غطرسة النّهضة وبوهم استكمال الثّورة المغدورة . مهامّ موكولة موضوعيّا لمن هم خارج السّيستام، مصالحهم تتناقض مع منظومة ما قبل 25جويلية ومع بديلها الجنيس.التّعويل على وكلاء لإنجاز المهامّ التي تعود تاريخيّا للقوى التّقدميّة والدّيمقراطيّة (اليساريّة أساسا) خيانة لإرث وإنعاش لأوهام وتحريف للمقاصد التي قامت من أجلها الثّورة .
الإشكال لا يكمن فقط في تزكيّة قيس سعيّد (رغم مجانيّتها) لأنّ التّزكيّة الرّسميّة قامت بها الجهات المستفيدة مباشرة، وإنّما في تسويق الحلول المغشوشة بإعلاء الحدث والإجراءات المصاحبة له إلى مستوى الإنجاز الثوريّ وتصريفه كمدخل لتمكين الرّئيس من سلطات سيصعب في ما بعد إلجامها.

3/ نقـد عـن نقـد يفـرق
من المفارقات الغريبة اللاّفتة للانتباه أنّ غياب اليسار عن التّأثير في الأحداث التي تهزّ تونس فسح المجال لموجة"نقــد" وتشريح وتجريح متجاوز لكلّ الضوابط وبدون موجب. ناقدو اليسار صنفان:
** رهط امتهن التّمعّش، يتهافت على كلّ الولائم ويسّاقط على كلّ الموائد،مصاب بمرض الإسهال في المديح المريح، عاهة ذهنيّة مركّبة تصوّر له الفظائع فضائل. يعتاش في كلّ آن وحين من خدمة اليمين الحاكم.كان يلعق من موائد بن علي، ويتكفّل بإنجاز المهامّ التي ينآى التّجمّعيّون بأنفسهم عن أدائها. انخرط طوعا، بعقليّة انكشاريّة وبذهنيّة تلذّذ التّماهي مع أولي الأمر، في تقديم ما يلزم من خدمات للترويكات المتعاقبة بتبييض صورتها وتلميعها. يكابد اليوم لاقتلاع بطاقة مناضل بها يدخل بورصة المسابقات المنقولة.التحق بالرّكب صنف، بعضهم أصيب بخيبات فتاب وارتدّ عمّا كان يلهج به سابقا من قناعات، والبعض الآخر فتنته موجة الرّهان على الجواد الرّابح فطلّق ماضيه طلاقا ناجزا بلا رجعة وأبرم زواج متعة مع "الوافدين" الجدد، ولسان حاله يردّد أنّ اللحظة تجبّ ما قبلها. أولائك السّفهاء، تجاهلهم واجب، "متاركة السّفيه بلا جواب ** أشدّ على السّفيه من الجواب" (الإمام الشّافعي). نقدهم مضيعة للوقت، وهجاؤهم حطّ من قيمة الهجاء كفنّ. ذلك ما تفطّن إليه شيخ الهجّائين أبو الطيّب المتنبّي. قيل له فلان يهجوك قال: "ذاك صعلوك يريدني أن أردّ عليه فيدخل التّاريخ". أرسل العزيز بن المعزّ الفاطمي رسالة إلى محمد بن أبي مروان الأمويّ الأندلسيّ كال له فيها السّبّ والشتم. فلمّا قرأها كتب على ظهرها وردّها إليه "أمّا بعد، فإنك قد عرفتنا فهجوتنا. ولو عرفناك لأجبناك. والسّلام". فلمّا بلغته الرّسالة تجرّع مرارة النّدم وقال: "ليتني لم أشتمه. فقد شتمت نفسي" .
**صنف قد تختلف معه. قد يصدمك تطاوله على"المقامات"، تجرّؤه على ما رسخ في ذهنك على أنه مقدّس. قد تربكك قسوته عليك ،على وضع غير طبيعيّ وتنسى أو تتناسى أنّها قسوة على ذاته أيضا.

قد يحرجك كشفه للعاهات (عاهاته/عاهاتك/عاهاتنا /عاهات بني جلدتنا)حينا وتبرّمه منها أحيانا.ولكنّك مطالب - في زمن تهاوي القيم والاستهتار بحقّ النّقد وتوظيفه مدخلا لتمرير الانحرافات والتّراجعات والخيانات على أنّها وجهة نظر- بأن تفرّق بين الحديث (اللّغــو) عــن اليسار والحديث فــي اليسار.
الحديث عـــن اليسار مهنة، ترجم لرغبة في تسجيل الحضور،إشعار الأنا بأنّها موجودة .الأنا الباحثة عن البروز هي المحور بمعزل عن الاعتبارات القيميّة والفكريّة والمجتمعيّة.الحديث فــي اليسار عبء، وزر ثقيل، مهمّة، مسؤوليّة تترتّب عنها استحقاقات تجاه الآخر. الأنا الفرديّة والجماعيّة محكومة بقيم.
كشف الأوهام وتبديدها،تقويم الاعوجاج،نقد الضبابيّة،التّحوّط من المواقف والسّلوكات الانفعاليّة،أسيرة اللّحظة والملابسات الحينيّة،عدم التّنازل للعواطف حتّى ما كان نبيلا منها.ذلك هو سلاح اليسار في/ ولتجاوز الفوات التّاريخيّ الذي هو عليه حتّى لا يجد نفسه على هامش التّاريخ إن لم يكن عالة عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل صغيرة منسية.. تكشف حل لغز اختفاء وقتل كاساندرا????


.. أمن الملاحة.. جولات التصعيد الحوثي ضد السفن المتجهة إلى إسر




.. الحوثيون يواصلون استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل ويوسعون ن


.. وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع: الاتفاق بين حماس وإس




.. شاهد| كيف منع متظاهرون الشرطة من إنزال علم فلسطين في أمريكا