الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نظام السوق .. الدولة تراقب ولا تتدخل في شؤونه

محمد رضا عباس

2021 / 10 / 20
الادارة و الاقتصاد


اقتصاد السوق يعتمد على الملكية الفردية. بمعنى ان المواطن الذي يملك وسائل الإنتاج له الحرية المطلقة بالتصرف بها. عامل البناء ان لم يرغب العمل في ذي قار او المثنى يمكنه العمل في أربيل او الانبار. ومن يملك المال له الحرية باستخدام هذا المال بالشكل الذي يعتقده هو الاحسن له: بناء عمارة سكنية او مخازن لحفظ الفاكهة والخضر او بناء فندق في احدى المناطق السياحية. صاحب العمل له الحرية ان يبني مصنعه في الديوانية او الموصل او السليمانية، وله الحق باختيار نوع الإنتاج وحجمه وطريقة تسويقه. الدولة ليس من وظيفتها ان تقرر نوع المنتوج، حجمه، او سعره. الدولة ليس من وظيفتها تعيين أي اسم بضاعة تنتجها محافظة معينة او شركة معينة، وليس لها الحق ان تمنع مواطن في عمل ما دون عمل اخر. المواطن في ظل نظام السوق له الحرية، ضمن القوانين المرعية , التصرف بوسائل الإنتاج التي بحوزته كيفما يشاء , وأين ما يشاء , ومتى ما يشاء.
ولكن مع إعطاء نظام السوق الحرية المطلقة لأصحاب وسائل الإنتاج بالتصرف بها وبالطريقة التي يعتقدونها هي الأفضل، فان تأثير الدولة على الاقتصاد الوطني لا يمكن تجاهله. بالحقيقة بدون وجود تدخل الدولة سوف لن يكون هناك اقتصاد متقدم. الدولة الحديثة أصبحت ليس من وظيفتها جمع الضرائب وصرفها على حماية البلاد من العدوان الداخلي والخارجي، بل أصبح تدخلها يتوسع ليشمل جميع شؤون البلاد بضمنها الاقتصاد. لنأخذ امثلة من زعيمة نظام السوق في العالم، وهي الولايات المتحدة الامريكية وتدخلها في شؤون السوق. الإدارة الامريكية، وباسم الامن القومي وحماية المستهلك، لها اليد المباشرة في إدارة التجارة الخارجية. الدولة هي التي تقرر مع من تتاجر الشركات الامريكية ومع من لا تتاجر. الإدارة الامريكية لها الحق منع شركاتها بالتعامل مع دول تعتبرها غير صديقة لها. الكل يعلم كيف ان الشركات الامريكية قد قاطعت العراق خلال فترة الحصار الاقتصادي عليه بعد ان أقدم العراق على احتلال الجارة الكويت. الإدارة الامريكية وباسم الامن القومي منعت شركة صنع طائرات نقل الركاب بوينك بيع 100 طائرة الى إيران على الرغم من ان إيران لها عقود شراء رسمية مع الشركة. كما وان الإدارة الامريكية منعت شركاتها النفطية من التنقيب وإنتاج النفط في إيران.
الإدارة الامريكية هي التي أعلنت الحرب التجارية على الصين وفرضت ضرائب بنسبة 25% على بعض البضائع الصينية بحجة حماية انتاجها المحلي من الصلب والحديد، وهي التي منعت استخدام منتجات شركة وأهان (Wuhan)الصينية بحجة حماية الامن القومي. الإدارة الامريكية هي التي فرضت حصار اقتصادي على فنزويلا بما في ذلك تصدير النفط. والإدارة الامريكية هي التي أجبرت الشركات العالمية لصناعة السيارات بنقل مصانعها اليها من اجل توفير فرص عمل لمواطنيها. كل هذه الإجراءات لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد الأمريكي. فتح مصنع كوري جنوبي لصنع السيارات في أحد المدن الامريكية يوفر فرص عمل لأبناء هذه المدينة ويؤدي الى بحبوحة اقتصادية للمدينة. امتناع الصين من استيراد فول الصويا من الولايات المتحدة الامريكية وضع مزارعي هذا المحصول في مشكلة مالية كبيرة، اضطرت الإدارة الامريكية بدفع أكثر من عشرة مليارات دولار لمساعدة المزارعين الذين تضرروا من القرار الصيني الذي جاء كرد فعل على فرض ضرائب كمركية على البضائع الصينية من قبل إدارة السيد دونالد ترامب.
الدولة تؤثر على الاقتصاد الوطني مباشرة وذلك من خلال مشترياتها السنوية. معظم مصانع السلاح تعتمد على مشتريات الإدارة الامريكية، وكذلك السيارات والبنى التحتية. على سبيل المثال، كانت حصة مصروفات الحكومة الامريكية على السلع والخدمات من اجمالي الإنتاج المحلي هو 35.1% في عام 2018 هذه النسبة الكبيرة توفر العمل والدخل السنوي لعشرات الملايين من المواطنين الامريكان، وان تخفيض هذه المصرفات تعرض الملايين من العمال الى التسريح والبطالة.
الدولة الحديثة أصبحت تتدخل في شؤون الاقتصاد الوطني وأصبحت هي التي تقرر بقاء او موت انتاج معين. على سبيل المثال، ان فضل ازدهار سوق أدوات الطاقة البديلة (الرقائق الشمسية والدواليب الهوائية) يعود كله الى المساعدات المالية الضخمة التي قدمتها الإدارة الامريكية للشركات المصنعة لها. وان فضل ازدهار الزراعة في الولايات المتحدة الامريكية هو الاخر يعود الى المساعدات المالية السخية السنوية للمزارعين. وما كان سبب الضغط الأمريكي على المملكة العربية السعودية وبقية الدول المصدرة للنفط على تقليص انتاجهم من النفط في ربيع عام 2020 الا من اجل انقاذ شركات انتاج النفط الصخري الامريكية من الانهيار والإفلاس. هذه الشركات ما زالت لا تستطع منافسة أسعار النفط المستورد الى الولايات المتحدة الامريكية الا بحدود 40 دولارا.
وعليه فان رب العمل في نظام السوق ليس حرا في قراراته كما يتصوره البعض، انه ليس حرا. وليس صحيحا ان ما هو جيد للشركة هو جيد للبلد، انما العكس تماما، وهو ان ما يكون جيد للإدارة الحاكمة هو جيد للشركة. ان الكثير من الشركات الامريكية لها الرغبة الحقيقية بالاستثمار في إيران، ولكن رفض الادارة في واشنطن يحول دون ذلك. وان هناك شركات كثيرة تريد التجارة مع كوبا وروسيا، ولكنها تجابه برفض الإدارة في واشنطن.
الدولة تتدخل في السوق باسم حماية المستهلك. على سبيل المثال، انها تمنع وتعاقب أي شركة تحاول احتكار السوق او تتآمر مع بعض الشركات من اجل تحديد سعر معين لبضائعها (Price Fixing). الدولة تتدخل في السوق باسم حماية المنتجين وذلك بمنع أي محاولة لإغراق السوق ببضاعة معينة سواء من منتجي الداخل او الخارج. الدولة تتدخل في السوق باسم حماية الصحة العامة مثل منع بيع السكائر والمشروبات الروحية الى المواطنين دون عمر 18 عاما. كما ومنعت شركات انتاج المشروبات الكحولية والتدخين من الإعلان على منتوجاتهم في الأماكن العامة او قرب المدارس والجامعات. ومنعت الدولة باعة الأسلحة النارية الا بعد اخذ اذن منها.
وعندما اجتاح وباء كورونا الولايات المتحدة، اتخذت الحكومة الامريكية إجراءات صارمة لوقف الاجتياح (بدون نجاح كبير) وقررت اغلاق جميع أماكن التجمعات البشرية بما فيها المدارس والكليات، المتنزهات والمولات والمصانع. وعندما شعرت الإدارة ان اعداد كبيرة من المواطنين قد تأثروا ماليا من هذا الوباء، قامت بأطلاق حزمة من المساعدات المالية بلغت أكثر من 2 ترليون دولار لتوزيعها على المواطنين، العمال، الرعاية الصحية، الحكومات المحلية، وأصحاب الاعمال.
ان وجود دولة قوية وحماية قانونية هو بحد ذاته دعم مباشر للاقتصاد الوطني. ان حماية الامن واستمرار الاستقرار السياسي والأمني يؤدي الى راحة بال الزبائن وهم يتجولون في الأسواق والمولات، الخروج ليلا لقضاء سهرة مع الاهل والأصدقاء، ويؤدي الى اطمئنان الباعة على حياتهم من المجرمين والسراق. لقد اثبتت التجارب العالمية ان ازدهار الاقتصاد يعتمد على الامن الداخلي، فكلما قوى عود الامن، قوى عود الاقتصاد وتشجع المستثمر الداخلي والخارجي على الاستثمار. لقد خسر العراق فرص ثمينة من النمو والازدهار لاقتصادي بسبب الاضطرابات الأمنية بعد التغيير، على الرغم من كثرة المؤتمرات والمغريات التي قدمت الى المستثمرين للاستثمار في البلاد.
وأخيرا، فان الدول الحديثة أصبحت تتدخل تدخلا مباشرا في انقاذ الاقتصاد الوطني من التراجع الاقتصادي والتضخم المالي. في زمن التراجع الاقتصادي تقوم الدولة بمحاربته بواسطة زيادة مصاريفها وتخفيض الضرائب (كما سنتحدث عنه بشكل مفصل لاحقا) , فيما انها تحاول محاربة التضخم المالي عن طرق تخفيض مصاريفها وزيادة الضرائب على المواطنين. والدولة الحديثة أصبحت تحامي عن استثماراتها الخارجية من إساءة الدول المضيفة لها، وتحافظ عن صادراتها من خلال مبدئ التعامل بالمثل وتغيير سعر صرف المحلية.

منقول من كتابي: محمد رضا عباس , محاضرات في اقتصاد السوق مع إشارات حول الاقتصاد العراقي , أوراق, بغداد, 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنتاج الكهرباء في الفضاء وإرسالها إلى الأرض.. هل هو الحل لأز


.. خبير اقتصادي: الفترة الحالية والمستقبلية لن يكون هناك مراعي




.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 26-4-2024 بالصاغة


.. أمين عام -الناتو- يتهم الصين بـ”دعم اقتصاد الحرب الروسي”




.. محافظات القناة وتطويرها شاهد المنطقة الاقتصادية لقناة السو