الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمدينة معان في الحقبة الماضية

وليد حكمت

2006 / 8 / 23
الادارة و الاقتصاد


لقد كان للموقع الجغرافي الذي تمتعت به مدينة معان الأردنية العامل المهم في صياغة البنى الاقتصادية والاجتماعية منذ قرون خلت إذ كانت ملتقى للطرق التجارية ومحطة للمسافرين القادمين من شمال أفريقيا والجزيرة العربية وبلاد الشام , في تلك الواحة الصحراوية التي تقع على حافة الصحراء استقرت مجموعات من الأسر والأفراد ممن تقطعت بهم السبل من الحجيج أو من بعض الفارين من لظى المجاعات في الجزيرة العربية أو من المتكسبين من صغار التجار والكسبة في بلاد فلسطين أو من المطاردين من قبل السلطات العثمانية الإقطاعية ووفق منطق التاريخ تطورت هذه التجمعات ونمت وتآلفت وشكلت مجموعات عشائرية متوازنة وتعارفت فيما بينها على مجموعة من الأعراف الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والتزمت ببعض السلوكيات الثقافية والاجتماعية التي أخذت بعين الاعتبار المعطيات البيئية والمناخ والتركيبة الاجتماعية وتوفرت هذه المجموعات على ثقافة فلكلورية فسيفسائية نتجت مع طول الزمن عن الامتزاج الثقافي الذي كانت تفرزه الأسواق التجارية العكاظية التي يعقدها الحجاج والمسافرون القادمون من مختلف الأقاليم والنواحي والتي يعقبها مهرجانات ثقافية يتداولون فيها الشعر والحكم والحكايات والأخبار في تلك الأسواق كان يجتمع في كل عام آلاف الحجاج الذاهبين الى الديار الحجازية والآيبين منها فجميع تلك العوامل ساهمت في خلق خصوصية ثقافية واجتماعية متميزة ومتطورة ومختلفة عن غيرها من النقاط الحضرية في جنوبي بلاد الشام.

لقد كان المصدر الرئيس للعيش في تلك الحقبة هي الزراعة بالدرجة الاولى ثم التجارة التبادلية وبعض الحرفيات الصغيرة التي تفي بحاجات السكان القنوعين.

عبر فترات زمنية متعاقبة انشأ السكان في تلك الواحة الخصبة التي شبهها الرحالة بيركهارت بغوطة دمشق بساتين وحدائق مغلقة تدعى ( القصائل) وهذه الحدائق كانت تحاط بأسوار طينية مرتفعة حماية لها من اعتداءات البدو أو جمهرة المسافرين المتدفقين إلى تلك المنطقة بأعداد غفيرة وكانت تفصل تلك الحدائق عن بعضها البعض أزقة ضيقة تدعى الزقاق يتخللها مجاري للمياه العذبة التي تروي هذه الحدائق التي كانت تزرع بمختلف المزروعات والأشجار المثمرة والخضروات المختلفة التي تسد حاجة السكان الغذائية فيما أحاطت وتخللت تلك الحدائق المغلقة أبراج للحراسة مرتفعة البناء وأسطوانية الشكل يستخدمها السكان كنقاط للمراقبة ليلا وللاستراحة نهارا , أما بالنسبة للمياه فكانت تجلب عبر قنوات قديمة ممتدة من جبال الشراه التي تبعد عن المدينة بضعة كيلو مترات وهذه الاقنية القديمة كانت تدعى (الضواوي, مفردها ضوية وهي الفتحة النافذة من سطح الأرض إلى قناة الماء تحت الأرض) وهذه الطريقة اكتسبها السكان من نظام الاقنية القديمة عند العرب الأنباط وهذه القنوات التي تعمل تحت سطح الأرض وينفذ إليها طاقات هوائية للتهوية, تتجمع المياه أثناء سيرها داخل تلك الاقنية وتخرج من الينابيع التي استصلحها السكان وعملوا لها أماكن لتتجمع فيها قبل عملية التوزيع وكانت هناك بضعا من البرك القديمة التي أقامها السكان لتجميع تلك المياه قبل اقتسامها وتوزيعها بطريقة منظمة ودقيقة وفق جدول زمني محدد ودقيق ولا ننسى آبار المياه العامة المنتشرة في طرقات المدينة والتي يستسقي منها عامة الناس وتلك الآبار كانت أيضا تحفر أحيانا في داخل الحدائق لتعويض أي نقص قد يطرأ أثناء فصل الصيف وفي كل منزل من منازل أهالي معان في تلك الحقبة يوجد بئر ماء يشرب منه سكان المنزل.

ان الملكية لتلك الحدائق كانت ملكية فردية واحيانا عائلية الا ان ملكية المياه والآبار والبرك كانت عامة والاشراف عليها والعناية بها كانا واجبا عاما على كل السكان اما بالنسبة للاراضي المحيطة بالمدينة فكانت ملكيتها عائلية للقبيلة او العشيرة وقد تعارف السكان على عادة حميدة لمن يمتلك اكثر من حديقة الا وهي ان يهب احدى حدائقه او اكثر لانسان آخر بدون مقابل في احدى المناسبات السعيدة وكان لتلك العادة الاثر القوي في عدم تراكم الثروات عند البعض دون الآخر.

تلك الحدائق كانت تحقق الكفاية للسكان في بعض المناحي اما بالنسبة للحبوب فكان يتم الحصول عليها فق علاقة اقتصادية وبرنامج محدد يتم ترتيبه بين البدو والسكان المحليين حيث يقوم البدو المحيطين بالمدينة بتقديم الأرض للسكان ليعملوا فيها مقابل اقتسام الناتج في موسم الحصاد ومن جهة اخرى يقوم السكان بالسماح للبدو برعي ماشيتهم والعناية بها مقابل اقتسام الناتج بطريقة معينة وتنشأ علاقة اجتماعية بين كل عائلة بدوية والعائلة في المدينة يتم على أثرها استقبال واستضافة هذا البدوي في المنزل وإكرامه أثناء موسم تبادل السلع والحاجيات وشراء اللوازم التي تخصهم وبذلك يضمن السكان حاجاتهم من الحبوب بهذه الطريقة والعمل في زراعة الحبوب وحصادها يكون في موسم زمني قصير من السنة.

في اسواق المدينة كان يتم تبادل السلع او شراؤها وبيعها فيما بين البدو القادمين من الصحراء الذين يجلبون معهم الأصواف والألبان والجلود والماشية ليأخذوا بدلا منها البن والتبغ والأقمشة والحبوب والذخيرة ومختلف حاجياتهم لقد كان البدو يقيمون لأيام وأسابيع وتقام هذه الأسواق في الساحات الكبيرة .



لم يكن هناك في أسواق تلك المدينة صناعة متطورة بل وجدت فئات حرفية صغيرة تنتج بأيديها لتبيع على السكان فكان هناك الحدادون والنحاسون والقصابون وغيرهم من الحرفيين الصغار الذين يقومون بمختلف المهن غير ان الطابع المميز للسكان المحليين هو انهم يتقنون غالبية الأعمال المهنية ويقومون بها بأنفسهم وقد تحدث الرحالة الفنلندي فالن عن هجرة حدثت من الخليل إلى معان في أواسط القرن التاسع عشر مكونة من مجموعة من الحرفيين وكانت هذه الفئات قليلة, أما عن فئة التجار فكانت فئة اكبر تقوم بالعمليات التجارية داخل وخارج المدينة على شكل قوافل صغيرة ترتاد فلسطين ومصر والحجاز وتقوم بتخزين بضائعها داخل المنازل الكبيرة. وقد نشأت طبقة صغيرة من التجار الشوام والحجازيين في أواخر القرن التاسع عشر ونمت مع وصول الخط الحديدي إلى المدينة إلا أن هذه الطبقة الصغيرة انقرضت في النصف الأول من القرن العشرين نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية التي ألمت بالمنطقة الا ان اهم ما يميز الفئات الجتماعية عموما في المدينة هو التساوي التقريبي في الثروة المادية وفي حال حدوث تراكم في الثروة لدى البعض يجبره العرف السائدة على تقديم المزيد من الخدمات لباقي السكان كصنع الطعام الجماعي بطريقة دورية لمجموعات معينة من الناس والتكفل بسد الغرامات المستحقة على بعض الأفراد أثناء نشوب بعض الخلافات الاجتماعية.

اما بالنسبة للعلاقات الاجتماعية والتي كانت انعكاسا حقيقيا للعلاقات الاقتصادية فكانت قائمة تماما على التعاون والتعاضد والمشاركة الجماعية في شتى الامور فقد كان سكان المدينة يشكلون كتلة اجتماعية واحدة منظمة اقتصاديا وسياسيا واداريا , فشؤون البناء وجلب الحجارة وجذوع الاشجار الضخمة والعناية بالمياه وصيانة الآبار والعمل في موسم الحصاد والرعي بالماشية في اطراف المدينة وشؤون الدفاع عن المدينة وفض الخلافات الناشبة بين السكان والافراح والمواساة وكافة المناسبات الاجتماعية والاحتفالات التي يتم فيها صنع الطعام الجماعي الذي يشترك في تناوله العشرات في آن واحد كانت جميعها تقام بشكل جماعي وبروح الفريق الواحد فمن يتخلف عن العمل الجماعي يتعرض للنقد والنبذ من قبل الآخرين, تلك هي حال المدينة قبل ان تأتي البرجوازية الرأسمالية لتحطم كل العلاقات الانسانية الايجابية التي كانت تشكل السياج المتين لتلك المجموعة السكانية القابعة في وسط الصحراء.

اما عن نظام السكنى الجماعية فسأضرب مثالا واحد هو قلعة الشامية التي انشأت في القرن السابع عشر الميلادي على تلة مرتفعة شمال المدينة حيث تبلغ مساحتها الاجمالية بضعة دونمات وكانت هذه القلعة الحجرية مأوى لعشرات الاسر والعائلات التي تقطن حجراتها والتي تنتظم في علاقات معينة وتتبادل المهام فيما بينها دوريا بشكل منظم ودقيق للغاية حيث تغلق الابواب الرئيسة لها بعد الغروب اما عن طبيعة البناء في المدينة فإنه يعكس حقيقة العلاقات الاجتماعية المتينة من حيث شكل البناء واتصال الازقة وتقسيم الساحات والاحياءوحفر الآبار في داخل الساحات بين المنازل الطينية الشامخة.

لقد اوكلت الدولة العثمانية شؤون الادارة في تلك المدينة ومتابعة شؤون الحجيج وتزويد قوافلهم بالماء والمؤن الى سكان مدينة معان والغت الرسوم المترتبة عليهم وغضت الطرف عنهم مقابل تنظيم شؤون الحجيج والاشراف على تلك القلعة التي يسكنها بعض الاهالي.

لقد كانت الديمقراطية المباشرة السمة الاساسية لاتخاذ القرارات والمشاركة فيها فقد تخصص افراد معينون من كبار السن واصحاب الخبرة لفض الخلافات وحل مختلف القضايا التي تنشأ بين السكان بالاساليب الديمقراطية وبدون مقابل بل قد يخسر اولئك الناس من جيوبهم لقاء انهاء بعض الخلافات المزمنة التي يترتب عليها بعض الغرامات المالية , وقد كانت المرجعية التشريعية في ازالة الاشكاليات المالية والاجتماعية هي المرجعية القضائية العشائرية التي قدمت للمجتمع في ذلك العصر خدمات جلى وكانت تفرض نفسها على الافراد بمنتهى الرغبة لديهم دون اللجوء الى العنف والسلاح والعسكر فكل يعرف واجباته وحقوقه وما له وما عليه , ويتم تطارح الافكار والاراء المختلفة في اماكن عامة تدعي (القهاوي) مفردها قهوة وهذا المكان الذي تشعل فيه النار لصنع القهوة حين يتداول الرجال المشورة فيما بينهم ويتم احيانا صنع الطعام للضيوف القادمين او للموجودين عموما , لا يتم الزام الجميع برأي الخبير او كبير السن بل يكون الطرح على سبيل التحبب والتفضيل لا الاجبار فالقرار يتم اتخاذه برضى الجميع ويكون نابعا عن الارادة الحرة للافراد لا الاستبداد والاجبار, في تلك الدواوين والمقاهي تحل الخلافات وتعقد المشورات وتفض النزاعات اما عن تمويل هذه المقاهي فيكون سنويا عندما يجتمع الناس ايام العيد فيوضع وعاء كبير للتبرع بيدفع الجميع كل حسب طاقته ويقومون للتبرع لسد حاجيات هذه المجالس والقيام على شؤونها ومستلزماتها المادية ولا ننسى ان تلك النوادي كان لها دور ادبي في ما مضى متمثلا بالمطارحات والمساجلات الشعرية التي يتداولها الحضور والمسامرات المختلفة.

لا نريد ان نبالغ في تجميل الوضع السائد في تلك الواحة الصحراوية كثيرا الا ان الحقيقة تدعونا الا ان نكشف عن سبب صمود تلك الكومونة الصحراوية دهورا طويلة في وجه الظروف الصعبة المحيطة بها, ان شكل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والممارسات الديمقراطية المباشرة حقق بالدرجة الاولى نوعا من العدالة وشروطا للبقاء والصمود والتطور والنماء والاستقرار في تلك الواحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة طارق الشناوي يتخلى عن النقد.. مش جاي عشان يجلد حد ب


.. بوتين يغير القيادات: استراتيجية جديدة لاقتصاد الحرب؟ | بتوق




.. رشا عبد العال رئيس مصلحة الضرائب: لا زيادة في شرائح الضرائب


.. مستقبل الطاقة | هل يمكن أن يشكل تحول الطاقة فرصة اقتصادية لم




.. ملفات اقتصادية على أجندة «قمة البحرين»