الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترييف المجتمع العراقي

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2021 / 10 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


تشهد دول العالم المختلفة تزايدا مطردا , بإنتقال الكثير من مواطنيها من مناطق سكنهم في القرى والإرياف والقصبات إلى المدن , نظرا لما توفره المدن من فرص عمل أكثر , وما تتمتع به من خدمات تعليمية وصحية ومعيشية أفضل بشكل عام,مما هي عليه في قراهم, مما نجم عنه زيادة كبيرة في عدد سكان المدن ,بحيث لم يعد بمقدورها تحمل المزيد من السكان الجدد. ونظرا لتدني المستوى التعليمي لهؤلاء النازحين وضعف تأهيلهم المهني في معظم الآحيان , فقد أدى ذلك إلى ممارستهم أعمال متدنية في سلم المهن والوظائف التي لا تتطلب مهارات عالية , وتقاضي أجور زهيدة لا توفر لهم العيش المناسب , مما يضطرهم للسكن في مساكن مكتضة في مناطق بائسة قد لا تتوفر فيها الخدمات الصحية والتعليمية المناسبة , فيما بات يعرف بالعشوائيات وهي مجمعات سكنية غير نظامية غالبا ما تنشأ في أطراف المدن, وتفتقر إلى أبسط شروط السلامة للسكن الآمن . وقد يشكل بعضها بيئة مناسبة لمافيات الجريمة المنظمة وعصابات السطو المسلح وتعاطي المخدرات والإتجار بالبشر. يعيش حاليا ما لا يقل عن( 800 ) مليون شخص في الأحياء الفقيرة في دول العالم المختلفة.
تشير الإحصاءات الدولية إلى أن نسبة السكان في المدن في مختلف دول العالم إلى إجمالي عدد السكان , قد ارتفعت من( 30% ) سنة 1950 إلى( 55% ) سنة 2018، ومن المتوقع ان تصل إلى( 60% ) سنة 2030. وبحسب ما تُشير إليه هذه الإحصاءات فقد وصلت نسبة سكان المدن في مصر مثلا إلى( 42%) من إجمالي السكان سنة 2016، وبلغت في الصين ( 53%)، وفي الولايات المتحدة الأميركية ( 81%).وتعزى نسبة كبيرة من هذه الزيادات إلى تدفق المهاجرين إلى هذه المدن من المناطق ألريفية .وفي العراق تشير الإحصاءات المتاحة إلى أن نسبة سكان الحضر إلى مجموع السكان قد قفزت من حدود (36% ) عام 1947 إلى( 64% ) عام 1977 وإلى ( 72% ) عام 1997 , وما زالت هذه النسب في زيادة مطردة بسبب سوء الأحوال المعيشية في القرى والأرياف جراء تدهور القطاع الزراعي نتيجة سوء الإدارة وشح المياه المتدفقة من دول جوار العراق.
يقدر عدد سكان العراق حسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء سنة 2020 نحو ( 41,190,658) نسمة , مقابل ( 4816000) نسمة عام 1947 ,أي بزيادة أكثر بثمانية أضعاف , موزعين بواقع (28,779,201)حضر و(12,411,457) ريف. بلغ سكان محافظة بغداد (8,340,711)نسمة, تليها محافظة الموصل (3,828,197 ) نسمة والبصرة(2,985,073)نسمة. وتوضح المعطيات الإحصائية أن محافظة بغداد تأتي في مقدمة المحافظات جذبا للسكان. ويشير تقرير الجهاز المركزي إلى أن الهجرة في العراق هي بالأساس هجرة عائلية دائمة بسبب ظروف الحياة السيئة في الريف مقارنة بالمدينة. شهد العراق أول حالة نزوح واسعة من الريف إلى المدينة في أعقاب ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 , حيث نزحت أعداد كبيرة من فلاحي محافظات العمارة والناصرية وبعض مناطق وسط وجنوب العراق , للسكن في مدينة بغداد بالدرجة الأساس , تليها مدينة البصرة , حيث شكل هؤلاء النازحين مناطق تكاد تكون مغلقة خاصة بهم في أطراف بغداد .
لم يكن هؤلاء القادمون الجدد مرحبا بهم من قطاعات واسعة من سكان هذه المدن , حيث كان ينظر البعض إليهم بإمتعاض وإزدراء وكأنهم ليسوا مواطنيين عراقيين, لهم كما لسواهم حق العيش في أي مكان. يصفهم البعض في بغداد بمصطلح "الشروك " , وهم لا يقصدون بذلك أنهم نازحون من مناطق شرقي بغداد أي محافظات الوسط والجنوب , بل يقصدون تحقيرهم لتدني مستوياتهم المعيشية والتعليمية والثقافية التي حرمتهم حكوماتهم من نيلهم قسطا منها, وكذا الحال في البصرة حيث كانت تطلق تسمية " جرمن " على النازحين من محافظة العمارة , وكلمة جرمن كما هو معروف تعني الألمان باللغة الإنكليزية , وهم هنا يطلقونها على هؤلاء الكادحين من باب الإستهزاء والإستخفاف بهم , ويطلقون على القادمين من محافظة الناصرية مصطلح " الشجرة الخبيثة" للدلالة على عدم الترحيب بهم . ولا يختلف الحالة في المدن الأخرى , إذ يطلق سكانها على القادمين إليها من القرى والأرياف تسمية " المعدان " التي تحمل في ثناياها مفهوم الجهل والتخلف والإستخفاف , وجميع هذه المفردات تستخدم أحيانا موضع الذم والإستهانة.
وبمرور الوقت إندمج هؤلاء النازحون بمجتمعاتهم المدنية الجديدة , ونال الكثير منهم قسطا جيدا من التعليم وتسلموا بعض الوظائف ومارسوا مهنا مختلفة , كما إنخرط البعض الآخر في التنظيمات السياسية الراديكالية اليسارية والقومية والدينية على وجه الخصوص, حيث وجدت فيهم هذه الأحزاب مادة دسمة للكسب الحزبي , وإستعداد الكثير منهم تنفيذ ما يكلفون به من واجبات حزبية مهما كلفهم ذلك من تضحيات . كان الزعيم عبد الكريم قاسم أول من إهتم بهذه الشريحة من الكادحين , بنقلهم من مناطق سكنهم البائسة , وإسكانهم في مساكن أفضل فيما عرف بمدينة الثورة ,أستبدلت تسميتها في عقد الثمانينيات "بمدينة صدام" التي قدمت ضحايا في الحرب العراقية الإيرانية أكثر من أي مدينة أخرى في العراق , ونالت بذلك قدرا لا بأس به من الإهتمام الحكومي حيث بذلت جهود جيدة لتحسين مستوى الخدمات المقدمة لسكانها , ومرة أخرى تعاد تسمستها بعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 لتسمى "مدينة الصدر".كان هؤلاء المساكين وقودا جاهزة لجميع الحروب والصراعات الدامية في كل عصر وزمان ,دون أن يكون لأيا منهم فيها ناقة ولا جمل , بينما يعيش حكامهم في رغد وسلام ينعمون بخيرات العراق دون حساب.
حافظ النازحون من الأرياف إلى المدن على عاداتهم الريفية المتوارثة وترابطهم الأسري والعشائري على الرغم من عيشهم في المدن فترة ليست بالقليلة , لكن لم يكن تأثيرها فيهم كبيرا. وقد إستغل الحكام هذه الخاصية فيهم وتوظيفها لخدمة حكوماتهم عندما وجدت نفسها بحاجة أكبر لدعمها في ظروفها الصعبة جراء حروبها وصراعاتها . شهد عقد الثمانينيات بداية غير محمودة لعودة العشائرية إلى العراق بالتأكيد على الكوادر الحزبية بيان نسبها العشائري لسابع جد , بعد أن حرمها النظام في عقد السبعينيات بعدم السماح بإستخدام الألقاب العشائرية . وشهد عقد التسعينيات ظاهرة ما عرف بشيوخ التسعينيات الداعمين لسلطة النظام , حيث أسس مكتب بديوان رئاسة الجمهورية لرعاية مصالحهم . وبذلك إزداد نفوذ العشائر في قراهم وقد إمتد هذا النفوذ إلى المدن بما فيها بغداد من خلال النازحين من أبناء عشائرهم في فترات سابقة . لكن الكارثة الكبرى قد حلت بالنسيج المجتمعي العراقي عند غزوه وإحتلاله عام 2003 , وإنهيار الدولة العراقية ومؤسساتها , حيث بات فيها رؤساء العشائر والمتنفذين فيها يفرضون أعرافهم العشائرية البالية على المجتمعات المدنية بقوة السلاح إن لزم الأمرذلك. فلا عجب أن تتناقل الأنباء بين الحين والآخر إندلاع نزاعات عشائرية واسعة في بغداد والبصرة والناصرية والعمارة وغيرها دون أن تحرك الحكومات ساكنا , ويتم فضها عبر المفاوضات العشائرية من خلال ما يعرف بوجائها على وفق النواميس العشائرية . ومن الغرائب التي باتت تشهدها المدن مطالبة الأطباء بدفع ما يعرف بالدية إذا ما توفى أحد مرضى العشائر في المستشفيات , وبخلافه تتعرض حياتهم للخطر . كما شهدت بعض المستشفيات نزاعات عشائرية في أروقتها, وشهدت بعض الجامعات هوسات عشائرية في قاعات مناقشة رسائل وأطاريح طلبة الدراسات العليا في الجامعات , ناهيك عن عودة عادات الفصل والدكة العشائرية . أي بإختصار ترييف المجتمع المدني العراق بدلا من تمدين المجتمع الريفي , إذ أن المدنية سمة التحضر في كل زمان ومكان , وليس العودة إلى قيم بالية لم تعد صالحة للحياة الإنسانية المعاصرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون