الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة لكن بعقل قرية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 10 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


قلت إن الحكم المدني هو ذلك الذي ينشأ في "المدينة" ويمارسه قلة من أهلها أو أكثريتهم في أشكال متعددة ما بين الديكتاتورية والديمقراطية، لكنها تبقى جميعاً "مدنية"، لأن الحاكمين في النهاية هم أنفسهم من "أهل المدينة" أيضاً. وحين تحتكر حكم المدينة فئة أو طائفة محددة، دينية أو مهنية أو عرقية أو غير ذلك، إلى حد استبعاد شركائها في المدينة من المشاركة الفعالة في الحكم يكتسب الأخير مسمى تلك الأقلية المحتكرة. لذا تظهر أشكال الحكم- الديكتاتورية بالضرورة- العسكرية نسبة إلى المؤسسة الأمنية كفئة مهنية واحدة وسط فئات المدينة المتعددة، أو الطائفية نسبة إلى طائفة دينية معينة من بين طوائف المدينة المختلفة، أو العرقية نسبة إلى عرق بالذات من بين الأعراق المستوطنة للمدينة...الخ.

كما قلت إن الديمقراطية- مشاركة أهل المدينة بدرجة مرضية في حكم مدينتهم- هي امتداد صحي وطبيعي للحكم المدني، ذلك الذي ينشأ في المدينة دون غيرها، ولا يمكن أبداً أن ينشأ في القرية، مثلاً. معنى ذلك أن الحكم الديمقراطي هو حكم مدني بطبيعته، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. لكن ليس كل حكم مدني هو حكم ديمقراطي بالضرورة. هناك الديكتاتوريات المدنية أيضاً. وهنا يجب شد الخط الفاصل ما بين القرية والمدينة.
ما هو الفارق الحاسم ما بين القرية والمدينة، ذلك الذي يجزم بكون تجمع بشري ما قرية أو مدينة؟

إن كل تجمع بشري مهما كان ينتظم حول نسق من الروابط والعلاقات فيما بين أفراده ومكوناته. في القرية، البيولوجيا الأولية هي المحدد المحوري للروابط والعلاقات فيما بين أفراد الجماعة البشرية الصغيرة، حيث تلعب الأسرة والعائلة وعلاقات النسب والمصاهرة أدوراً مهمة في تسيير شؤون الجماعة ومصالحها. معرفة الأفراد لبعضهم البعض بالاسم والعائلة والعشيرة والقبيلة وما إلى ذلك هي حجز الزاوية لتنظيم حياتهم كلها في حدود القرية. وتُسن القواعد والأعراف المنظمة لحياة الجماعة القروية على أساس هذه المعرفة الشخصية، ومن ثم هي قواعد "مشخصنة"- أي مفصلة تفصيلاً حسب مقاسات أشخاص بذواتهم، كل منهم بحسب مقاسه المناسب. في مثل هذه البيئة، يستحيل أن تتشكل قوانين موضوعية ومحايدة، وهي شرط أساسي لقيام الدولة المدنية- سواء ديكتاتورية أو ديمقراطية.

حين تنضج الجماعة القروية الصغيرة وتتطور إلى مدينة، تضيع الروابط البيولوجية وسط الزحام وتصبح المعرفة الشخصية والعائلية الكافية بينهم مستحيلة، ومن ثم تتهيأ التربة لظهور رابط جديد- التصنيف الفئوي والمهني والطائفي والعرقي والديني وغير ذلك. تصبح فئة المرء أو مهنته أو طائفته أو عرقه أو دينيه بمثابة عائلته وعشيرته وقبيلته السابقة أثناء حياته في القرية. وهنا تفسح "الشخصنة" المجال أمام "المأسسة"، حيث القواعد والأعراف المفصلة تفصيلاً ليس على مقاس أشخاص بذواتهم لكن على مقاس مؤسسات بذواتها. وسط هذه البيئة، في ظل تواري الأشخاص لصالح المؤسسات، تصبح الظروف مواتية لوضع القوانين الموضوعية المحايدة ونشأة الدولة المدنية. فإذا توفرت درجة مرضية من التوازن بين المؤسسات في المشاركة في الحكم، كانت الديمقراطية لكن إذا غلبت مؤسسة ما على الأخريات بطريقة أو بأخرى اكتسب الحكم مسمى المؤسسة الغالبة وخصائصها.

في القرية توجد عائلات أساسها بيولوجي أولي متمثل في روابط الدم والقربى والمصاهرة والنسب، لكن في المدينة توجد مؤسسات أساسها فئوي متمثل في قواعد وقوانين وأعراف موضوعية محايدة تسعى كل فئة إلى تجييرها لمصلحتها الفئوية الخاصة بصرف النظر عن مصالح أشخاص بذواتهم. في قول آخر، طبيعة العلاقات فيما بين مكونات المجموعة البشرية هي المحدد الأساسي لمدى تطورهم ما بين القرية والمدينة.

ما هي، إذن، طبيعة العلاقات السائدة داخل المدن العربية المختلفة؟ هل استطاعت مدينة كبرى من أعرق وأضخم مدن العالم، مثل القاهرة ودمشق وبغداد، أن تنمي وتطور من المؤسسات "المدنية" ما هي جديرة به؟ وهل أفلحت مدناً مزدهرة تعتبر اليوم من أحدث وأجمل وأغنى مدن العالم، مثل دبي والرياض والدوحة، في تجاوز بدائية الروابط العائلية والانطلاق إلى ما تستحقه بنيتها التحتية فائقة التقدم من قواعد وقوانين حديثة وموضوعية؟ أم أن مدننا العربية العريقة والفاخرة على السواء لا تزال تعيش بعقول القرى الأولى؟

ماذا يمنع المدينة العربية من إنجاب وتنشئة مؤسسات "مدنية"، أو "مجتمع مدني" كما نسميه؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا