الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوارير تثور أيضا... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 10 / 27
الادب والفن


التهم الزمن رحيق الروح، وانسكب معتكراً في قوارير ملساء شفافة، أخلاطه تتفاعل وتقترب من لحظة الانفجار.
يسود الغموضُ النفسَ والوقت، ويدنو حذر ينذر بحدوث أمر لا يتوقعه أحد، يتكوّم الاحتقان منذ زمن، تتناثر بعض الاحتجاجات في كثير من المواقع، لكنها تبدو كلاما من زبد، ما تكاد تطفو حتى يبعثرها جدار من صخور عملاقة، يذروها الريح في كل اتجاه.
شلال تساؤلات، ينسكب على لحظة تأمل، يغرقني في ماض من التراكمات، لوجوه اعتادت القسوة والشدة والجبروت، تطعن الفكرة، وتشد الخطوة إلى الوراء.
ماض أراه أمامي وقد أحضرته نجمة، إلا أني ما زلت أرفض الإيمان بتحضير الأرواح.
مويجات من نسيمات هادئة لطيفة، تتدفق في غروب نيسان، تخمد سعير نفسي، آن أستبقي دهشتي خلف سراب الرؤى الملونة، أرقب مساحات الحلم، ونمو البراعم.
من شلال تساؤلاتي ( أين أنت أيها العدل.. أين أنت.. كنت صرخة الطلقة الأولى.. وكنت النشأة التي باركتها السماء،، والهمسات الأولى للصلب والبسملة).
كأنها لم تُجْدِ كل تلك الحوارات التي نرهق أيامنا في معاركها، ولو كانت على ورق، لأنها تذوب في لجة العتمة، فهل يجدي الصراخ؟. بُحت الحناجر، وتفحمت السنابل الحبلى، أحسست أن صوتي كحداء في بيداء، لم أعد أجد طيفا لحل في هذا الحاضر، الذي يلتحف بعباءة الماضي المتوالي. لقد صار عثرة الطموح والأمل، يعبث كالأقدار بالرغبة والحس والمصير، حتى غدا الإبداع في براثن ضيغم، فإلى متى ينتصب الماضي الحاضر كجدار صلد؟، لا يسمح لابتسامة لقلب محب؟. أو لقفزات صبية يلاعبهم الفرح؟.
لقد خشيت على الهواء من لوثة جفافه، كأنه مخض بلا زبد، سجل للقهر والعنت، متسلق يمتطي أوليات الصعود، التي شغلتها الطبيعة بندى تعب الجباه الهني، فكان غضبا وحرائق، وكان غزوا وسلبا وألما، أو ريحاً تقتلع الضحكة والأغنية، كأنه سوس ينخر، يحفر، يعشش كدمّل تقيح فغزاه دود الأرض والهواء، فأحال العطاء والنماء والبهاء جثة مهترئة، حتى غدت رمادا تلعنه. أقبل كشبح يلوّح بسيف يبكي دما، وهو يقهقه بحزم وفظاعة ليئد الحلم.
يبرق بروقا، ويقبض عليه بلؤم، فتوجع السيف وبرق وتأوه، تمنى لو كان مهدا لوليد يولد على الفطرة، عرشا لملك عادل، سكة لمحراث فلاح تشققت أصابعه، موسى ينظف بشرة الوجوه من ركام الادعاءات، أو ليفصل حبل السرة عن المشيمة، سلاسل وأغلالا صدئة متآكلة انتهي فعلها، ذاك الجبار، يلقي بأوامره ونواهيه كالتهديد والوعيد، آه، يا لهذا الثغر الذي نسي الابتسام آه، يا لهذا العمر يمضي سدى، وهو يفتش عن شيء من الحق وبعض الجمال، ولكن كمن يقبض على هبة ريح أو دفقة من سراب.
ألا يليق مشهد المهرات والظباء والمهاة والزنابق والسوافر والعرائس والحرائر في حضرته؟.
صرخ صرخته المرعبة: ( النساء تبتعد عن الشمس.. وراء الحكايات البائسة.. وفي أقبية الجن والعفاريت.. ولا تلتقي بالرجال في أي وقت وفي أي مكان).
قراره نهائي في تعطيل فعل الحياة وجمالها وانطلاقها، فكيف إذا أباح لحضنه الإماء والجواري؟ وتلقّف العطايا والهدايا والسبايا؟.
انتهى كل شيء، روّض الجنان لمشيئته القاحلة، اقتلع الأطياب من دروبنا، ونشر الأشواك والعليق والحنظل. أوامره مقيتة وظالمة، فبقيت النفوس في تحد أمام السيف، وامتلأت الصدور بأنفاس الرفض بلا كلام.
تسربلت النساء مبتعدات تحيط بهن خيبة، زحفت أقدامهن الرشيقة بتثاقل وأسى، يختلسن نظرات تائهة حائرة، يودّعن نضارة الحياة، وقعد الرجال في صبر وضياع.
صرت أرقب الأفق الشاحب المتألم، فغبشت الدموع عيني حزنا على الفراق، وأحسست برأسي صار ثقيلا ثقيلا ثقيلا، كأني أحمل فوق جذعي غربالا تختلط فيه حبوب الأسئلة، كالمسامير غسلت الدموع عيني من برودة ليل الواقع، وسخونة الانفعال، كأن نفسي فراشة تهتز باحثة عن أملها الجريح، لا تهدأ بغير انفراج الزهر عن الرحيق والعبير، أو أن تنزوي داخل الشرنقة الأبدية.
تصورت قوارير مخبري كائنات تود النطق والاحتجاج، هي نظيفة وأنيقة ومتنوعة الحجوم والأشكال والألوان، فما أبدع أن يتعامل المرء مع القوارير الشفافة.
فجأة، توقفت لحظات تأملي، نهضتُ، أسرعت أمد خطاي، قصدت صالة لمنحوتات وأواني لعدد من الفنانين المبدعين، كانت غالب المعروضات تماثيل نساء، وقوارير من خامات مختلفة، لدائن وصلصال وعجائن ملونة، مهرجان للفرجة يمتع العين، ويريح النفس، يصعب علي وصف هذا الإحساس، كما يصعب مغادرته دون أن أضفي عليه شيئا من تصوري، ليبد و كأنه عين الحقيقة.
تأتلف مع المشهد أنغام ترغم الآه على الانزياح عن صدر معنى، يرافقه صداح مخملي يحلق بالروح فوق الغيوم، يأخذها نحو بحار الحلم، وفضاء التمني، لم أدر ما أصابني، كأني أطير غبطة، أو أغوص في بحيرة من خيالات تسبح بي بعيدا بعيدا بعيدا، كأني أرى رؤيا تختصم مع الحقيقة، خيال مفعم بحياة تتلون وتأتلق بالحق والحرية والعدل الشفيف. امتدت بي رغبتي، أأنا مريض أم جننت؟. حتى أرى القوارير والتماثيل والمعروضات تكتسي شعرا منسدلا وهفهافا، صار لها ثغور تبتسم وعيون، شيء كالمستحيل، لكنه يحدث، كمن يتوقع فجأة سقوط القمر وهو يناجيه بأرق المشاعر.
توشحت بأردية ملونة ومزهرة، منها ما هو فضفاض ، ومنها ما هو ملتصق يتسربل حتى القدمين، ضحكتُ همساً، وعجبت مما أراه، لكني تابعت مشهدي الأثير بغبطة.
ما هذا، يا للعجب، لقد نزلت عن قواعدها ومنصاتها المرمرية، مشت على الرخام، كانت تتهادى بغنج ورقة ودلال، همست لنفسي( يحق لها أن ترى نفسها في عينيها وعيون الآخرين .. ويحق لها أن تفرح.. وتلبس.. وتتمايل.. هي خلقت لهذا أيضا).
ابتعد الزوار إلى أطراف الرواق، أبصارهم معلقة بهن بدهشة وتعجب، أفواههم فاغرة بسرور غامر، يلفحهم طيفهن بعبير ينعش أرواحهم المنطفئة، كـأنهم يرون عالم الجن أو الجنان.
الباب مفتوح على أخره رغم اتساعه، خرجن إلى الطبيعة، قطفت أناملهن من زهور الحديقة باقات، انتشرن في الشوارع والساحات، ترك الناس أعمالهم ليمسحوا عرقهم لبضع دقائق، ومنهم من مشى خلفهن مسحوب الإرادة.
حسدَتْهنّ النساء اللواتي يتجمعن في زوايا الأرصفة أو الحدائق، كأنهن أكوام من حجارة بركانية تعكر روعة انسياب الطبيعة في مشهدها الفطري.
مهرجان لوّن هذا النهار بالفتنة والألق، حتى اكتحلت العيون، وترطبت النفوس. في آخر النهار، توزعن على المقاهي والمقاصف والمطاعم والفنادق والأسواق، قدّمن خدمات ومساعدات برقة الفراشات وكرم النحل.
في صباح اليوم التالي، كانت شوارع المدينة تزدهي بأشكال وألوان من النساء، يلبسن لباسا مماثلا، شعورهن نظيفة تفوح بالشذا، حتى الموظفات في مؤسسات ودوائر الدولة، والمدارس، رمين بأغطيتهن الثقيلة، كل نساء المدينة تزينت بزيهن الجديد، واختفت أكوام الحجارة البركانية.
الفلاحات الوافدات من الأرياف القريبة، بائعات اللبن والجبن والخضرة، لبسن ثيابا مزركشة براقة تناسب النساء في كل الأوقات، توحي بألوان الربيع الريفي البديع.
نزعن عن رؤوسهن غطاءه القديم، وبدت شعورهن المجدولة بضفائر شقراء كقصاصات الذهب، أو فاحمة تتلامع فيها نجوم مبتسمة.
صار الواقع مزهرا ومرحا، يفتح مساحات الروح بالغبطة والسرور. وفي المشهد رجال يتحدثون مع النساء في البيع والشراء، ولا يضايقونهن في أي شيء، صادقون، ولا يعترضون طريقهن أو يحتجون على ما يرون، أراهم معجبون، ينظرون إليهن بسعادة أيضاً.
شيء يدهش الجماد، فما سر ما حدث؟.
السوق هو السوق الذي أعرفه منذ زمن، بناؤه، مداخله، شوارعه، أزقته وأحياؤه، لم يتغير إلا شكل الساحات والجنائن والتقاطعات، صارت أكثر نظافة واتساعا وتنظيما، تستهوي المرء للجلوس والتأمل.
قرّت النفوس، واطمأن الناس على حياتهم ومستقبل أولادهم.
دخلت مخبري، تسبقني اللهفة لمعرفة حال القوارير على الرفوف والطاولات، كانت تستحم بالضوء، تبتسم وتهمس، فهمست لنفسي: ( هل صنعت القوارير لملئها وإفراغها فقط؟.
لماذا نخرجها من أماكنها وقت نشاء؟.. ونزيل عنها الغطاء متى نريد؟.. لماذا نغلفها ونغلق أفواهها ما أن ننتهي من استعمالها بصلف؟.. منذ متى يتداولها الناس كيفما يرغبون.. وكثيرا ما يهملونها بغلظة؟.
إنهم لا يهتمون بمعاملتها فتسقط وتنكسر.. ما لسبيل إلى تغيير هذا السلوك المتعجرف اللئيم؟.
تصورتها تهتز وتتراقص مع الضوء، أخذتها واحدة فواحدة، أزحت الغطاء عنها، حررت أفواهها، أخذت أفرغ من واحدة إلى أخرى مما تحتويه من أكاسيد وسوائل ومواد قديمة سامة وقاتلة، ثم فتحت لها الباب وخرجت.
تحيرت في أمر زوجتي حين رأيتها ترتدي ثيابها الطويلة القاتمة، وتلف رأسها بغطاء اعتادت عليه، وهي تهيء نفسها للخروج إلى عملها، قالت لي:
ــ هل أنت جاهز؟.
نظرت إليها، تقدمت ببطء، مددت يدي إلى رأسها، شاهدتها حذرة، نزعت غطاء راسها، فككت أزرار جلبابها الرمادي وأزحته عن جسمها وأنا أبتسم، فانفلتت من يدي بدهشة وقالت:
ــ ليس وقته الآن.. لم يتبق لدينا وقت.. تأخرنا على الوظيفة.. دفعت كفي باستغراب شديد وصاحت:
ــ ماذا جرى لك ؟.. أنت اليوم على غير عادتك.. هل تناولت حبة زرقاء؟.
قلت لها:
ــ لا لا لا.. لن أفعل أي شيء الآن.. فقط ستذهبين هكذا كما أنت.. فلم يبق في المدينة غيرك.. تتدثرين بأغطيتك المقززة.. هيا.. امشِ هكذا بلباسك هذا.. وبشعرك.. ولن يحدث لك شيء.. جربي لا تخافي شيئا.. فلو كنت وحدك هكذا في الشارع والسوق والمدرسة.. قد تلفتين نظر الناس إليك.. ولكن الآن بعد أن صارت كل نساء المدينة مثلك.. لا تخافي أبداً.
فوجئتْ بقرار لم تتوقعه مني، صدمت، قاومت، رفضت تغيير العادة المستحكمة، خشيت أن يراها أحد أقاربها، لكني حاولت إقناعها بحقها في الحياة والحرية، وشجعتها على محاربة العادة التي تلبستها منذ الصغر، لكنها أتعبتني كثيرا، كانت العادة التي أسست سلوكها أقوى من كل حججي، وكان حواري معها بلا طائل رغم علمي برغبتها في التحرر.
فوجئت وتنبهت لإغلاق باب بعنف، كان الحارس يرتج أبواب الرواق ، فتحت عيني، وجدتني وحيدا، أقف أمام المعروضات المدهشة، ودّعتها وأسرعت نحو باب الخروج قبل أن أقضي ليلي في صالة المعروضات بلا أي غطاء يقيني برودة الليل، وطمأنت نفسي وأنا أردد بصوت مسموع:
ــ ماتزال الدنيا في حالة حلم.. فالعيون يؤطرها إثمد الرجاء،، بانتظار حدث يغير الكثير من تفاصيل الحياة المقيتة.. فربما.. ربما.. ربما.. تبدو حياتنا أفضل.. وتستحق أن نعيشها ببساطة ورغبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا