الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ريش ... دميانة نصار

فاطمة ناعوت

2021 / 10 / 27
الادب والفن


فيلمٌ رمزيٌّ فلسفي يقفُ خارج المكان والزمان. لا يعبرُ عن مكان بعينه؛ لأنه يعبّر عن كل مكان فوق الأرض. وكذلك الزمان، قد يكونُ الأمسَ أو الغد، أو الأبدَ أو الأزل. هكذا قرأتُ فيلم "ريش" الذي حصد جوائزَ رفيعة في مهرجان "كان" الفرنسي، ومهرجان الجونة المصري، وأظنُّ أن جوائزَ أخرى في انتظاره؛ لأنه يناقشُ أفكارًا وجودية عابرة للزمان والمكان وهي: "الانسحاق" و"التهديد"، و”التغييب”، ثم ”الخلاص”. كلُّ كادر يحملُ قدرًا من التهديد بأن خطرًا وشيكًا قادمٌ، وأن العالمَ ليس على ما يرام.
لم أرَ الفيلمَ منشغلاً بفكرة "الفقر المدقع" كما أُشيع، رغم الزووم المتكرر على الأيادي الخشنة التي تعدُّ الأوراق المالية المهترئة. فالأسرة التي يدورُ حولها الفيلم تسكن في بيت له جدارن وسقف، ولديها تليفزيون وكاسيت وغسالة وتملك قوتَ يومها، وبهذا تخرجُ من تحت خط الفقر الذي يفتقرُ إلى الحياة الآدمية. ولم أرَ الفيلم مسيئًا لمصر كما ذهبَ البعضُ، ليس فقط لأن مصرَ أكبرُ من الإساءة، بل لأن الفيلمَ كما أسلفتُ وجوديٌّ عابرٌ للمكان، مهمومٌ بأزمة الإنسان مع الانسحاق في كل مكان وزمان.
اختار المخرجُ "عمر الزهيري" أبطاله بعناية من بين البشر العاديين في صعيد مصر. لم يلجأ إلى نجوم التمثيل من الصفّ الأول أو حتى الأخير؛ لأن فلسفتَه أن يعبّر المأزومون عن أزماتهم بمفرداتهم، وملامحهم، وملابسهم، وتلقائيتهم التي قد تخرجُ عن ساحة "الفنية" وتتمترس في ساحة "الواقعية".
بطلةُ الفيلم "دميانة نصّار"، سيدةٌ مليحةٌ بسيطة من صعيد مصر، لم تتعلّم لغةً التمثيل، لكنها تتقن الحياة، وهذا هو المطلوبُ منها. أن تؤدي دورَها كما تعيشه، ولكن وفق سيناريو الانسحاق الذي رسمته فلسفةُ الفيلم. كان صمتُها الدائمُ طوال الفيلم "كلامًا" مختزنًا في قلبها الكسير، سمعناه وإن لم تقله. وملامحُها الجامدة التي لا تضحك ولا تبكي ولا تنفعل، كانت صراعاتٍ صامتةً قرأنا فيها صفعات الانسحاق والإذلال التي تراكمت على أيامها فخطفت منها تعبيرات الوجه حتى صار باردًا Poker Face لا يتغيّر أمام الفرح أو الفجيعة. الزوجُ الذي هو مصدرُ الإذلال، مثلما هو مصدرُ الأمان المادي المتقشف، شخصيةٌ عبثية، من أول الفيلم إلى آخره. يدخن رغم عوز أطفاله، ويُقتّر على زوجته شحيحَ مالٍ يخبئه في صندوق من الصفيح الصدأ. "يحتقرُ" فقرَه فيشتري نافورة غالية، ويكرر على مسامع أصدقائه نفس العبارة: “تدي شكل حلو للمكان، وفي نفس الوقت شيك"، ليضعها في بيت جدارنه مصدوعة وأثاثه بال. وكذا "يحتقرُ" عقل زوجته فيحكي لها، وهو يشرب كوب اللبن الساخن، عن حياته السابقة حيث كانوا يجلبون له بقرةً فوق صحن ليشرب منها الحليب ساخنًا. والزوجة تنصتُ بوجه خالٍ من التعبير، وكأن صمتَها احتقارٌ مضاد. يتحوّلُ الزوجُ إلى دجاجة في لعبة سحرية، ويخفقُ الساحرُ في إعادته لبشريته. والزوجةُ على حالها لا تنفعلُ ولا تصرخُ في وجه الساحر، بل تسهرُ على رعاية الدجاجة وإطعامها أملاً في عودة الزوج: مصدر الإذلال والأمان. تمرضُ الدجاجة/ الزوج، فيأمرها الطبيبُ البيطري بعدم إطعام الدجاجة "البيض والفراخ"، وهنا قمةُ العبثية، فتوافقه، ليأتي المشهدُ "المفتاح" حيث تكسرُ الزوجةُ البيضَ في الحوض وتفتحُ عليه صنبور المياه، رغم جوع أطفالها. الرمزُ هنا هو التخلص من "الحاجة" للرجل الذي صار دجاجة؛ لأن "البيض" للدجاجة، هو "المال" للرجل. وتبدأ رحلة الكفاح والمرمطة والاستدانة والتعرض للتحرش حتى تعمل خادمة في بيوت الأغنياء. تختلسُ علبة مربى وبضع قطع شيكولاتة حتى يتذوق أطفالُها شيئا من "الحلو" يخفف مرارة الحرمان. وبعد طردها من الفيلا تشتري قطعتي جاتوه إصرارًا على تحلية ألسن أطفالها الُمرّة. ويعودُ لها الزوجُ محترقًا، لا حيًّا ولا ميتًا، فتداوي جروحه وتحممه، وتطعمه ويبول على نفسه، وتصفعه لكي ينطق وينهض من رقاده. المتحدثُ الأوحد في الأسرة صار صامتًا، والعائلُ صار المُعالَ والعبء. فتقرر الزوجةُ الخلاصَ منه، وذبح الدجاجة وغسل يديها من دمائها؛ وكأنها تعلن للمجتمع الفاسد أنها بريئةٌ من دم الرجل الذي أذلّها حيًّا وأنهكها مُحتضرًا.
قذارةُ البيت التي أزعجت عيون المشاهدين لم تكن قذارة البطلة التي كانت نظيفة رغم الفقر، بل كانت القذارةُ رمزًا لدنس كل يدٍ خبيثة تنال من المرأة في لحظات انكسارها وعوزها. الفيلمُ يشيرُ بإصبع الاتهام صوب صدر أي مجتمع ذكوري يستعبدُ النساء وينحلُ "ريش" المرأة حتى تصير تمثالا صامتًا من الشمع لا يفرح ولا يبكي. البطلة "دميانة نصار" ليس لها اسمٌ في الفيلم، لأنها أيُّ وكلُّ امرأة منسحقة في هذا العالم. واضاءة نصف وجهها بالنور وإعتام النصف الاخر في الظلال في مشهد النهاية، دلالة الصراع المعتمل داخل كلّ أم تتحملُ المرَّ من أجل أطفالها. تحية لصنّاع الفيلم الذي سيصيرُ علامة في صناعة السينما المصرية العالمية. “الدينُ لله والوطنُ لرافعي راية الوطن.”

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الدوشة الفارغة
هانى شاكر ( 2021 / 10 / 30 - 14:43 )

الدوشة الفارغة
______

تحليل جميل ، و ليتنا نسمع و نقرأ وجهات نظر اخري

لكن الدوشة الفارغة ايضا - المثارة حول الفيلم في مصر - لها ايضا دلالة عظيمة

الا وهي اننا وصلنا الي حضيض جديد في مصرنا العظيمة

….

اخر الافلام

.. اللهم كما علمت آدم الأسماء كلها علم طلاب الثانوية من فضلك


.. كلمة الفنان أحمد أمين للحديث عن مهرجان -نبتة لمحتوى الطفل وا




.. فيلم عن نجاحات الدورة الأولى لمهرجان العلمين الجديدة


.. نجل الفنان الراحل عزت العلايلى يتعرض لوعكة صحية.. وهذا آخر م




.. فيلم تسجيلي عن نجاحات النسخة الأولى من مهرجان العلمين الجديد