الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من شابه أباه فما ظلم .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 10 / 28
الادب والفن


ملاحظة : تعرضنا الى لوم على بعض ما جاء في نص قصة ( الولد سر ابيه ) ، وبناءً عليه اجرينا تعديلاً طفيفاً .. أما تغيير العنوان فجاء لدواعي النشر .. عذراً .. ودمتم .. !

اليوم .. يوم توزيع نتائج الامتحان النهائي على تلاميذ الخامس الابتدائي ، وعلّو قلبه يخفق وأنفاسه تضيق خوفاً وهلعاً من النتيجة .. فرغم ما بذله من جهد لايزال غير متأكد من عبوره كل المواد بنجاح خاصة درس الرياضيات - دليل الذكاء - كما يقول أبوه الذي لن يفلت من عقابه اذا لم ينجح ويبيِّض وجهه أمام الاهل والأصدقاء والجيران .
تزاحم التلاميذ والتفوا حول المعلم ، وهو يقرء الاسماء ، ويسلم الكارتات للتلاميذ الواحد بعد الآخر .. تنوعت الوجوه بين فرِحٍ متهلل ، وبين مكفهر خائف حزين .. واخيراً جاء دور علّو .. صاح الاستاذ بإسمه :
— علي عبد النبي …
وقبل ان يسلمه الكارت مسح بنظره الضعيف .. العلامات ذات الخطوط الحمراء ، وعندما تأكد من عددها حدجه بنظرة خاصة من وراء نظارته السميكة المتمددة على ارنبة انفه الكبير .. ارتعش لها قلب علّو ، فهو يرى فيها نذير شؤم .. لم تكن غريبة عليه فقد تكررت مرات ومرات في حياته المدرسية التعسة ، ويعرف معناها جيداً ..
كأن الأستاذ في تلك اللحظة لم يكن يُمسك بالكارت ، وإنما بعنق علّو ويطبق عليه يكاد يخنقه .. بقي علّو متسمراً في مكانه للحظات منتظراً اصدار الحكم ، وهو مصغ في صمت وقلق ، واخيراً نطق المعلم ببرود وبلامبالاة :
— راسب بثلاثة .. !
تسرب الشحوب فجأةً الى وجه علّو ، وكاد قلبه أن يتوقف عن الخفقان .. يتقدم بخطوات ثقيلة مرتعشة ، ويستلم الكارت ذليلاً مطأطئ الرأس ثم ينزوى لوحده بعيداً عن بقية التلاميذ الذين تنوعت ردود أفعالهم .. فمنهم من كان يصيح محتجاً ، ومنهم من يتقافز فرِحاً بنجاحه ، ومنهم من يمد بوزه في كارت الآخر ليعرف نتيجته أما فضولاً او شماتةً .. أما علّو فحرص على أن لا يعرف بنتيجته أحد .. ظل يحدق في الكارت كالأبله دون ان يرى شيئا منه سوى تلك الخطوط الحمراء الثلاث اللعينة التي قررت مصيره .
ما العمل الآن .. ؟
انسلَ من الجمع بهدوء كالنسمة ، وابتعد قليلاً لا يلوي على شيء .. عقله مشتت شبه غائب .. لا يزال يبحلق بالكارت ، وعندما افاق من صدمة الرسوب أخذ يفكر لعله يصل الى طريقة آمنة تُنجيه من العقاب ، وتضمن له دخول البيت ومواجهة ابوه دون مشاكل ، فجسده الهزيل العليل لم يعد يتحمل المزيد من الضرب والركل .. !
خرج من المدرسة ، وهو حائر تتنازعه مشاعر عدة .. هل يذهب الى بيت جده ؟ ومن يضمن له ان لا يتلقى من جده نفس العقاب إن لم يكن أشد .. فالأب والجد يصران على أن يجعلوا منه شيئا ذو قيمة !
شاهد من بعيد صديقه جاسم ، وهو قابع تحت شجرة جفت فيها العروق حتى لم يبقى منها الا الجذع ، وبعض الاغصان اليابسة التي لا تحمي من مطر ، ولا تقي من شمس .. اقترب منه دون ان يشعر به فرآه يبكي والدموع تجري على خديه المنتفخين ، والكارت مرمي في أحضانه لا يرى منه شيئاً سوى تلك الخطوط الحمراء المشؤومة التي تكاثرت كأنها بثور على وجه إمرأة عجوز .. !
جلس بجانبه واجتمع الاثنان كما يجتمع المتعوس على خايب الرجى ..
طبطب على ظهر صديقه يواسيه ، وكأنه يواسي نفسه .. القى نظرة متفحصة على كارته فلم يرى فيه خانة الا وتحتها خط أحمر .. تنفس الصعداء فهو في كل الاحوال افضل رغم ان النتيجة واحدة .
عاد الى التفكير في حل يُبعد عنه شبح عقاب ابيه ، واهاناته وسخرية اخوته بعد أن بات فعلاً مسخرة .. يعبر كل مرحلة بسنتين بدلاً من واحدة كما يفعل بقية أقرانه من التلاميذ الشطار .. حتى اخضرت شواربه وسمق ، وأصبح ينافس أبوه طولاً ، وهو لا يزال يراوح في الابتدائية .
راح يقدح ذهنه ويفكر في حل لهذه المشكلة .. حتى تفتق ذهنه أخيراً عن فكرة شيطانية أخذت تتردد في رأسه .. فوجد فيها شيئاً من السلوى والعزاء .. كأنها القشة التي رُميت الى غريق ، وعزم على تنفيذها فوراً .. يعود وينظر الى الكارت ثانيةً ويتسائل : العلوم 35 .. الانگليزي 30 .. والطامة الكبرى في الحساب 18 .. ثم همس لنفسه :
— اذا وضعت خط صغير بجانب رقم 1 سيتحول الى رقم 7 وستكون الدرجة بدل 18 - 78 .. فكرة مدهشة .. استرجع بعض من انفاسه الضائعة .. لكن كيف ؟
لماذا تتردد يا غبي .. نفذ !
لم يكن من سبيل أمامه اذن إلا أن يمضي في تنفيذ الفكرة ، وليكن ما يكون .. لكز صديقه جاسم ، وسأله اذا كان عنده قلم حبر أزرق .. أخرج جاسم محفظة جديدة حلوة مزركشة بألوان زاهية ، مليئة بانواع الاقلام .. الرصاص والحبر والممحاة وكل شئ والقاها في حضن صديقه ، وقال بدون اكتراث :
— خذ ما تريد واتركني .. !
جاسم هذا .. الابن المدلل جدا عند أهله .. لقد مات لهم ثلاثة اولاد ، ولم يعش لأمه وأبيه إلا هو .. فأصبح الكنز الثمين الذي خرجوا به من هذه الدنيا ، فباتوا يخافون عليه حتى من النسيم العليل .. يرسب براحته ، ولا أحد يقترب منه او حتى يعاتبه ، ولا يريدونه يصير ذو شأن مثل علّو .. ليكون ما يكون والسلام … !
باشر علّو بتنفيذ الفكرة ، فمسح الخط الاحمر عن خانة الرياضيات اولاً ، وكان لحسن الحظ خفيفاً ، وأضاف خط صغير بجانب رقم 1 فتحول بقدرة قادر الى رقم 7 وتحولت الخانة من خانة رسوب الى خانة نجاح .. ثم بصق على كلمة راسب ، ومرر اصبعه الوسخ عليها فتشوهت ، ولم يعد لها اي معنى .. أبعد الكارت ، وأخذ ينظر اليه من بعيد باعجاب كما يفعل الرسام عندما ينتهي من لوحته ، ويدقق فيها من بعيد ليرى ان كانت بحاجة الى لمسة إضافية .. شعر بفرحة طفولية عارمة لكنه كتمها في داخله .. ثم هنأ نفسه على ذكائه ، وعلى عبقرية الفكرة ، والانجاز المتقن لها وتمتم :
— هه .. ما رأيك ، يا علّو ؟!
ورويداً تبدد الجزع من نفسه ، وبدء يحس بألطمأنينة ، وبدت علامات الارتياح والسرور ترتسم على وجهه الاصفر الشاحب .. من الخوف ، ومن سوء التغذية ، فأبوه شرطي ، وبالكاد يكفيهم الراتب ضروريات البقاء .. يعيشون كالسردين في بيت صغير غير صالح للاستخدام الآدمي ، لذلك وضع ابوه المسكين كل آماله على علّو ابنه البكر عسى ولعل يصبح شيئا ذو شان في المستقبل ، وكفى شرطة في هذه الاسرة البوليسية ، فالاب شرطي والجد شرطي متقاعد ، والعمام اغلبهم شرطة حتى سمع علّو مرة جده يقول ساخراً :
— ماشاء الله لو نفتح مركز شرطة لوحدنا لكفينا ونزيد .. !
ذهب علّو الى البيت بعد أن أكسب ملامحه كل ما يملكه من امارات الفرح والسرور تتناسب ، وفرحته بالنجاح في مادة الرياضيات - الأهم عند الأب - .. !
استقبله أبوه ، وعندما القى نظرة على الكارت جذبته وأفرحته درجة الرياضيات العالية ، ولم يعر أي اهتمام للبقية ، فذابت حدته ، وتحسن مزاجه ، واكتفى بمعاتبته .. مجرد عتاب على الدرسين الأخريين .. وانتهى الامر .. ما اسهل الكذب والخداع ، يا علّو !
لكن الأمر لم ينتهي بعد .. !
وتوالت ايام العطلة الصيفية ، وعلّو مشغول باللهو واللعب ، ولم يخطر على باله قط انه من المفروض أن يتهيأ لامتحان الدور الثاني الذي بات على الابواب .. حتى جاء ذلك اليوم الأسود في حياته ، والذي لا يزال يتذكره حتى بعد أن أصبح شرطياً ، واضاف الى رصيد الأسرة دماءً شابة جديدة أخرى .. ! عندما جاء أبوه ، وهو يزوم ويرعد ويزبد بعد ان عرف الحقيقة كاملةً .. كيف عرفها … ؟ الله اعلم .. ! أخذ ينتظر علّو ، وهو يتقلب على جمر النار .. يروح ويغدو ، ويضرب كفاً بكف مكلماً نفسه كالممسوس ، ويرمي الجميع بنظرات حادة ويردد :
— آخ .. ( يعض اصبعه ) .. متى يأتي هذا الغبي ؟ راح أطق وأموت !
أمر الأب الأخوة بتهيئة الفلقة ، والحبل والملح ليضعه على الجروح لمزيد من العذاب ، فالعقاب اصبح عقوبات .. الرسوب اولاً والكذب والغش ثانياً وثالثاً !
عندما يدخل علّو الى البيت .. يتفاجأ ، ويحدق في دهشة بالمشهد المرعب الماثل أمامه .. فبدا كفأر وقع في مصيدة .. همَّ أن ينطق .. بحث عن صوته لكنه لم يعثر على شيء كأنه قد فقد النطق ، واكتفى بأن ابتلع ريقه الجاف ، ووقف صامتاً مستسلماً .. يقلّب نظره بين الوجوه الجامدة التي امامه متسولاً النجدة والرحمة ، والكل يبتعد عنه بمسافة كأنه مخلوق أجرب !
كان كل شيء جاهزاً ومعداً بانتظاره .. بدءً من الأب الذي أربدت ملامحه ، وكأن عقله قد طاش ، والفلقة منصوبة ، والملح منقع بالماء وموضوع في طاسة ، والاخوة واقفون احدهم يمسك بالحبل ، وآخر يمسك بطاسة الملح ، والبقية يتفرجون ، والأم خائفة قلقة لم تفلح جهودها في تهدئة الاب الغاضب ! .. منظر مضحك مبكي !
عاجله الاب بدايةً بصفعة على قفاه ثم هتف بعصبية محاولاً التنفيس عما في داخله من غضب :
— تضحك علي ولك .. غبي .. هم تريد تالي اتصير شرطي مثلي ، وكل ساعة تأخذ تحية للي يسوى واللي ما يسوى .. !
ينفذ صبر الام ولم تتمالك نفسها من الرد :
— عوف الولد دخيل الله .. ابنك وطالع عليك .. !
أرادت ان تقول .. الولد سر ابيه .. لكن التعبير خانها فنطقتها باسلوبها الخاص ، ولكن بنفس المعنى !
يعرف علّو أن أبيه لا يخاف احداً في هذا الكون كما يخاف من أمه .. مثل الاسد عندما اخبرهم معلم العلوم مرة انه لا يخاف احداً سوى لبوته .. لكن حدة الأم وجبروتها لم تستطع أن تُلغي أو تُوقف تنفيذ العقاب المؤلم الذي لايزال علّو يتحسس مكانه عندما يتذكره ، ولم ينجح رغم مرور سنين طويلة .. في اسقاطه من ذاكرته حتى اللحظة .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم