الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عملاق التجديد في التشكيل العربي : محمد مُهر الدين 2-4

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2021 / 10 / 31
الادب والفن


ملاحظة :
كنت أتصور أن تنظيم المقال في حلقتين يمكن أن يكفي لاستيعاب مادته ؛ و لكن المقال طال ، مما اقتضى تقسيمه إلى أربعة أقسام ؛ فعذراً للمتلقي على هذا التبديل .
فيما يلي من هذا الوصف سأعرض فقط للوحات ثلاث من مئات الأعمال و التخطيطات للفنان الكبير الراحل محمد مهر الدين الذي كان غزير الإنتاج الفني على نحوٍ مثير للإعجاب ، و التي تعكس كل واحدة منها نوعاً مميزاً من إبداعاته الفنية الثرّة المتواصلة بالتغيّر التطوري المتصاعد حتى آخر لوحة له .
اللوحة الأولى : الجدار المشروخ
صورة هذه اللوحة متاحة على الموقع الشبكي لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين تحت عنوان : "من أعمال الفنان الراحل محمد مُهر الدين" ؛ و تسمية "الجدار المشروخ" تعود لي لجهلي بتسمية مبدعها لها - الذي لم يكن يحفل كثيراً بعنونة لوحاته لكونها تتكفل بالإفصاح عن نفسها بنفسها .
صورة هذه اللوحة متوفرة – ضمن غيرها من أعماله - على الرابط :
http://www.iraqipas.com/2016/06/07
أول ما يجذب عين المشاهد في هذه اللوحة للجدار الفاقع الملطخ بالسواد و الصبغات الدموية هو حركة الشرخ الطولي وسطه بخطها الدموي المتيبس ، العريض أكثر من غيره و المتعرج (zig-zag) الممتد من أعلى الجدار حتى أسفله قريباً من أساسه ، مع تمويه نهايته السفلى بما يوحي بكون حركته التهديمية هذه تتجه نحو مواصلة الشرخ ليستغرق كل طول الجدار . هذا الشرخ يمثل الشكل المركزي للوحة ، مقسماً إياها إلى قسمين متوازيين : يمين و يسار الشرخ بهندسة أسلوبية دقيقة . الحركة الأفعوانية لهذا الشرخ المحوري في الجدار تحيل إلى شكل و فعل الصاعقة المدمرة ، مما يزيد في تبريزه . أما قيمة تركيبة لونه الأسود المحمر فتوحي بالسيل المتواصل من الدماء كما لو كانت قَدَراً منزلاً على الناس من فوق .
و يتقاطع - بتنويع لنفس قيم اللون الأسود الداكن المحمر – مع هذا الشرخ الطولي خطان أفقيان : الخط العلوي الأطول المتعثكل بالرموز المموهة (من بينها المنجل و المطرقة و السهم الراجع للوراء) الممتد أبعد إلى اليمين ، و الخط الأسفل الأقصر الصافي الأبعد إلى اليسار ، و ذلك للترميز إلى وجود محاولات فاشلة لراب الصدع في الجدار و التي تتحول كل واحدة منهما إلى شرخ عرضي بحد ذاته ليمعن في انهاك الجدار فوق خرابه خراباً . كما توجد على الأقل ثلاثة شروخ أفقية آخري على يسار الجدار ، مع العديد من حفر التآكل و التعرية على يمينة و يساره ، بضمنها أثر طلق ناري على أسفل يسار الجدار .
إذن ، هنا عين المشاهد تتحرك طولاً و عرضاً في أديم جدار ملطخ متعدد الشروخ و الأخاديد يستغرق كل سطح اللوحة . ولكن أي جدار منقسم هذا بالطول و العرض و الأديم ؟ هنا تحيلنا عبقرية الفنان لاستثمار تقنية الحروفية (letterism) لفك شفراته التجريدية . فعلى يمين الشرخ يقرأ الناظر بنفس اللون الأسود المحمر كلمة "فريق" ، و تحتها كلمتي "وحدة" و "حرية" المشوهتي الإخراج الفني عمداً للدلالة على الزيف . و للتركيز على هذا الفريق كموضوعة للقسم الأيمن من اللوحة ، يرسم الفنان سهماً يشير نصله إلى حرف "الفاء" لكلمة "فريق" المرسومة تحته . إذن هذا الجدار يمثل فريقين : الفريق المنادي بالوحدة على اليمين و الفريق المناوئ لها على اليسار ضمن صراع القومجية العرب و مزايداتهم فيم بينهم . هكذا يتم فك شفرات التجريد . و لكن هذا التجريد يستبطن الواقع المعاش في العالم العربي منذ عام 1915 و إلى الآن و حتى المستقبل المنظور . المطلوب من طرف القوى الاستعمارية العالمية – بريطانيا و فرنسا قبل أن تلتحق بهما أمريكا و الكيان الفاشي الصهيوني بعد عام 1948– إدامة تمزيق الوطن العربي إلى كانتوناته المصطنعة المتنافرة و المتعادية لأتفه الأسباب و المتنازعة أبداً على الحدود لتستديم هيمنة الغرب الاقتصاسياسية على قلب العالم هذا بالضد من إرادة العرب المتمثلة بجدار اللوحة . غير أن الإشارة الألصق بالتاريخ إنما هي للعنتريات الوحدوية الفوقية الفاشلة للفترة 1953- 1979 بين العراق و سوريا و مصر . و لكن ، كيف هو حال الفريق القومجي المنادي بالوحدة هذا ؟ نلاحظ أولاً أن "فاء" كلمة "فريق" مموهة فنياً لتقرأ أيضاً : "غريق" . نعم ، لقد أغرق القومجية الشعب العربي و أنفسهم بالدماء بحجة الوحدة ليكرس هذا الفريق نفسه المنادي بالوحدة التجزئة الاستعمارية القائمة بدلاً من تحقيقها مثلما يصرخ منافقاً ليل نهار . ثم هناك كلمة "الوحدة" التي يرينا التمعُّن فيها وجود الحرف "نون" المخفي بين اللام و الحاء لتقرأ "النوحدة" : التجزئة بالأنجلو-عربية . الفريق القومجي المنادي بالوحدة يستهدف فعلاً وممارسة : تكريس اللاوحدة العربية و ذلك بأمر أسياده الأمريكان وحلفائهم . ثم يأتي اللعب الفني بحذف حرف الدال من كلمة "النوحدة" لتصبح : "النوحـ ة" - نواح الأمهات و الزوجات و الأطفال على الدماء المسالة تحت شعارات القومجية المتاجرين بالوحدة لتثبيت سلطاتهم التجزيئية بالقتل و التشريد . أما شعار "حرية" فقد تم اللعب الفني الأريب به ليصبح ما يشبه كلمة "حدرة" للإشارة إلى الانحدار الممارساتي التصفوي للقومجية من البعثيين و من لف لفهم في العراق وسوريا ومصر ؛ أو كلمة "عبرة" لاستكمال صورة النواح و العبرة ؛ و تلك واحدة من الأشكال المتعددة المضامين و الإيحاءات التي تزخر بها اللوحة . و لكن ماذا عن شعار "الاشتراكية" المنافق للقومجية العملاء للاستعمار إياهم ؟ لا يغفل الفنان مُهر الدين كشف الزيف عن شعارهم هذا و بطريقة إيحائية أخاذة : في أعلى الصورة ، على الجانب الأيسر للفريق المتاجر زيفا بشعارات الوحدة و الحرية – إلى جانب الشرخ – تقف معلقة فوقياً هذه الحروف الثلاثة : "الا" ... لتوضح خواء التوجه الاشتراكي للقومجية العرب . هكذا يوحي العبقري مفردات الواقع الرهيبة بالرموز و التجريد رغم أنف سلطة فاشية البعث المهيمنة على كل صغيرة و كبيرة في العراق و سوريا و مصر . أنه هو نفسه ذلك الفنان الذي نشر ضمن بيان جماعة "الرؤية الجديد" لوحته "التعذيب ثم القتل" – إشارة إلى إبادة المناضلين الشيوعيين و الوطنيين في أقبية قصر النهاية - وذلك تحت سمع و بصر بطليهما الجلوازين الدمويين : ناظم كزار و "عمه" صدام .
ما وصفته لا يشكل لحد الآن عشر معشار الأشكال و الرموز المبثوثة و المكتنزة في هذه اللوحة العبقرية .
في أقصى يمين اللوحة ، على يمين كلمة "فريق" ، يبرز شكل رهيب يمثل حفرة في الجدار تتبدى منها شفتان دمويتان ، مع تطريز الشفة السفلى بكلمة "نون" الواضحة المعاني . أما الشرخ الأفعواني ، فتبرز عند أقصى تعرجاته يساراً ، على الجانب الأيمن ، عين مبيضة من كمد الحزن على ضياع كل فرصة للوحدة العربية رغم فداحة التضحيات على محرابها . هذه العين ترنو شاخصة نحو الجانب الأيسر الذي يمثل حكم البعث في العراق الذي لم يكتفي بتدمير الوحدة العربية ، بل و دمر كل أمل بالاستقلال الوطني الناجز بعيداً عن إملاءات الامبريالية الأمريكية و حلفائها في المنطقة . هذه العين المبيضة تعود لوجه مموه بالغ الجمال بشفاه مزمومه و ظل حنك طري . كيف يوحي الفنان بكون الجانب الأيسر من شرخ اللوحة يمثل حكم البعث الصدامي في العراق ؟ نتمعن في الشروخ الأفقية الثلاثة في هذا الجانب لنكتشف فيها إشارات تحيل إلى الانقلابات الدموية لبعث العراق بأمر و بالإسناد المباشر للإمبريالية في الأعوام 1963 و 1968 و 1979 (انقلاب صدام بأمر أمريكا و شركائها في المنطقة على البكر و أحرار قيادته القومية و القطرية لإفشال اتفاق الوحدة الموقع مع سوريا) . ففي الشرخ الأفقي الأيمن الأعلى نجد الرقم (3) مموهاً مرتين ؛ و نجد وسط الشرخ الافقي الثاني تحته تمويها أريباً لكلمة "مه" (تتدلى منها المرساة للدلالة على الالتصاق بكرسي الحكم) - إشارة لرتبة "المهيب الركن" الذي أصطنعها منحها تجاوزاً لنفسه البكر خريج المتوسطة ؛ و نجد لعباً فنياً على الحرف (ص) واضحاً فوق الشرخ الافقي الأيسر الثالث ـ و تحته آثار مقبرة يعلو عليها دخان الانفجار ، إشارة لتحويل صدام أرض العراق كلها إلى مقابر جراء حروبه العبثية المدمرة .
نأتي الآن إلى أجمل شكل في اللوحة كلها : الشفتان للوجه المموه الكائن بين الشرخ الافقي الثاني و الثالث على يسار الشرخ الأفعواني العمودي . هاتان الشفتان الفاتنتان تزريان بشفاه الموناليزا و غيرها ، و تعكسان قدرة الفنان الاستثنائية على خلق الأشكال الفائقة الجمال . الأغراء الطاغي لهاتين الشفتين يؤشر لإغراء السلطة .
وفوق كل هذا وذاك ـ فإن اللوحة تمتلئ بالوجوه المموهة ، أبرزها الرأس الأثري المرسوم على شكل دمغة الختم أسفل وسط اللوحة - على يسار نهاية الشرخ الأفعواني - للإشارة إلى تدمير تاريخ العراق و الانحدار بسمعته و بحضارته المجيدة إلى الحضيض .
أعود الآن إلى التوظيف الفني للديالكتيك في اللوحة . لدينا هنا الجدار الذي يمثل وحدة الصراع السياسي بين جناحي حزب البعث المتسلطين على رقاب الناس في العراق و سوريا . الشرخ الطولي و الشروخ الأفقية في هذا الجدار و الأشكال المشوهة المبثوثة في قسميهما تؤشر إلى إفلاس هذين النظامين اللذين لم يخلفا غير الهزائم و الخراب جراء الحروب و المقابر و سيول الدماء بالتلاعب على عواطف و تطلعات الشعب العربي الحقيقية في الوحدة و الحرية و الاشتراكية و انكشاف زيفهما و عمالتهما للأجنبي . و في اللوحة تضاد صارخ بين القبح و الجمال و بين الامل المنشود و الفشل المتواتر و بين البناء و الهدم و بين الزيف و الواقع . و ليس في أديم هذه اللوحة الفنية أي أفق ينبئ بالخلاص للشعب العربي في العراق و سوريا و مصر ، بل و في العالم العربي أجمع من الحروب و التصفيات السياسية بفضل حكامة الجلادين العملاء المتسلطين اللازقين على كراسيهم ، ففي السلطة تكمن أجمل الإغراءات للحكام السفلة الجلادين . و لقد أثبتت الأحداث التاريخية التالية صحة هذا التشخيص الرائي للفنان للحالة المزرية للأنظمة العربية العميلة ككل . و لا يفوتني هنا الختام بالقول بأن هذه اللوحة هي واحدة من أبلغ اللوحات الفنية المكتنزة المعاني التي أخرجها عباقرة الفن التشكيلي عبر العصور .
يتبع ، لطفاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - توضيح للقراء الأعزاء
حسين علوان حسين ( 2021 / 11 / 6 - 11:12 )
بعد نشر هذه الحلقة ، اتصلت بالناقد القدير والفنان التشكيلي الأستاذ صلاح عباس - الذي يًعد الخبير التشكيلي الأوثق في العراق بفضل التصاقة الميداني عن كثب بانجازات الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار طوال أربعين عاماً - وطلبت رأيه في مقالتي هذه . وبعد اطلاعه عليها ، فقد نعى علي -وهو محق بهذا-عدم تثبتي من عائدية اللوحة -شرخ في الجدار- الموصوفة ، مؤكدا لي أنها تعود للفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد وليست للفنان التشكيلي الراحل محمد مهر الدين . وأبلغني بأنه سيتصل بالمسؤولين عن موقع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين للفت نظرهم بضرورة تجاوز الالتباس الحاصل ورفع صورة اللوحة هذه من مجموعة الصور المنشورة لديهم على الموقع المدرج في مقالي لأعمال الفنان محمد مهر الدين . اليوم اتصل بي الفنان الاستاذ صلاح عباس وأعلمني بأنه قد أجرى اللازم ، وقد تم حذف الصورة إياها - وهو ما تأكدت من صحته قبل دقائق .
وإنني إذ أتمسك بدلالات وصفي التحليلي لصورة اللوحة -عدا كل مايتعلق منها بالفنان محمد مهر الدين شخصياً - أشكر الفنان والخبير الفني صلاح عباس على هذا التصحيح واعتذر لروح الفنان محمد مهر الدين و للقراء كافة .

اخر الافلام

.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا


.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا




.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو


.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا




.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر