الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تجذير الإشكالية العدمية في رواية / سيرة العدم/ للأديب المصري محمد أمان الدين بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي
عبير خالد يحيي
2021 / 11 / 1الادب والفن
يفتتح الكاتب روبرت إيغلستون كتابه " الرواية المعاصرة " بتعريف مثير وبالغ الدلالة, هو : "قول كل شيء" في إشارة واضحة منه لقدرة الفن الروائي على تناول كلّ الموضوعات التي يمكن أن ترد في بالنا, سواء أكانت واقعية أم ميتافيزيقية, ما يعزّز القناعة السائدة بأن الرواية, وخاصة المعاصرة منها ما هي إلّا وسيلة ثورية لمقاربة كلّ المعضلات الإشكالية في عالمنا على الصعيدين: الفردي والاجتماعي .
والرواية الفلسفية هي إحدى أنواع الفن الروائي, التي تستقي مواضيعها الفكرية من الفلسفة, وتبني صراعاتها الدرامية على الإشكاليات والجدليات الفلسفية القيَمية التي تعصف بحياة بعض الأفراد, وتنعكس جليًا على سلوكياتهم في مجتمعهم, فتنشأ القصص غير المألوفة, وهي قصص مثيرة, فيها رؤية مغايرة للقيم المجتمعية والأمور والقضايا الحياتية من وجهة نظر شخصيات معشّقة بالفلسفة, مسلوبة بربوبية العقل, بعيدة عن شفافية الروح, وصدق العاطفة, وصرامة الضمير, ويمكن أن نبالغ ونقول: منكوبة بالشك والأفكار والفرضيات والنظريات.
وقد ارتأى كاتبنا ( محمد أمان الدين) أن يبدأ مسيرة تجربته الإبداعية الروائية بهذا النوع من الروي, متأثرًا, كغيره من الأدباء, بالمواضيع طفت على ساحات الفكر في القرن العشرين, واختار أصعب الإشكاليات فيه, موضوع العدمية.
و"العدمية, :Nihilismهي الإيمان بأن جميع القيم بلا أساس, وأن التواصل بين الأشخاص غير ممكن, وأن الحياة بلا معنى, وترتبط غالبًا بالتشاؤم الشديد والشكوكية المتطرفة اللذًين ينافيان الوجود, والعدَمي الحقيقي لا يؤمن بشيء, ولا يوجد لديه ولاء ولا هدف ولا رغبة إلّا الرغبة في التدمير. وهي, ( العدمية) ترتبط بفريديريك نيتشه, الذي أقرّ بأن آثارها المدمرة ستؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير كل القناعات الأخلاقية والدينية والغيبية, وتعجّل بحدوث أكبر كارثة في التاريخ الإنساني.".
واستطاع الكاتب محمد أمان الدين, بحنكة وذكاء ووعي أن يطرح تلك الفلسفة المدمرة, بكل أنواعها, كإشكالية- عبر البطل السارد, الذي تولّى مهمة سرد قصص قصيرة مكتملة البناء الفني, البؤرة الفكرية في كل قصة تشمل موضوعًا من موضوعات العدمية, ظهر فيها البطل السارد وجوديًا يائسًا يحاول جاهدًا الوقوف في وجه القوى العدمية المدمّرة, دون جدوى, ثم يحيل الكاتب تلك الإشكاليات - بعد محاولة تفكيكها على طول المتن الروائي,- إلى جدلية, إنقاذًا من الوقوع في براثن العبثية, جدلية مطروحة في نهاية العمل الروائي, على شكل رسالة لأي متلقي للمشاركة في اختيار الحل, بشكل حر, لكن تحت سلطة الفرضيات والاحتمالات والإسقاطات الوجودية.
كيف أحال الإشكالية إلى جدلية؟! هنا كمنت موهبة الكاتب, بعد أن أوهمنا على طول خط السرد أنه كاتب عدمي, بكل ما يتصف به أي كاتب متشكّك, مرتبط بالعدمية المعرفية التي تنفي إمكانية التوصّل إلى المعرفة, وبالعدمية السياسية, الداعية إلى تدمير جميع الأنظمة السياسية والاجتماعية والدينية, والعدمية الأخلاقية, التي لا تعترف بوجود الأخلاق, والخير والشر ما هما إلا قيَم هلامية تصنعها ضغوط اجتماعية وعاطفية, والعدمية الوجودية التي لا تعترف بجدوى الحياة ومعناها الجوهري.
جنّس الكاتب عمله تحت مسمى ( مقطوعات قصصية تحكي " سيرة العدم"), بلغ عددها ثمان مقطوعات, أي ثمان قصص, وهذا ينسجم مع الفلسفة الذرائعية التي تعتبر الرواية مجموعة من القصص القصيرة المكتملة في بنائها الفني, بنهايات مفتوحة, تصبّ في المجرى العام للحبكة السردية, إذا اعتبرنا أن العمل الروائي هنا سرد أحداث مُقتَطعة من سيرة البطل, بمراحل عمرية متتابعة, لكن ما بدا لي, وبشكل جلي, هو أن الكاتب لم يكن مهمومًا بسرد الأحداث كحبكة سردية بقدر ما كان مهمومًا بوصف الصراع الفكري العدمي للبطل, والفكري الجمعي للمجتمع, في إطار حبكة سردية بسيطة نسبيًّا.
برز البطل السارد في المقطوعة الأولى, المعنونة ب ( عزف منفرد), طفلًا محشوًا بالكبرياء, والتفوق العقلي والمعرفي, ثم طفلًا ومراهقًا مريضًا بالاعتزال الاختياري العدائي دفاعًا عن النفس المتمردة والمنتصرة لعنفوانها والثائرة على قيم العقاب والثواب في التربية الأسرية, والوعي المترعرع في حقول الشعور بالوحدة والإهمال, والتوق إلى التحليق بلذة الاكتشاف والمعرفة, ثم العُجب بالقدرات المعرفية الفردية وإنكار المعرفة عند الغير, والتحوّل باتجاه المعرفة المادية البحتة, وإنكار المعارف الروحية, والحكم على معارف الجد( السلف) الدينية بقصور العقل والمنطق! وهكذا, رسم الكاتب الخطوط العريضة لنشأة شخصية بطله العدمي, شاب مراهق رافض للجوهر الروحي للإنسان, والسلطة الدينية باعتبارهما مناهضين للحرية الفردية, منتصر لذاته المادية المتبجحة بقدراتها المعرفية.
في المقطوعات التالية, يثبّت الكاتب البطل ما رسخ عند البطل في فكره العدمي من نظرة تشاؤمية حيال النهايات السعيدة, والدوران السرمدي حول البدايات والنهايات, والمحاولات الحثيثة لترويض جموح العقل, والوقوع في شباك الأسئلة والمفاهيم الوجودية, عن سلطة القضاء والقدر, وجدوى الحياة في ظلّ حتمية الموت, والانقطاع عن العبادات في ظل الشك في أن الله ليس بحاجة إلى من يمارسها من أجله!
وللمعرفة سطوة تدعو العقل لاقتحامها, ثم تفرض على العدَمي سيطرة قاهرة, تجعله يغوص باتجاه ظلامية الداخل بدلًا من أن يتفكّر في اكتشاف أنوار الخارج, قاتلةً في الروح الرضى والسلام, مهيجةً في الجوارح حمّى الرغبة في اكتشاف اللذة بمغامرات (بطعم المعرفة الملموسة) كما جاء بتعبير السارد. بمفهوم عن الجنس غريب وشاذ, يعريه تمامًا عن عاطفة الحب, بل يسلخه عنه سلخًا, يقول البطل:
...ممارسة الجنس مع من تحب وتشتهي, هي البداية الواقعية لموت الشغف به, وبرودة اللهفة إليه, ببلوغ الحدّ القاتل للرغبة فيه!! فاكتشاف المجهول يصاحبه دائمًا فقدان طاقة الإغواء.
وهكذا, يدخل الشخص العدمي, تحت سطوة المعرفة الملموسة, في دوامات لا تنتهي من محاولات التجريب والاكتشاف, لاهثًا وراء حقيقة سراب, لم يجدها بعد, ولن يجدها أبدًا... فيغرق في بحر من عدم, مستسلمًا لغواية الخطيئة عن سبق إصرار, تتضخّم أناه, متأليًّا على إرادة القدر, موهومًا بحرية الإرادة, فيدخل في العلاقة الجنسية بملئ إرادته, ويقطعها بملئ إرادته, وفقًا للوائح السيطرة التجريبية التي أرادها:
كآلة شعورية تبقى منتبهة, تراقب تقلبات الشغف وحيوية الإحساس فينا, ومواسم اللهفة, لتنظم جريان الرغبات في مجرى غرائزنا المتشابكة!
لكنه, على كل الأحوال يعترف بهزائمه, ويبقى متعثرًا بالخطايا, يتعاطاها بإدمان بعد كل خيبة, فأين هو قانون السيطرة الذي سلب عقله؟!
يكمل الكاتب التطوّر الصيروري العدمي والسيًري للبطل, لنجده يتعاطى الخمر والمخدرات وكل من يذهب العقل, هذا العقل, الرب الصغير, كما يسميه, والذي يشقى به, كما يدّعي, يصبح ألعوبة تتولى الغرائز مهمة تغييبه متى استحكمت الرغبة, فأي رب هذا؟! هش الإرادة, يمكن تغييبه ؟!!!! وأي إرادة حرّة يمكنها أن تبني كائنًا مستلبًا بين عقله وغرائزه؟!!! وتميت أسمى ما وهب الله, الروح والعاطفة والضمير؟!!! كلها تساؤلات مستشفة من العمل, ومن تكرار اعترافات السارد بسقوطه في العدم, لم تملك إرادته الحرة قوة التغيير, ولا حتى قوة دفع الظلم والقهر السياسي والاجتماعي, ولا حتى التسلط الديني الذي لم يجدِ معه الحوار المنطقي, لأنه لم يكن بمستوى مناظرة فكرية, يتعادل فيها طرفان في طرح أفكارهما بطريقة ديمقراطية راقية, بل كان حوار الند للند, فأين الحكمة ؟! ولماذا نستغرب النتيجة؟! وكيف لا يسقط البطل في العدم ؟ عدم الجدوى, وعدم الحكمة, وعدم العنجهية, وعدم القتامة, وعدم الخنوع, وعدم الصمت, وعدم الخطيئة ؟ !!!!
جاءت النهاية مؤكّدة أن ما سلف لم يكن إلا براعة إيهام من الكاتب, وأن النهاية هي جوهر فكره, التي تعكس خلفيته الأخلاقية, خاتل فيها السارد بنفس الأدوات والموازين العقلية, وبما لا ينقص عنه بأي مقدار من الجحة والفرضية, بل وحتى الشك, لتعود الأمور إلى نصابها, ولتتوقف العبثية, ولتبدأ الأفكار بالاستكانة, وطلب العفو والغفران, وابتغاء العدل, والخضوع للترتيب المنطقي, بعيدًا عن العبثية, والإقرار والاعتراف بالمعرفة الغيرية, تخليًّا عن العنجهية, وبالحب, إقرارًا بوجود العاطفة الخيّرة, وبعتمة العقل حين يُقصى عن الروح والضمير, وهو, كما, يفترضُ العدَمي, الحكَمُ العدل, الربُّ الصغير, صاحب الإرادة المطلقة, والمتفرّد بالسطوة والسيطرة التامة, فصل النهاية ينتهي بسؤال, مفتوح النافذة على شرفة التلقي, ينتظر إجابة على عنوان إيميل, قد تأتي, وقد لا تأتي:
هل بإمكانك أن تضع نفسك مكاني, فتعين عتمتي على عبور الصراط إليها, وتجيبني على السؤال التالي:
" هل في مقدورك أن تغفر لامرأة أنت متيّم بها, وتعرف أنها كانت عاهرة في تاريخ لم تكن أنت فيه, مع علمك أن مصيرها ليس بالضرورة أن يكون مرهونًا بهذا التاريخ, في مقابل أن تتقبّلك هي أيضًا بمصيرك الذي لا تعرفانه, وربما ستكون فيه أحوج لهذا الغفران منها؟!"
لو كان بإمكان مرآتك أن تجود عليك بإجابة, أي إجابة, فبإمكانك أن تراسلني, وسأستعيض بعنواني الالكتروني عن عنواني الواقعي:
ومهما تنوّعت الإجابات واختلفت, جاءت أم لا, نشمّ من السؤال عبق التوبة والإنابة.
العمل مكتوب بأسلوب عميق, بعمق التناول الفلسفي, لكن بعيدًا عن الألفاظ المقعرة, والمصطلحات الطنانة, بلغة فصيحة, خالية من الأخطاء النحوية والإملائية بشكل عام, وصور جمالية بلاغية لافتة تعكس مخزون الكاتب اللغوي والثقافي, لم ينقطع حبل التشويق على امتداد العمل الذي فرشه الكاتب على بياض 380 صفحة وقد تزيد, سردًا ووصفًا وتحليلًا. والعمل مادة دسمة غنية التناول من المستوى النفسي الذرائعي بمداخله جميعها, السلوكي والاستنباطي والعقلاني, وكذلك الحال في باقي المستويات الذرائعية, البصري واللساني والأخلاقي, والمتحرك. والدلالي الرقمي.
وأترك لكم متعة التجوال في رحاب هذا العمل الروائي الشاسع, متمنية للكاتب المبدع محمد أمان الدين دوام الألق, وأن يكون عمله الإبداعي هذا باكورة إبداع متسلسل لا ينقطع ...
#دعبيرخالديحيي
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. المنتجة ندى رياض : فيلم -رفعت عيني للسما- متاح في السينما من
.. -لبلبة ربنا تاب عليها واتحجبت-???? لما لبلبة مشيت في الشارع
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص