الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأويل التأويل – رؤية نقدية

منير الكلداني

2021 / 11 / 2
الادب والفن


كاتب النص : شاعرة الياسمين وليدة عنتابي

عنوان النص : (( منثور على شرفات التأويل ))

عندما يكتب أيّ كاتب نصا مشخصا نلحظ أنّ للتكوين اللحظي الدّور الكبير في مسار ذلك النص فهو يقرر مساره بكل ما يريد الكاتب إيصاله إلى متلقيه ..
وتلك اللحظة هي التي يتقوَّم عليها الفهم الكلي أو الجزئي بمقدار ما يمتلكه القارئ من سعة لغوية وبلاغية تساعده في إزالة الغموض الذي قد يكتنف " كُلّي " النص أو بعضه خاصة إذا كان الكاتب يعتمد الرمز المكثف لأنه بهذه الحالة يريد أن يرسل رسالة بين قوسين (( غائمة )) لضرورة اضطّرته إلى ذلك فالتلميح ليس كالتصريح ...
وهنا يضعنا الكاتب أمام (( شرفات التأويل )) فهو يفهم ويعلم أنّ نصّه لا يمكن الولوج اليه الا بالتأويل وهو – أي التأويل – استقراء الجزئيات وفهمها فهما مجازيا ، فهو لم يقصد حقيقة اللفظ حتى تكون واضحة بل أغرقها – إيهاما وإخفاءا – لعلّةٍ هو يراها
فيبدأ قائلا :

(( في مكتبة حبك أودعت سفر البدعة ))

لفهم أي نص يعتمد على المجاز لا بد من الوقوف على متغيرات الجمل حتى نصل إلى فهم شيء من مراد الكاتب فمن خلال تتبع المتغيّرات نستطيع أن نقف على لطائفِ النص ومنه نُشرع في تفسيره حسب فهم الحركة ...
هناك متغير في هذه الجملة وهو " أودعت سفر البدعة في مكتبة حبك "
وهذا المتغير صالح ولا بأس به بل هو يعادل نوعا ما الجملة الأصلية ولكن الكاتب قصد الأصل لعلّتين
الأولى : الإبتعاد عن الحصر الزمني
الثاني : الإبتعاد عن عدم الحصر الدلالي
وكلتاهما مقصودتان من حيث (( التضاد )) فهو يحصر كلامه لمُخاطَب يَظهر أنّه صاحب مكتبة – رمز مكثف جدا – هذه المكتبة يعبر عنها
" مكتبة حبُّ "
والمكتبة دلالة إيحائية لِسِعتِها فهي لا تحمل كتابا واحدا بل أكثر ، مما يزيد العمق الدلالي تشعبا وانقساما – كفهم –
والإيداع هو وَضْع شَيء عند شخصٍ لصيانَتِه وحِفْظه.
وسِفر بكسر السين هو الكتاب أو الكتاب الكبير
والبدعة هي الاختراع عموما وإن كانت بحسب التناص تندرج ضمن الموروث الديني .
فالكاتب يضع كتاب بدعته – رمز – في مكتبة حب – المُحدَّث – وهنا يضعنا النص امام عدد من الأسئلة :
الأول : من هو المُخَاطب ب (( حبّك )) ؟
ألثاني : ما المقصود من (( كتاب البدعة )) ؟
وهذان السؤالان يفتحان الباب أمام السؤال المركزي
الثالث: كيف للكاتب أن يودِّع كتاب بدعته عند شخص يمتلك الكثير منها؟
وغيرها مما يندرج تحت تلك المضامين ...
فالكاتب هنا يوجه حديثه الى رمز – أقربها ثلاث كما سيأتي - وكتاب بدعته ، هي تلكم المشاعر التي يحملها وكأنها مشاعر تختلف نتيجة للرؤية التي يراها بكونها فريدة من نوعها وإيحاء يأخذك الى المنافسة ، ولا يجب أن نغفل عن شيء مهم ألا وهو إننا نسير وفق ما تعطيه الالفاظ بتركيبها ولا نستنتج شيئا خارجهما حتى نحاول الاقتراب الى التكثيف قدر الإمكان ...

((ودرجت على بساط مدّك موجة تلو موجة..))

كاف مدّك راجعة الى المُخَاطب الأول بدلالة العطف على ((أودعت)) وتوصيف ذلك المُخَاطب إلتزاما بالبحر ((مدَّك)) وتوحيد الكاتب معه بدلالة السير في الموج – الإحاطة -فهو يرى أنّه جزءٌ من المخَاطب ((الرمز)) وهو يعطينا معنى الكثرة في السؤال الثالث السابق من حيث الجزئية ف ((سفر البدعة)) يمثل الكاتب من مجموعة أسفار وكذلك الموجة تمثل الجزء من البحر وبه يحلّ السؤال السابق ، كما ويفتح الأفق للفهم العام للمدلول مع انقسام معناها – تأويلا -
((بمجدافين من حنين وعصف))

طريقة التدرج وإتمامٌ للصورة من القريب الى البعيد حيث يصف الكاتب حاله بالحنين والعصف، ودالته الشوق والفكر ، إجتماع وجداني عقلاني وإن كان يحمل معنى الوجدان الكلّي بدلالة العصف حيث يراد منها قوة ذلك الحنين ولكن مع التناص – العصف الذهني – يؤخذ الأقرب وهو الفكر وقد قلنا أنّ الرمز الموجود ينحصر شكلا في "ثلاث" وقد يظهر مما تقدم وما سيأتي أن احد اشكاله هو " الكتاب " ودليله القريب وصف المجدافين وهما يحملان صفة الصفحتين منظورا إلا أنّ هناك ما يمنع الشكل هذا بدلالة المباشرة اللفظية فذكر " مكتبة حبك " مع تكثيفها لا يتيسر بعدها أن يقصد الكاتب " الكتاب " لأنّه سيُخرِج النص من التكثيف وهو حاصل بلا شك من خلال التتبع للتركيب إلى النص المباشر وهو ما يُخالف عتبات النص وشرفات تأويلها فيبقى الرمز موجودا بما تبقّى مِن الخيارين اللّذين سيأتيان ...

((تناهيت على صهوة الروع))
تناهيت من نهاية الشيء
والروع هو الخوف ببعض المداليل ولعلّه أراد شدة الخوف .
إنتقال في الحدث " تفريعا " إلى حدث اخر مستقل بوضع التركيب إذ لم يَذكُر أي مُخاطَب بل انفرد مع نفسه فهو يصف أنّ مسيرته انتهت على الخوف وبه أتمّ خاتمته وأول شيء يتبادر الى الذهن أنّ ذلك الهلع الذي أصابه ما سببه؟ ولم حدث كل هذا؟
ولعلّ أقرب جواب لهذا هو الحياة فهو يصف حياته بالخوف ولعلّه هارب من شيء ما بدلالة " صهوة " التي تدل على السير السريع

(( أخصف ستائر الخشوع ))
ألخصف لفظ له معان متعددة وجامعها ضم الشيء لشيء
والخشوع هو الخضوع بأوضح اطلاقاته ..

يبيّن الكاتب نتيجة الخوف الشديد وهي الخضوع فكأنه أعلن استسلامه محاولا الإختفاء بعد هروبه بدلالة " ستائر "
(( وأدلف الى محرابك الأمين ...))
أدلف بمعنى المشي البطيء
هذه الجملة من التركيب تربط ما تقدم إلى البداية فالكاف هنا دالة على المُخاطَب الأول وبه نفهم أن خوفه واستسلامه لم يوقفه عن المضي الى الشخص المخاطب – الرمز – فهو يصفه بالأمين والمقدس بدلالة " محراب " ولا نزال نواجه نفس الدوائر التركيبية في محاولة تكثيف الرمز أكثر وأكثر فكلّما انتقلنا تركيبا زادت تلك الأسئلة حتى تصل إلى حدٍّ لا تجدُ لها من سبيلٍ إلى تفسير، وهذه القصدية من الكاتب في هذا تجعل من القارئ يدور في مداراته أكثر ولكأنّما يقول له الكاتب لن تصل لمعناي مهما حاولت لأنّه معنى خارج الشكل نفسه وأنّى للشكل أن يوصل إلى معنى مغرق هكذا ...
أسئلة كثيرة ... الخوف الشديد والهروب والإستسلام ومحاولة الوصول للأمان دالات تحمل في طياتها الكثير من المسارات المحتملة وتختصر الرحلة الإنسانية بكل تفاصيلها

(( لم أرقأ لواعجي بمنديل عطفك ))
أرقأ بمعنى السكون
ولواعج بمعنى الحب الشديد
نوع آخر من التفصيل يلوح منه العتب الضمني لأنّ الكاتب هنا يصف حبّه بأبهى صوره ورغم ذلك التدفق إلّا أن المُخاطَب لم يفعل شيئا بل ترك ذلك كحاله وفي دلالة الضد يوحي الكاتب أنّه كان عليه أن يمُدَّ منديله – تقابل الشيء بالشيء – وكأنّ الأمان الموصول لم يكن كذلك بل زاد من الألم الحاصل .
(( ولم أتل على بتلات سرك سورة الذبول .))
توكيد لما سبق مع زيادة عدم اليأس رغم كلّ ذلك ، ونلاحظ مقدار التناص الذي استخدمه الكاتب دالة العلم الحاصل له من التراث الديني ولعلّ العلّة في ذلك إضفاء الطابع الديني لغرض تحويل مسار المعنى إلى غير شكله ولكأنّما يقول لقارئ النص إنّ تلك المشاعر المبثوثة أرقى من أن يصل إليها مَن كان تفكيره منحصرا ببعض زوايا الأشياء وهي إشارة من نوع آخر للقداسة التي يحملها وهو شيء يرى الكاتب أنّه لا بدّ منه

(( يستدرجني ليلك لمسامرة حواسي بما تفرد من الصمت .))
قلنا فيما سبق أنّ أحد تلك الرموز المحتملة للكاتب هو " الكتاب " وقلنا أيضا انه سيأتي لاحقا ما يظهره وكان مقصدنا هذا المقطع حيث الإيحاءات الدلالية تشير إليه وقد فصلنا القول هناك بان هذا يخل بالمعنى العام لأنّ ما كان يدور دائرة الرمز لا يمكن الكشف عنه بدلالات إلزامية وإلّا اختل النسق المعنوي ولم تكن للمقاطع أيّ قيمة فنية بل تتحول الى مجرد تكرار غير مبرر لا تزيد القارئ أي فهم إضافي ...
لذا كان من الضروري فهم التركيب بلغة دائرته الرمزية وابعاد معنى الرمز " الكتاب " او الحمل عليه مطلقا ..
وكذلك يبعدنا عن الشكل الثاني للرمز وهو " القلم " ففيه بعض الإشارات إليه من خلال التتبع التركيبي وما يحمله من طرق له
ومع أن هذا المقطع يوحي بالوحدة التامة فينفي الشريك " أيا كان " ولكنّه يعطي الحل بكون هذا الرمز هو شخص مُخاطَب بعيد وهو ما يدفعنا إليه الإلتزام التام بالدوائر المومى إليها فهو يُخاطِب " شريكا غير حاضر " ويبثُّ إليه كلّ تلك الآلام التي واجهته وهو بعيد عنه وكأنها ذكرى يحاول الكاتب جمعها وبيانها بطريقة الشعور الوجداني المعمق .

(( وها نحن معا في الهزيع الأخير من الزهور ))
إلتقاء بعد كل هذا الفراق وبعد كل هذا الألم وما شابَه من مخاطر ولكنّه أشبه بلقاء متأخر جدا رغم ما يحمله من عبق فهو قد فات أوانه ولم يبق منه إلّا أثره العطر وما يكون من جمال شعوري حين تذكره فهي ذكرى موغلة في القدم ذكرى طوّقها التقديس وحفاوة التبجيل وكأنها روح مهاجرة الى مكان اخر

(( نتوسد ما ند عن الحلم وما كنا بمنقلبين ))
تلك العلّة الغائية من الرمز فها هي الأحلام تظهر بشكلها الآخر وتستمر رحلة العمر من خلال ذكرى محلقة الى حيث
(( معا نخرج عن جسدينا نمتطي سحب الحواس إلى حيث لا سبيل .
تدور بنا القباب في دوامة الشغف
ويجاذبنا المستحيل أطراف اللوعة
لم نكن في ذاكرة الرمل سراب دموع
وما كنا في سماء الوجد
نيزكين
تحاورني يداك بما تيسر من البلور وما تعسر من وصول
كأننا على هودج القصيد نخلتان
نطرح عذوبة رطبنا على أديم اللهفة .
كلما تجاوز فينا المدى شمعة أشعلنا ليلنا بالجنون ))
ختامها جنون بدون أي شيء تلمسه على أرض الواقع ... ختام لما مضى وما مضى بصوره المؤلمة فلقد أصبح الكاتب وشريكه لوحة مؤطرة في أفق السماء تمرّ عليهم سحب البعد وغياهب الإنتظار متوسمين شموع الشوق من ثقب الحاضر ناظرين الى الغد بلهفة الامل إن كانا في سماء الوجد " نيزكين "

ومضة عامة
نص ثري بالألفاظ العربية المعجمية التي تصلح للمراجعة من كل القراء للإستفادة من تعدّد الدلالات الواردة فقد اختار الكاتب الألفاظ لتعطي دلالات متكثرة ...
كما أن النص كان مليئا بالاستعارات البلاغية التي تستوعب أغلب فنونه إّلّم تكن كلّها بما يمتلكه من سعة معرفية بها وقد آثرنا تركها لطولها وجعلها مرجعا يرجع إليه طلاب هذا العلم للتزود من النص في التطبيقات البلاغية فهو مميز جدا

تذييل

في النص إشعاع (( نفسي )) واضح جدا وهو تلك الحالة التي يواجهها الكاتب أثناء الإغتراب مع الذكرى فإنّه بعد استبعاد الدلالة " الكتاب والقلم " يتضح معاناة الكاتب جليّة في ألمه خلال حياته وما واجهه من مصاعب كثيرة منذ فهمه للحياة فهو كابد الكثير خلال مسيرته وبالرغم من وجود المحيطين المتكثرين إلّا إنّه يجد نفسه وحيدا في خِضم ما يعانيه فيقرر أن يهرب إلى ذكرياته تلك الذكريات التي تساعده في المضي والتعايش ولولاها لما كان هناك أمل في نفس الطريق ...

ختام

نص محكم لغة وبناءا وشكلا ومضمونا رمزي تعبيري دلالة علو كعب الكاتب في استخدام اللغة لبلورة المضمون وفق ما يريد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟