الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوراث القطارات المصرية عمدا مع سبق الإصرار والترصد

إكرام يوسف

2006 / 8 / 25
حقوق الانسان


منذ أن بدأت كوارث قطارات السكك الحديدية المصرية، وأنا أتوقع بين يوم وآخر تعالي الأصوات المطالبة بخصخصة هذا المرفق العريق. فمصر التي كانت أول من عرف في الشرق هذه الوسيلة من وسائل المواصلات منذ عام 1854؛ وثاني دولة في العالم تدخلها القطارات البخارية بعد بريطانيا؛ وامتدت منها بعد أكثر من نصف قرن للسودان، ثم إلى فلسطين في الربع الأول من القرن العشرين ـ يقولون أنها ـ لم تعد قادرة على صيانة هذا الوسيلة التي أصبحت وسيلة الانتقال الرئيسية للفقراء؛ بعدما استعاض عنها الأغنياء إما بطائراتهم الخاصة أو سياراتهم الفارهة. وفي الحقيقة؛ فإن تكرار السيناريو المعاد منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت؛ في كل مرة يتم فيها خصخصة قطاع من قطاعات الدولة التي تكون ناجحة لزمن طويل ثم تأخذ في التدهور سريع الخطى إلى أن ترتفع الدعاوى بضرورة خصخصتها؛ يضعف كثيرا من اعتقادنا إنها مجرد صدفة!.
والمعروف أن القطارات في مصر بالذات كانت مثلا للانضباط الصارم لعهود طويلة كانت تحت سيطرة الدولة حتى أن آبائنا كانوا يطلقون على الشخص صارم الاستقامة أنه "زي القطر"؛ أو أن التزامه بعهده أو مواعيده "زي قطر السكة الحديد لا يؤخر ثانية ولا يقدم ثانية عن ميعاده". وتطلعنا الأفلام السينمائية القديمة على روعة ونظافة هذه القطارات بداية من عربات النوم الفاخرة المخصصة لعلية القوم؛ وحتى عربات الدرجة الثالثة ذات المقاعد الخشبية وتذكرة السفر زهيدة الثمن التي يتحملها فقراء البلاد. غير أنه يبدو أن دوام الحال من المحال. فبعدما كانت مصر تمتلك مصانع للنسيج ومصنعا لصناعة السيارات ومصانع تنتج الثلاجات وأفران الطهي والسخانات؛ ضمن قاعدة صناعية ضخمة شملت مصانع للحديد والصلب وللألومنيوم؛ كان لها سمعتها الممتازة والقوية قبل أكثر من نصف قرن؛ وقبلها مصانع الغزل والنسيج التي كان يضرب بها المثل في الجودة والذوق. فوجئنا منذ منتصف السبعينيات بهذه المصانع وقد دب فيها الفساد وأصابها التدهور؛ بدلا من أن تسير في طريق التطور الذي كان ينبغي معه أن تزداد جودتها وقدرتها التنافسية؛ وإذا بمصانع الثلاجات الشهيرة يصيبها التدهور ـ رغم أنني أعرف سيدات من جيل أمي مازالت تعمل لديهن الثلاجة منذ أربعين عاما بحالتها وبنفس قوتها ـ وبدأ التدهور باختلال مواعيد تسليم هذه الثلاجات ؛ وأفران الطهي؛ وصار على المتزوجين حديثا في أواخر السبعينيات ـ مثلي ـ أن يحجزوا هذه الأغراض الضرورية لمنزل الزوجية قبل استلامها بشهور؛ بل وصار من اللازم في بعض الأحيان أن يستخدم العريس "الواسطة" حتى يضمن أن تصله الثلاجة أو فرن الطهي أو السخان قبل موعد زفافه. وشيئا فشيئا اختفت هذه المنتجات لتظهر في السوق منتجات أقل جودة ومتانة لكنها أكثر "أناقة"، استوردها من الخارج تجار عصر "الانفتاح" الجديد. الأمر الذي تكرر مع معظم المنتجات التي كانت قد شهدتها النهضة الصناعية الموءودة في مصر. فلم نعد نسمع عبارة "قلاع الصناعة" التي كانت تتردد مع إنشاء أو بدء إنتاج أحد مرافق ما اصطلح على تسميته بالصناعات الثقيلة. وقضت "هوجة" الخصخصة، حتى على الصناعات القطنية المصرية الراقية التي كانت تحظى بسمعة عالمية منقطعة النظير؛ وبات المصريون أنفسهم يرتدون ملابس قطنية مصنوعة في الشرق أو الغرب. ولا يخفى على أي شخص لديه أقل قدرة على الملاحظة تكرار هذا السيناريو في كل مرة يراد فيها بيع أصل من أصول الدولة المصرية؛ ظهور تدهور في جودة المنتج، أو اختفاؤه من الأسواق مع تعثر في مواعيد التسليم، مع دخول منتج مستور للسوق ربما أقل جودة لكن أكثر أناقة وبسعر لا يزيد كثيرا مع سهولة في الحصول عليه؛ فيتحول المستهلك إلى المنتج المستورد ويتخلى عن المنتج الوطني الذي تزداد فيه صور التدهور، وبدلا من المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن تدهور إنتاج كان ناجحا، ترتفع الأصوات المطالبة بخصخصة المنشأة، وتمتلئ مقالات الصحف بهذه الدعاوى في حملة واسعة تنتهي بعرض المصنع أو المؤسسة للبيع؛ وتشريد عمالها الذين يرى المشتري الجديد أنهم زائدين عن الحاجة ؛ بعد منحهم مكافأة نهاية خدمة تتبخر في ايام أو شهور معدودات؛ لتضاف آلاف جديدة إلى أعداد العاطلين ممن هم في سن العمل كل عام . ثم نشكو بعد ذلك من زيادة معدلات الجريمة والتطرف!!!.
أقول هذا وقلبي ينزف على قلعة مصرية عريقة أخرى تعرضت للتخريب؛ ولا أتردد في أن أقول المتعمد؛ وبدلا من محاسبة المتسببين وملاحقتهم والعمل بجدية على إعادتها بحزم إلى سابق عهدها؛ سترتفع الأصوات المطالبة بخصخصتها؛ لنعاود الكرة: تشريد العاملين، ورفع سعر الخدمة على نحو يثقل كاهل الفقراء الذين فاض بهم الكيل بالفعل. وعلى من يريد أن يكذبني أن يذكر لي مثلا واحدا لمنشأة صناعية مصرية واحدة تم خصخصتها وأثبتت نجاحا خلال الثلاثين عاما الماضية! أليست هذه الفترة كافية للحكم على التجربة؟ ألا تكفي الزيادة المهولة في أعداد العاطلين عن العمل واتساع الهوة الاجتماعية؛ وتدهور مستويات المعيشة، وزيادة معدلات التطرف والجريمة للبحث عن طريق آخر غير استسهال اللجوء إلى بيع كل ما تملكه مصر وفق عبارة"بيع يا لطفي" التي كنا نتهكم عليها في مسلسل "سنبل الشهير؟ ألم يحن الأوان لتجربة طريق جديد للتنمية؛ باعتبار أن حرية السوق المطلقة ثبت فشل محاولة غرسها بالقوة في التربة المصرية؟ أليس من الضروري البحث عن صيغة جديدة، ولتكن عبر تشجيع نظام التعاونيات مثلا؟ أم أن الأمر يحتاج لمسؤولين يكونون أكثر اهتماما بمصالح الناس؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جرب وحالات من التهابات الكبد تنتشر بين الأطفال النازحين في غ


.. سوريون يتظاهرون ضد تركيا في ريف إدلب




.. أعمال عدائية تجاه ممتلكات لاجئين سوريين في تركيا


.. تفاعلكم | شاهد.. اعتداءات أتراك على لاجئين سوريين ومئات الاع




.. اعتقال تركي هدد سعوديين بسكين وكال الشتائم العنصرية للعرب