الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة قرية بالفحم

ساطع هاشم

2021 / 11 / 6
الادب والفن


حاولت تذكر وأنشاء منظرًا طبيعيًا واقعياً في ذهني لقرية كردية دمرها جيش البعثيين أواسط السبعينات، وقد زرتها قبل أربعين سنة لأستعيد رسمها بأقلام الفحم، بدت بخيالي وكأنها قلعة قبل ان تدمرها القنابل، حيث البيوت المتراصة والناس في حركة دائبة وقطعان الغنم تستعد لتُحلَب، ودجاجات تبحث عن طعام بمخالبها الحادة، وماعز مربوط الى شجرة، وعدة خراف في حظيرة، ونهيق حمار، وكلاب متحفزة للنباح تراقبنا من على الصخور الرطبة في ريح باردة، وعجائز تدخن التبغ الملفوف وتفرك أكتافها قبل ان تستحم بالحمام المبني على صخور الحجر الجيري تحت سماء زرقاء.
كنت اتخيل شعرهم الرمادي بدلاً من الأسود، وقليل من الصلع في أعلى رؤوسهم وخطوط أعمق مقطوعة في وجوههم، وظللت أرى الشباب والعجائز والاطفال مركبين في صورة واحدة في ازقة ذلك الوادي الذي كان يوماً ما طافحاً بالحياة.

وهكذا استمر مسار نبشي في ذكرياتي في النزول مع البغال عبر غابة من أشجار البلوط، وكانت جذوعها القديمة محاطة بالشتلات الصغيرة، حتى وصلنا الى جسر خشبي فوق جدول يؤدي الى مدخل قرية او بقايا قرية، كانت المنازل في معظمها مهدمة والقليل منها قد اعيد بنائه حديثاً وبرداءة ومازال في حالة يرثى لها بعد انسحاب الجيش منها، وأبوابها مغلقة ببضع اغصان يابسة بينما النوافذ مفتوحة، وهي تقع على قمة جرف صخري شبه عمودي، محاطا بمزارع خضراوات تبدو من بعيد مثل السجاد الصغير على حافة المنحدر، وعلى اطراف القرية مقبرة مسورة وقد تهدم سورها بجرافات عسكرية، وكنا نسير على طول طريق ضيق مرصوف بالحجارة عندما توقفت امرأة في الاربعينات من عمرها، وقد قطعت طريقنا، ولم ندري من أي جهة جاءت، وسألتنا عن وجهتنا ثم سارت معنا.

قالت إن هذه القرية منزل طفولتها وانها ولدت في الجهة الأخرى منها، وقد هجّر الجيش اهلها وقتل زوجها وهي تأتي الى هنا كلما استطاعت، للنظر حولها وجني بعض الخضروات والفواكه. قالت: (كانت هذه قرية عامرة) وكان عدد سكانها في السابق الف نسمة، ولكن الآن هناك أربعة رجال فقط من كبار السن يتواجدون هنا معظم أيام السنة، في الصيف نأخذ الأغنام والماعز إلى المراعي المرتفعة وعندما يقترب الشتاء ننزلهم إلى الوديان، نحن معتادين على الذهاب إلى كل مكان سيرًا على الأقدام.

لم يكن هناك هذا الطريق وأشارت الى طريق عسكري يمتد إلى نهاية الوادي، حتى جاء جيش البعثيين واجبرنا على الرحيل وهدم منازلنا ومقابر أهلنا واجدادنا وقتل ازواجنا وابنائنا، وشق القرية الى نصفين بالمتفجرات والجرافات، وكانت هناك قريتين صغيرتين ليس بعيدا من هنا وقد دمرها الجيش ايضاً وأنشأ فوقها معسكرا، وكان هناك العديد من الشباب الذين قتلوا في الأشهر الأخيرة من الحرب ولم نستطيع دفنهم هنا ولاندري اين مقابرهم الان والعديد من الرجال والنساء الكبار في السن الذين بلغوا عقدهم الثمانين او التسعين قد تركوا يواجهون مصيرهم واخر ساعات حياتهم بعذاب شديد، ومنهم والدي ثم حدثتنا كيف مات وقالت:
كان يوماً دامياً من أيام رمضان وقصف المدافع والطائرات الهليكوبتر لم تتوقف ولا دقيقة، وكنت مع ابنائي والمئات من العوائل الأخرى نقطع الطريق لعبور الحدود التركية، وجاءني ابن عمتي وكان بيشمه رگة (مقاتلاً) مسرعاً يطلب مني مرافقته بسرعة لان والدي في وضع صعب فتركت ابنائي مع اختي ورافقته، وعندما وصلت وجدته قد مات منذ خمسة ساعات، وكان ممددا تحت شجرة ومغطى بشرشف خفيف بانتظار نقله الى المغسلة ثم الى مكان قريب من مقبرة ليدفن، قال الرجل الذي ساعده في النزوح من القرية في اليومين الأخيرة بأنه كان يمشي بنشاط وكان صامتاً طوال الوقت ولم تبدو عليه آثار تعب او اية علامات مرض وقد تركناه عند نبع للماء مع مجموعة من كبار السن الاخرين وعندما عدنا وجدناه قد مات وبشكل مفاجئ، قالت: لم يكن وحده من مات بهذا الحال انما كثيرون من كبار السن مثله.
اما هي فقد تمكنت من الهرب بعد تلك النكبة الى بلدة على الجانب التركي من الحدود مع أبنائها وبعض اقاربها.

سرنا على طول جانب واحد من المضيق الصخري لكنه كان رخواً تحت اقدامنا، وهي معنا، وبمحاذات المنازل المهدمة بسقوفها وجدرانها القليلة الباقية والمرصوفة بالحصى ببراعة كأنها خلية نحل، حتى وصلنا الى منزل بغرفتين وكان والد زوجها (الشهيد) قد جاء للتو من ري المزروعات، قال انهما قاما بترميم نصف هذا المنزل بمفردهما على مدى سنة كاملة منذ انسحاب الجنود ومدرعاتهم منها، والى الجهة الأخرى من المنزل كان هناك رجلا عجوزاً اخر يجلس بمفرده شاردا بأفكاره المشوشة وكانت أصابعه منكمشة على نفسها مثل اقدام الطيور النافقة، ولم يلحظ وجودنا الى ان تجمعنا كلنا، فجاء لتحيتنا وللسلام علينا، كانت قافلتنا تسعة اشخاص وهي خليط من العرب والاكراد ومن قوميات أخرى ولم يكن بيننا سوى اثنين من يتكلم باللغة الكردية ولهجة تلك المنطقة، ثم قدموا لنا بكرم وسخاء هائل كل ما عندهم من جبنة وشاي وخبز، وكان معنا مضمد صحي ندعوه بالدكتور قام بفحصهم وقدم لهم بعض الادوية لمعالجة الام البطن التي كان يشكو منها كلا الرجلين، وبعد ساعتين حملنا امتعتنا وودعناهم ، وارشدتنا المرأة الى اقصر طريق نحو القرية التالية.

كان الظلام قد حل بالفعل عندما عبرنا الجبل باتجاه قرية أخرى، لذلك لم أر أشياء كثيرة أخرى حيث بدأنا السير والصعود الشاق من الوادي، وقد مررنا بخط من المنازل المهدمة التي اضاءتها بقايا اشعة الشمس الغاربة، ثم استدرنا إلى اليمين بجوار اثر قنبلة ثقيلة شديدة الانفجار، وكان ذلك واضحاً من خلال عمق الحفرة التي تركتها هناك، وبعد أن أحصينا تسعة او عشرة منازل مهدمة، بينما كنا نتبع مسارًا ترابيًا ضيقًا، وأغصان أشجار البلوط تقطع مسيرتنا بين الحين والأخر، توقفنا لاستراحة قصيرة عند نبع للماء، وبمساعدة مصباح يدوي صغير تمكنا من رؤية مصدر النبع، كان قادماً من بستان خلف منزلين صغيرين مهجورين يقفان جنبًا إلى جنب بمفردهما في منتصف مكان معتم او (أسود) بسبب كثافة الأشجار، ولسبب ما لم اعد اتذكره قال احد الذين يعرفون اللغة وقاموا بالترجمة وبكل يقين، ان احد هذين المنزلين هو المكان الذي ولدت فيه تلك المرأة الشجاعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك