الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدام ادواردة:مقدمة عن جورج باتاي

بلال سمير الصدّر

2021 / 11 / 6
الادب والفن


مدام ادورادة هو كتاب أو حكاية قصيرة جدا للفيلسوف الفرنسي جورج باتاي،وعلى صغر حجم هذه الرواية وقصرها،إلا انها تبدو من ناحية أخرى عبارة عن اختصار مكثف لكل فلسفة جورج باتاي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى،وان كان محور القصة من ناحية نظرية سطحية،هو حلم عن الشهوة كحلم الاحتلام تماما،مع اضفاء الكثير،بل الكثير جدا من الصيغ المعرفية والدلالية ذات العلاقة الكبرى بجورج باتاي.
إذا ربطنا هذه القصة (بحلم الشهوة)،فليس من الغريب اذا ان ننعت القصة بالسوريالية،فالعالم الذي تدور فيه القصة هو عالم ضيق مشبع بسوريالية مكثفة أكثر تكثيفا من افلام ديفيد لينش،ومن الناحية الفلسفية هي اكثر عمقا من السوريالية نفسها،فالنموذج الطبيعي لهذه القصة هو العالم السوريالي،بينما القصة –حسب فهمنا لفلسفة باتاي المضطربة-هي عن الايروسية المرتبطة بالانتهاك والتجلي الالهي كما يراه جورج باتاي،اي الانتهاك المرتبط تماما بالمقدس.
فلا انتهاك بلا مقدس علما ان فكرة الانتهاك بحد ذاتها عند باتاي تتعرض للتحلل والتفكك حسب الواقع التاريخي التي كانت تدور فيه،وحسب افكرة المسيطرة في تلك الحقبة من الزمن.
العالم في مدام دورادة،هو عالم منبعث من العالم الداخلي للشاب غير مذكور الاسم،وهو الذي يحكي القصة بلغته ومن خلال عينيه،والشعور الذي يحيط به من كل ناحية هو الشعور الايروسي التام،بحيث يمر في تجربة نفسية خارق نطاق سيطرة الوعي الذي يرى كل ما يحدث،بحيث ان كل اعضاء جسده نائمة معطلة عن اي فعل مضاد أمام القوة الانتشائية للشهور الجنسية.
حالته الجنسية(الانهماك المسيطر تماما على الجسد) يقوده الى مجموعة من الفتيات يختار منهم مدام دورادة التي تنظر بقوة الى الامام نحو الموت.
الموت يعني أنها الأكثر شهوانية من جميعهن،انها التي ستدفع نفسها الى اللذة القصوى،الى الحالة الاندماجية بين الانسان والحيوان...انها بعيدة عن الاشمئزاز الذي توحي به الرغبة.
يتحرك الشاب لكي يغمسها بقبلة شهوانية ذات حد اقصى من الانحطاط،كلا هما في ظل ادراك مكثف للحالة الايروسية...كلاهما فقط،يعاني من الانتشاء والشعور يدرك العالم من خلال هذا الانتشاء...انه الاسراف أو الحالة القصوى من ادراك الوجود....
لايصل الانسان الى هذا الادراك المكثف إلا من خلال تجاوز الكينونة الاعنيادية (الروتينية) التكرارية في هذا العالم...كما يرى باتاي
انها الحالة من الوجود التي يكون فيها الادراك في وجود مختلف،او من الممكن في عالم آخر من الادراك الجواني للعالم...هي حالة الرعشة الجنسية التي تدرك لوحدها تماما في حال حصولها،ومن المستحيل ادراك غيرها...هي حالة النشوى الفصوى أو التجلي كمن يدرك عالم ليس بهذا العالم.
يقول جورج باتاي(مدخل لقراءة مدام دورادة) من كتاب الايروسية:
فالكينونة(كينونة الانتشاء) متاحة لنا في تجاوز لايمكن تحمله للكينونة(الكينونة الاعتيادية)،حيث لايقل وزن هذا التجاوز عن وزن الموت ،وطالما ان هذه الكينونة تتاح لنا في الموت بنفس القدر الذي تسحب فيه منا،فانه علينا ان نبحث عنها في الاحساس بالموت،اي ان هذه اللحظات العصبية التي يتهيأ لنا فيها اننا نموت،ذلك ان الكينونة لاتكون فيها إلا على وجه الاسراف...أي عندما يتقاطع الخوف الأقصى مع الفرح الأقصى....
انتهى الاقتباس والعبارة بين قوسين هي من قبل الناقد....لكن لنتوقف قليلا عند هذه الفلسفة المضطربة
دعوان نبدا من اللحظة التي يتقاطع فيها الخوف الأقصى مع الفرح الأقصى...
هذه اللجظة هي اللحظة الايروسية،فإن كانت اللحظة الأيروسية هي لحظة الفرح الاقصى وهذا مفهوم من الجميع،إلا أنها وفي نفس الوقت لحظة الخوف الأقصى لأنها متماهية مع الموت الى درجة التماثل،فنحن عندما نشعر بالموت كمجرد أحاسيس نكتسب حيزا مختلفا للأدراك أيضا،لأن الموت يغيب كل شيء مدرك بالأساس،إنه يبتلع الادراك برمته المتعلق بالوجود الموضوعي المتاح...الاحساس بالموت هي لحظة شبيهة جدا-الى درجة التطابق-مع لحظة (الرعشة الجنسية)...هي اللحظة التي يكون فيها الادراك متعلق بلحظة واحدة((استغراق)).....
ليس من اهداف هذا المقال أن يوضح فكرة ارتباط الموت والايروسية عند باتاي،ولكن ننوه للتوضيح وتسهيلا على القارئ،أن باتاي يعتقد أن الموت والجنس مرتبطان،بحيث ان الجنس هي فكرة وفعل معادل لفكرة وفعل الموت من عدة نواحي....
فمن ناحية بيولوجية،يفقد الجسم أثناء الجماع الكثير من مكوناته وطاقاته،أي انه يسير لاشعوريا وقسريا نحو الموت،كما أن الولادة تقول بصراحة ان هناك شخصا قادما ليحل محلك،كما أن الجنس هو بحد ذاته فعل قاسي من كلا الطرفين ومخلل أيضا بالألم،والألم الجسدي ليس إلا مفتاحا من مفاتيح الموت،بالاضافة ايضا الى فكرة تجاوز الكينونة من خلال لحظة الرعشة الجنسية المتسببة بالاحساس بالموت...
في لحظة عرض مدام إدواردة اعضائها الجنسية الحميمة على الشاب تقول:انا الله
هل ببساطة قالت إدواردة أنا الله كما قال الحلاج أنا هو...؟
هل كلاهما تعرض لحالة انتشاء قصوى جعلت منهما في لحظة تجلي الهي...؟
عند باتاي الشعور الايروسي قريب جدا من الشعور الصوفي الذي دعاه بالتجربة الداخلية،ليصل الى ان التجربة الصوفية هي مجرد وهم،وان التجربة الحقيقية المقابلة للتجلي الحقيقي هي لحظة الانتشاء لأنها ببساطة كبيرة هي لحظة التجاوز...يقول باتاي:
ولكن الايروسي تقول مالم تستطع الصوفية قوله-إذ عجزت عنةذلك في نفس اللحظة التي كانت ستقوله فيها-ألا وهو ان الله لاشيء ما لم يكن تجاوزا في كل المعاني.
في معنى الكينونة المبتذلة،وفي معنى الخوف من الدنس،وأخيرا في معنى اللاشيء...فلا نستطيع ان نضيف تلك الكلمة التي تتجاوز بوضوح الى اللغة،ذلك أنه منذ اللحظة التي نقوم بها بذلك،وتقوم تلك الكلمة وهي تتجاوز نفسها بتدمير حدودها بشكل كبير،فالكائن لايتراجع أمام أي شيء.أنه في كل مكان حيث يمكن انتظاره:أنه في حد ذاته عظمة وكل من ينتابه ادنى شك في ذلك يصمت لتوه،أو انه في بحثه عن المخرج وفي ادراكه لكونه يتورط يبحث في نفسه عما يجعله شبيها بالله،اي بلا شيء من خلال قدرته على تدمير نفسه...
تتحرك إدواردة بشهوانية مطلقة،تتماهي مع الحيوان في شعوره وشهوته عندما تلبس قناعها الذئبي...انها تدمر نفسها...أنها تقترب من العدم...انها اقرب الى فكرة الاتصال مع العدم الجوهري المتصل دائما باللانظام والله معا....
هي تتحرك من خلال شهوانيتها الى عالم اللانظام...هي تتجاوز الكينونة لتدخل في العدم...أي الى الفكرة الألوهية(الفكرة الألوهية وليست الألوهية نفسها).
فكرة انكار وجود الله تقود بوضوح شديد الى العدم...فالله هو فناء أو عدم
على ان افكار باتاي مضطربة جدا تشبه أحيانا كلام الصوفية التي تفتقد الى التسلسل والترابط المنطقي،ولكن هذا ليس اجتهاد شخصي في فهم نصوص جورج باتاي المدافع الفلسفي العقلاني اللغوي عن الماركيز دي ساد.
دعونا نتحدث بلغة باتاي قليلا:
ما يحدث هو استدلال على انكار وجود الله من خلال شعور غير معرفي،غير معروف المصدر...مألوف ومتوقع ويسير بالانسان نحو النشوة المرتبطة بالعنف والانكسار يصاحبها شعور في لامعنى الفعل نفسه وهو مؤكد بلامعنى الوجود نفسه،وبالتالي يقود الى عالم غير منتظم أبدا...فحواه العدم أو الله الذي لاينطق بأي شيء في ظل علمه بالواقع...
يقول الشاب لاحقا:وحينذاك علمت،بعد ان تلاشت ثمالتي انها لم تكذب وانها كانت الله،كان لحضورها بساطة حجر مبهم في قلب المدينة.....من الرواية
ايقن الشاب عندما اشترك التجربة مع مدام إدواردة بأنها الله،لأنه هو الله ايضا...
تتحرك مدام ادواردة حركات عبثية في المحيط،أحيانا يقودها الوعي،واحيانا يقودها اللاوعي لتسأل:من أنا
وهي تتحرك مع اسراف الادراك....هي تتجه نحو العدم،هي اقرب الى التلاشي والتبخر،وإن كانت تلاشت من هذا العالم المدرك:
لم يعد لعريها الآن اي معنى،لكنه صار في نفس الوقت اسراف المعنى متنكرا في لباس امرأة ميتة،والأكثر غرابة والأشد اثارة للقلق في آن كان هو الصمت الذي ظلت إدواردة منزوية فيه.....من الرواية
في ظل الانغمار المسرف في الادراك تقترب مدام إدواردة من العدم،ولكنها تعود الى العالم الذي نعيش فيه....هل انتهت لحظة النشوة
استعادت إدواردة وعيها وعادت الى الحياة...يستقلان سيارة اجرة
دلفت بنا الة أزقة مظلمة،فكت إدواردة خيوط الدومينو المنزلق بحركات هادئة بطيئة...نزعت قناع الذئب والبوليرو،ثم خاطبت نفسها بصوت خفيض:
أنا عارية كحيوان.....(اقتباس)
تعود مدام إدواردة الى الجماع الجيواني،أنها لازالت تحاول الانغماس أكثر في الاسراف،الاسراف الحيواني الشهواني القاتل،البهجة الادراكية المنبثقة عن الغوص في الرغبة للتحليق نحو لحظة نشوة اعلى من الكينونة...ينفصل عنها الشاب ويغوص اكثر في عالم الحقيقة،لكنه يدرك بعد نوم طويل انه عاد الى نقطة الوعي وعادت هي معه،والباقي سخرية وانتظار طويل للموت.
إدواردة هي النشوة الايروسية المعادلة للموت،الرغبة المعادلة للألم والشعور بالقرف،للفرح المختفي وراء نقيضه،أي وراء الحزن
هي مصطلح ناقص من مصطلحات اللغة والذي لم يتسنى لنا صياغته بعد....
ولكن،يقول جورج باتاي من المرجع أعلاه:
إذا الفرح يوجد على وجه التحديد في افق الموت(انه يختفي بهذا الوجه وراء نقيضه،اي وراء الحزن)

يبدو لي ان باتاي الذي نقد التجربة الصوفية من اساسها الى درجة الانكار في خضم خلق مثنوي جديد...
على ان المعرفة بنقيض الشيء هي وسيلة لمعرفة الشيء نفسه وليست معادلا له عند جلال الدين الرومي.
29/10/2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس