الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة كاتم الصوت

صلاح زنكنه

2021 / 11 / 7
الادب والفن


سأستعير من الشاعر المصري (حلمي سالم) مؤلف كتاب " ثقافة كاتم الصوت" عنوانه الصادم, لأتطرق الى الموضوع نفسه، والذي يسلط الضوء على ظاهرة المنع والقمع والمصادرة في الثقـافة العربـية المعاصرة, منذ منتصف القرن العشرين والى يومنا هذا، بحجة المسـاس بـالدين الحنيف والأخلاق الحميدة, وما الى ذلك من تابوات مصطنعة وملفقة ومفبركة من قبل الجماعات الأصولية التقـليدية, المرتكنة الى أفكار القرون الوسـطي وظلاميتها، والتي تعد نفسـها مالكة ناصية الحقيقة المطلقـة، والناطقـة الرسمية باسم الذات الإلهية، والمخولة بالتالي بتنفيذ الأوامر والعقوبات بحق المارقـين والمرتدين من ذوي الأفكار المتحررة والآراء المناهضة لكل ما هو جاهزي وسكوني وبـليد، حـتى صار شـعار إلغاء الآخر واقـصائه ديدنهم الأزلي الأوحد, ولو بحد السـيـف وأزيز الرصاص، لفرض إرادتهم التي هي إرادة "المقـدس" ووجهة نظرهم التي هي وجهـة نظر "الجمـع الغفير" حسبما يرون، منطلقـين من قناعتهم التامة بقدسـية ما يعتقـدون - ويؤمنون، دون أدنى اعتبـار لناموس الحـياة البشـرية القـائم على مبـدأ الاختـلاف والمغايـرة والتجديـد، مستمدين شرعيتهم عبر العصور من الأنظمة الشـمولية الدكتاتورية والتوليتارية (الاحـادية النظر) والاتوقراطية (حـكـم الأقـلية) التي دعمت مجتمعة خطابـهم وروجته وسوقته لالتقاء مصالحهما المشتركة.

إن الثقـافة كونها نتاجاً معرفياً ذات اشكالية تحريضية، اضحت ومنذ تشكل الحضارات عبئاً وخطراً على السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، وأن هذه السلطات عمدت على تكفير وتحريم واقصاء كل من يحاول المساس بحـرماتها وزعزعة ثوابـتها أو وخز وجدانها، وقد شنت عبر التاريخ, حملات تنكيل وابـادة أولئك الذين يخالفونها بـالرأي والرؤية والتفكير.

وقـد أورد المؤلف حلمي سالم عشرات الشـواهد, التي عززت منطق تكميم الأفواه ومصـادرة الآراء وقمع الاصوات, بدءاً من اغتيال المفكر الإســلامي (فرج فودة) ومصادرة رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، ومحـاكمة كتاب "نقـد الفكر الديني" لصادق جلال العظم، مرورا بـتكفير نصر حامد أبو زيد واقامة الحد عليه، وملاحقة سـيـد القـمني وخليل عبـد الكريم وترهيبـهما، وانتهاءً بتقـديم الفنان مارسيل خليفة, والقـاصة ليلى عثمان, والشـاعرة عالية شـعيب, للمحـاكمة بـدعاوى من المتطرفين الذين يحـرمون ويحـللون وفق ما يجتهدون ويفندون, لشـل الفكر الحـر والكلمة الجـريئة والفـن الرصيـن, وبالتالي تقييد حرية الإبداع وقمعها.

واليوم في العراق الجديد الذي لم يشف من جراحه بـعد والمبـتلى بدبابـات الاحتلال وتفجيرات الارهابـيين، وفي ظل فسحة الحــرية التي لم ننعم بـها, والديمقراطية التي لم نمارسها بشفافية، راح بعض المتحزبـين المتحجرين الذين كانوا حتى يوم أمس في سبـات عميق, وكأنهم دمى صماء، متواريـن خـلـف الحجرات، ويمشـون جنب الحـيطان لضمان السـلامة, يرفعون عقـيرتهم، يهددون وينددون بالمثقفين الأحـرار, الذين لم تسكتهم مقـاصل وزنازين الطاغية صدام وأزلامه.
الحزبيون الجدد اتخذوا من شـعار التعددية الحزبـية, وسيلة للتعددية القمعية، وراحـوا في غياب سلطة القـانون والفراغ الأمني, يصولـون ويجولـون، فارضين وصاياهم وأوامرهم على الناس تحـت سـطوة المسدس، فقـتلوا من قـتلوا وهددوا من هددوا من مثقـفين وصحفيين وعلماء وأسـاتذة جامعيين والحبـل على الجرار, حتى بتنا جميعا قاب قوسـين وأدنى من رصاصهـم الكاتـم للصوت، ناسين أن الثقافة هي ما يترسب ويترسـخ في ذاكرة الناس من قيم ومعارف ومواقـف، وأن هؤلاء الناس الذين عايشوا المحـنة, وذاقـوا اللوعة, لن يغفروا لهم خنوعهم وخضوعهم لأمر الواقع, حين كانوا يـتفرجون على المأساة عن بعد، في الوقت الذي قاوم المثقفون الحقيقيون الاستبـداد بـالكلمة الحـرة الصادقة.

وعلى الأدعياء الموتورين الواهمين الخائبين, أن يفهموا ويتفهموا ويستوعبوا جوهر الثقافة الحـرة الحقة الخصبة, إنما يقوم على مبدأ الحـوار والجدل والمناظرة, وليس على لهجـة الويل والثبـور, ولا تملق الآخر, واستجداء الولاء الكاذب، وفرض الوصايا, وعليهم أن يدركوا في النهاية, أن هذا الوطن للجميع ويتسـع لكل أطيافه, وليس لثلة من الانتهازيين والعملاء.
...
جريدة الصباح 22 / 5 / 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي