الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليمين واليسار في العراق : قراءة مغايرة لثنائية قديمة

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2021 / 11 / 8
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لعل الاسترجاع الاختزالي لبعض المصطلحات السياسية التقليدية – كاليمين واليسار- يكون مفيداً أحياناً لصياغة تصورات غير تقليدية، بل قد يكون مثمراً لإعادة تعريف الأوضاع الملتبسة من جديد بما يُبرز جزءاً من جواهرها ومدياتها ومساراتها. فإعادةُ استنطاق النماذج الفكرية النمطية قد يكسر نمطيتها في سياقات معينة، خصوصاً تلك السياقات المحتدمة التي يصبح فيها الصراع السياسي مُستقطَباً بين قديمٍ يتوارى وجديدٍ يولد.

إن الوصمة التي رافقت التاريخ البشري بكونه ظل منقسماً بين قاهرين ومقهورين، ومالكين وفاقدين، ومتسلطين ومهمشين، ألزمت الوعي البشري بالضرورة أن يكون منقسماً بلا هوادة بين دعاة تغيير العالم نحو المساواة والانعتاق ودعاة المحافظة على تراتبياته القائمة على التفاوت والخضوع، مع منطقة وسطى تستوعب كل احتمالات التقلب والتردد والشك والتذبذب والوسطية والحياد. وهذا الانقسام رافق النتاج الفكري والسياسي للحضارة منذ بداياتها بمسميات لا حصر لها، إلا إن اشد اختزال تجريدي لهذه المعضلة الإدراكية جاء من خلال الثنائية المتعارضة: "اليمين- اليسار"، ضمن تراث فلسفي وعلمي ضخم من المذاهب الثنائية والأحادية والتعددية التي شكّلت أهم معالم الفكر البشري في رحلته المضنية لاشتقاق مفاهيمٍ تسمح بتعقل الوجود واستيعابه وتفسيره والتحكم به.

فإذا كان البزوغ الأول لثنائية اليمين واليسار قد حدث في اجتماع مجلس الطبقات الفرنسي في 5 أيار 1789 حينما انقسم الحاضرون في مكان جلوسهم بين جهة اليسار (البرجوازيون والمثقفون وعامة الشعب المطالبون بالجمهورية والمساواة والحرية الفكرية وإلغاء امتيازات النبلاء ورجال الدين)، وجهة اليمين (النبلاء الإقطاع ورجال الدين المدافعون عن بقاء الملكية وتراتبية النظام القديم) في ظروف ثورية محتدمة آنذاك، فإلى أي مدى يمكن القول أن هذا التصنيف الثنائي ما يزال فاعلاً بدرجة كافية لفهم وتفسير الصراعات السياسية الحالية لعموم البشرية؟ أم إنه قد خسر جزءاً من أهليته النظرية لتحل محله بالضرورة مصطلحاتٌ بديلة صارت تحقق مقاربات أدق وأعمق لمسارات التطور السياسي المعاصر؟
وبالمنظور نفسه، إلى أي مدى بات هذان المصطلحان عاجزينِ أو قادرينِ على تحقيق جزءٍ من الإحاطة التحليلية بأوضاع بلدانٍ – كالعراق- تنشطر بنيتها السوسيوسياسية على نحوٍ متزايد بين سلطة نهّابة مغلقة ومجتمع مقهور يزداد انفتاحاً ثقافياً ووعياً بالتغيير، وسط رمال سياسية متحركة بتأثير التدخلات الإقليمية والدولية الخشنة؟
ولمحاولة الإحاطة بهذين التساؤلين، فلا بد من تمهيد نظري قد يطول بعض الشيء.

يحاجج كثيرون أن مفردتي "اليمين" و"اليسار" تستحقان أن تكونا ضمن الأرشيف السياسي لا أكثر، وإن محاولة استعادتهما تحليلياً في عالم اليوم البالغ التعقيد في تصنيفاته السياسية لن يضفي إلا غموضاً أشد والتباساً أعمق على هذا التعقيد. فكلا المفهومين قد تحلّل إلى طيفٍ متعدد الاحتمالات من ايديولوجياتٍ منشطرة تتبادل المواقف والمواقع (مثلاً: يمين متطرف ويمين معتدل ويمين الوسط والوسط، والأمر ذاته مع اليسار) وهويات سياسية متقلبة المضامين ومتداخلة الأدوار (علمانية/ دينية، ووطنية/ ما دون وطنية، وطبقية/ إثنية، وليبرالية/ محافظة، وتقدمية/ رجعية، واشتراكية/ برجوازية)، فضلاً عن شعبويات محيرة يختلط فيها اليمين باليسار، وسط عالمٍ لا يكف عن الحركة، وبالتالي ما عاد بالإمكان تصنيف كل هذه المعطيات المتشعبة ضمن هذه الثنائية التقليدية المبسطة.

فأنظمةٌ كثيرة في العالم الثالث كانت توصف بأنها "يسارية" مارست قمعاً ممنهجاً للقيم الليبرالية والعدالوية، فيما أحزابٌ في أوربا الغربية كانت توصف بأنها "يمينية" شيدت مجتمعات الرفاه والديمقراطية الاجتماعية. كما إنه ليس من المتفق عليه ما إذا كانت بعض الايديولوجيات الراديكالية (إسلامية أو ماركسية أو قومية) في الشرق الأوسط قد مثلت فعلاً توجهاً "يسارياً" معادياً لـهيمنة وامبريالية الغرب "اليميني"، أم إنها مثلت خطاباً يسارياً تديره عقول يمينية. وليس من الواضح أيضاً ما إذا الفئات المحافظة المناصرة للعلمانية وللنظام القديم في دول الربيع العربي تمثل توجهاً يمينياً أم يسارياً في خصومتها مع قوى الإسلام السياسي الساعية للسلطة.

إذا كانت كل هذه المؤاخذات على المصطلحين تكفي لتجاوزهما لفظياً – بنسبة مهمة-على مستوى العمل السياسي والبث الإعلامي والكتابة الصحفية للأسباب التي تم توضيحها، فلا يبدو أن العلوم الاجتماعية راغبة بتجاهلهما جوهرياً على مستوى التنظير، إذ ما تزال الأدبيات المعاصرة في علوم السياسة والاجتماع والنفس تعجّ بمقاربات متعددة ومتداخلة الاختصاصات لوضع فرضياتٍ واشتقاق مفاهيم فرعية مطورة سعياً لاستنطاق المغزى الكامن من تقسيم الوجود الاجتماعي إلى يمين ويسار. ويسهم علم النفس السياسي تحديداً بحصة أساسية في تأصيل الأطر النظرية للمفهومين وعدّهما ركنين أساسيين لفهم السلوك السياسي بكل أنواعه السلطوية والشعبية.

ينحو علم النفس السياسي منحى امبريقياً مجهرياً Micro في معالجاته البحثية التجزيئية لمفهومي اليمين واليسار لدى الأفراد بوصفهم ممثلين لسياق اجتماعي- سياسي، بخلاف بقية العلوم الاجتماعية التي تتجه لمقاربتهما ضمن وظيفتهما الايديولوجية الجماعية التي تتمظهر كلياً Macro أمام أبصارنا. ومن هنا نشأ في الإطار النفسي الأكاديمي ما صار يسمى بنمط "التفكير" أو "التوجه" اليميني واليساري، دون إلغاء الأطياف الفرعية المتعددة لكل نمط.
ولذلك فالحديث عن سيكولوجيا اليمين واليسار يعني الحديث عن بنى عقلية مشيدة قائمة بحد ذاتها فعلياً، تحتوي منظورها الظاهراتي (الفينومينولوجي) للعالم. وقد تتسم هذه البنى بالمرونة أو التصلب، لكنها قابلة في كل الأحوال للتبدل أو لمقاومة التغيير بحسب أنماط التنشئة السياسية ونسبيات البيئة السوسيوثقافية المؤثرة فيها، فضلاً عن الجذور النفسية التطورية evolutionary التي راكمت انتقاءاتٍ طبيعية بيولوجية عبر آلاف السنين جعلت من كلا البنيتين (اليمينية واليسارية) نمطاً تكيفياً -خضوعاً أو تمرداً- مع احتمالات الوجود المقلقة.

فالتفكير اليميني أو اليساري بهذا المعنى مزدوج الكينونة، إذ يمتلك محتواه المفاهيمي (أفكار وعقائد وقيم وأهداف) مثلما يمتلك بنيته الجامدة المغلقة أو المرنة المنفتحة أو المكونة من امتزاج الإثنين؛ بمعنى إن المضمون التحرري والعدالوي للتفكير اليساري لدى فرد أو منظومة لا يلغي احتمالية أن يكون تفكيراً تعصبياً مغلقاً في بنيته، مثلما أن المضمون المحافظ الانصياعي للتفكير اليميني لا يلغي احتمالية أن يكون تفكيراً مرناً متقبلاً للرأي الآخر في بنيته، والعكس بالعكس.

تشير الدراسات المتراكمة إلى أن التفكير اليميني في محتواه الإجمالي –دون إغفال التمايزات الكمية والنوعية داخله- يميل إلى إدراك الثبات أكثر من التغيير، فالعالم – من وجهة نظره- تتحكم به قوى نمطية مقتدرة خارج إرادة الأفراد المباشرة ولذا فهو عالم محدد سلفاً ولا يستدعي بذل الجهد لتغييره. واليمينيون في العادة تراتبيون ومحافظون أي يؤمنون بأحقية وجود الهرميات الاجتماعية ويبررون استمرارها وينصاعون لها ويدعمون بقاءها، ويرون في التفاوت أمراً طبيعياً، وتحركهم قواعد مسبقة من صنع الآخرين، ويعتقدون أن إخفاق الناس أو نجاحهم في تحصيل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية سببه جهودهم الفردية وليس بتأثير المنظومات الشاملة الحاكمة لحياتهم. كما يميلون إلى التمركز حول ذواتهم، وإلى الافتقار للعاطفة الاجتماعية، فيتجاهلون معضلات الشأن العام ومطالب الفئات المتضررة.

أما التفكير اليساري في محتواه الإجمالي، فيكاد أن يناقض معظم ما تقدم، إذ يدرك أن التغيير ممكن وضروري لأن العالم قابل للتدخل البشري في شؤونه، وأن الهرميات الاجتماعية ليست قدراً حتمياً بل احتمالاً متاحاً للتعديل أو النقض. فاليساريون تحرريون مساواتيون يمقتون التراتبية غير العادلة ولا يميلون إلى التسليم بالقواعد الاجتماعية المسبقة، وهم أكثر استعداداً للرفض وعدم الطاعة، ويعتقدون أن النظم السياسية لا القدرات الذاتية للأفراد هي المسؤولة عن الحرمان والاعتلالات الاجتماعية. ولذلك تحركهم مشاعر التضامن فينحون إلى مغادرة التمركز الذاتي باتجاه التمركز حول حاجات وحقوق الجماعات الفاقدة كالفقراء والأقليات المُضطهَدة والفئات المُستبعَدة.

هذه المعطيات الامبريقية النفسية يمكن أن تقود بالضرورة إلى افتراض وجود نزعة بشرية يسارية عابرة للبلدان والأقوام، قوامها السعي المنتظم للأفراد والجماعات عبر العصور لتقييد الاستغلال وشهوة رأس المال، ولترسيخ المزيد من مكتسبات العدالة في أطر قيمية وتشريعية؛ فضلاً عن الانتقال التاريخي المستمر في الوعي السياسي للفرد والجماعة من التسليم بسلطة الاستبداد والوصاية إلى التسليم ببديهية الحرية والديمقراطية. وفي مقابل ذلك تقف نزعة بشرية يمينية لاعقلانية، كتيارات التديين السياسي والجماعات الفاشستية والحركات العنصرية والتيارات المحافظة والاعتقادات اليومية القدرية، تتبنى ايديولوجيا سكونية تقوم بالترويج لـ"ضرورة" الانصياع للهرميات السلطوية القائمة دونما مساءلة أو تمرد، والتبرير لمشروعية احتكار الثروة ووسائل الانتاج، والتسويغ لاختلال ميزان الحقوق بين الأفراد وبين الطبقات.

هذه النزعة البشرية الثنائية في التفكير، بمحتواها وبنيتها، توجد لدى الأفراد العاديين في حياتهم اليومية مثلما توجد في الايديولوجيات والأديان وسلوك الحركات السياسية. وهي ليست ثنائية جامدة يُحشر الناس ضمن أحد قطبيها، بل تمثل موشوراً شاسعاً يتوزع الأفراد والجماعات على أطيافه بما يعكس الطابع الجدلي الديناميكي للعقل البشري في تمثلاته الإدراكية والقيمية للعالم.

إلا إن هذه الطيفية الواسعة بين القطبين (أي أصناف متعددة ومتداخلة من اليمين واليسار) لا تتحقق بنسبة فارقة إلا في الأنظمة الاجتماعية المتقدمة التي راكمت تطوراً ديمقراطياً عقلانياً في الثقافة السياسية للناس، يجعلهم يعالجون قضاياهم وأزماتهم بأساليب تفكير متشعبة ومتداخلة في مضامينها وبناها. أما بخلاف ذلك، فتتجه هذه الطيفية إلى التقلص والاختزال وقلة الديناميكية كلما اتجهت الأوضاع السياسية إلى مزيد من الاستقطاب المتطرف بين أطراف الصراع، بسبب غياب أو تغييب القيم الديمقراطية الضامنة لسلطة القانون وفاعلية الدولة وعدالة التوزيع، إذ تميل عناصر الأيديولوجيا السياسية حينها إلى التجمع في معسكرين متضادين دون الحاجة إلى التوزع بين رؤى متعددة بين القطبين، ما دام الحراك السياسي يتجه نحو مواجهة صفرية محتدمة بدلاً من التفاوض لإعادة توزيع عناصر القوة بين الأطراف المتنازعة.

وبالعودة إلى الوضع العراقي الحالي نجده مثالاً حياً لتقلص هذه الطيفية وتجمعها في قطبين متضادين. فبعد جولات انتخابية عديدة في العراق على مدى 18 عاماً كان "يُراد" منها تحقيقُ تقدمٍ في "الانتقال الديمقراطي" الذي يُفترض أنه يستهدف ترشيد التنازع الايديولوجي بين الجماعات السياسية ليكون محمياً بدولة مُمأسسة قانونياً، نجد أن هذه الجولات (ومنها الانتخابات "المبكرة" الأخيرة في تشرين الأول 2021) وما رافقها من تسييس تحاصصي عُنفي للهويات الإثنية، قد أسهمت بتجذير الاستقطاب اليميني- اليساري الموجود أصلاً في المجتمعين السياسي والمدني معاً، على نحوٍ قد يدفع نحو إعادة إنتاج الصراع السياسي وحسمه لاحقاً في الشارع الخام لا في المؤسسات المنضبطة دستورياً.

هذا الاستقطاب نتجَ بالأساس عن إصرار المنظومة الحاكمة على احتكار عناصر القوة السياسية المهيمنة على الدولة الهشة وتخومها طوال حقبة ما بعد 2003 وفقاً لـ"سياسات الهوية" الهادمة لأي مشروع سياسي مضاد، غير أنّ هذا الاستقطاب بات يتخذ وجهة أكثر حدةً بتأثير التفاوض الابتزازي الجاري حالياً بين قوائمها لتشكيل الكتلة "اليمينية" الأكثر عدداً في البرلمان؛ وبالتالي حرمان القوى "اليسارية" الناهضة الجديدة من استثمار أسهمها الاجتماعية في بورصة الدولة على أمل إصلاحها، أي استبعادها عن الناظم الدستوري ودفعها باتجاه البوصلة الثورية.

وإذا كان اليمين العراقي الحاكم يبدو اليوم مُستنفِراً لقواه وخبراته لإعادة إنتاج منظومته القائمة على تسييس الهويات السكانية ضماناً لتغانم الريع، مستخدماً مسميات "الأغلبية السياسية" أو "التوافق السياسي"، فإن اليسار الاجتماعي المعارض بقواه التشرينية والماركسية والمدنية والنقابية لا يبدو متحمساً بالدرجة نفسها لتنظيم أولوياته وتنسيق تحالفاته باتجاه إبراز قطبيته، هذه القطبية المتحققة فعلياً وموضوعياً في الكامن السوسيوسياسي دون أن تصنع لها جسداً ذاتياً منظماً يجاهر بها بعد.

إن مفهومي اليمين واليسار –بكل ما يتحملانه من تأويلات وتداخلات ونسبيات وتعدديات وفرعيات وتبادل بالأدوار- قد عاودا شحذ طاقتهما النظرية عراقياً في اللحظة الراهنة، إذ بات الحراك السياسي يتجه نحو اختزالية قطبية أكثر وضوحاً من أي فترة سابقة ليصبح معبّراً عن مواجهةٍ غير محسومة بعد بين منظومتين سياسيتين ونفسيتين متضادتين: أي قطبية فاسدة محتكرة للسلطة هادمة للوطنية ومتشبثة بتأبيد الماضي عبر تكرار إنتاجه المرة تلو المرة، في مقابل قطبية تحررية مسلوبة الحقوق بانية للوطنية تنشدُ التغيير عبر إعادة توزيع الثروة لترميم صورة المستقبل دون أن يتجذر مشروعها الواعد بعد..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو